Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

عندما ولدت "رابسودي بالأزرق" لجورج غرشوين لمجرد الرد على مقالة صحافية

أسابيع قليلة من العمل ورحلة في قطار للإجابة عن السؤال الحائر: ما الموسيقى الأميركية؟

حين رحل جورج غرشوين عن عالمنا في 1937 كان قد أضحى صاحب شهرة لا تضاهى (غيتي)

لعل من أطرف الحكايات في تاريخ الموسيقى الأميركية تلك التي تتعلق بكتابة الموسيقي جورج غرشوين لواحدة من أشهر قطعه الفنية بعد أوبراه الرائعة "بورغي آند بس"، وهي طبعاً "رابسودي باللون الأزرق" التي تندر المؤرخون دائماً بأنها حافلة بالألوان غير المتناسقة، فهي من الأعمال السوداء لموسيقي أبيض لوّنها بأزرق لا علاقة لها به على الإطلاق، كما أنها سوف تنجب من رحمها قطعة لا تمت إليها بصلة، وسيكتفي الموسيقي بتسميتها "الرابسودي الأخرى" تمييزاً لها عن الأولى، لكن الأطرف من هذا هو أن غرشوين لم يكن ينوي كتابة تلك القطعة على الإطلاق، لا لشيء إلا لأنه كان في ذلك الحين منهمكاً في إنجاز عمل أوبرالي من فصل واحد هو "بلو مانداي" أي يوم "الإثنين الأزرق". كان ذلك عند بدايات العقد الثالث من القرن الـ 20، والذي حدث أن قائد الأوركسترا الشهير حينها بول وايتمان حقق نجاحاً كبيراً عبر حفلات عدة غنت فيها السوبرانو الكندية إيفا غوتييه، وكان من بين ما غنته ألحان لغرشوين نالت إعجاب الجمهور، فأراد أن يعيد الكرة واتصل بالموسيقي، لكن هذا اعتذر على الفور.

بحثاً عن موسيقى أميركية

بعد ذلك حدث أنه فيما كان جورج وأخوه آيرا يناقشان أعمالهما المشتركة، قرأ آيرا مقالة في صحيفة "نيويورك تريبيون" بعنوان "هل هناك حقاً موسيقى أميركية؟"، ولفت نظره أن وايتمان نفسه هو كاتب المقالة وأنه ختمها بالتأكيد على أن ثمة "بالفعل موسيقى أميركية تجمع بين الجاز الذي يبدعه السود والموسيقى الكلاسيكية المتحدرة من أصول أوروبية"، مختتماً مقالته بوعد قاطع للقراء بأنهم "قريباً سيتعرفون على عمل من هذا الصنف، مغرق في أميركيته التوليفية هذه، وسينجزه عما قريب الموسيقي الأبيض جورج غرشوين".

وحين نقل الأخ لأخيه جورج فحوى المقالة دهش الأخير، ووجد أن ليس بإمكانه الآن التراجع، فصديقه قائد الأوركسترا وعد القراء "ووعد الحر دين" بالطبع، وهكذا انزوى الموسيقي أمام آلة البيانو وبين أوراقه وأقلامه، وراح يدون ما بدأت عبقريته الموسيقية تمليه عليه، علماً أن بداية العمل الذي لم يستغرق سوى أسابيع قليلة إنما كانت في قطار بوسطن – نيويورك، وكان طبيعياً أن يكون إيقاع حركة القطار منطلق هذا العمل الموسيقي ككل، حتى وإن كان غرشوين سيحدث لاحقاً في تلك البداية تعديلات لا بأس بها.

المهم في الأمر هنا أن تلك القطعة التي أُنجزت على ذلك النحو سرعان ما قدمت للمرة الأولى يوم الـ 12 من فبراير (شباط) من العام نفسه لتعتبر على الرغم من كثرة مناوئيها أول الأمر نقطة انعطافية في تاريخ الموسيقى الأميركية، بل تجديداً في مفهوم موسيقى الجاز أتى من حيث لا يتوقع أحد، بل وتجديدات عدة في وقت واحد.

مساهمات بيضاء

لئن كان معروفاً أن موسيقى الجاز بدأت بشكل حصري بوصفها نوعاً فنياً من ابتكار السود الأميركيين الذين اختصوا بها وكتبوا لها أجمل الألحان والأغنيات، جاعلينها موسيقى القرن الـ 20 من دون منازع، فإن الأمر لم يخل من موسيقيين بيض أسهموا بدورهم في إعلاء شأن تلك الموسيقى ومدوها بأجمل أعمالهم وألحانهم، فكانوا في ذلك عند مستويات لا تقل بأية حال عن المستويات التي وصل إليها كبار موسيقيي الجاز الزنوج (أو الأفارقة الأميركيين لكي نستعمل تعبيراً أكثر حداثة وعدلاً).

ومنذ ذلك الزمن بات جورج غرشوين، وغالباً في عمله مع أخيه آيرا، من بين الموسيقيين الكبار الذين أسهموا في بعث الجاز، وواحداً من الأسماء الأولى التي تخطر في البال حين يذكر هذا الأمر، على الرغم من أن أعمال الرجل كانت من التنوع بحيث شملت الكلاسيكيات والجاز والموسيقى الراقصة الحديثة، وتواكبت في آن معاً مع بروز الكوميديات الموسيقية على المسرح والشاشة الكبيرة، بشكل جعل غرشوين يعتبر إلى حد كبير أبرز المؤلفين الموسيقيين الأميركيين في القرن الـ 20، وأكثرهم خصباً وتنوعاً بشكل عام.

حياة متواضعة مع السود

ولد جورج غرشوين عام 1898 في بروكلين، وإن كان سيحلو للسينمائي الأميركي الكبير وودي آلن أن يخلده في ثنايا فيلمه الشهير الذي كرسه لمنطقة مانهاتن، وتحدر غرشوين من أسرة شديدة التواضع عاشت في جيرة مثمرة مع السود في ذلك الحي النيويوركي الفقير، ومنذ طفولته وجراء اختلاطه برفاقه السود وإعجابه بموسيقاهم، وجد غرشوين نفسه يتجه إلى درس الموسيقى، إذ اضطر إلى ممارسة مهن متواضعة عدة حتى يحصل على ما يكفيه من المال الذي يمكنه من تلك الدراسة، وكانت تضحياته في ذلك المجال مثمرة، فنراه ولما يبلغ الـ 18 من عمره ينشر أول قطعة من تأليفه، وكانت عبارة عن أغنية شعبية.

غير أنه لم يكتف، بالطبع، بذلك المجد الباكر، فما إن مضت على ذلك ثلاث سنوات، وكان قد أضحى في الـ 22، حتى وضع أول ملهاة موسيقية من تأليفه وعنوانها "لا لا لوسيلي"، وكانت عملاً لا بأس به في مقاييس ذلك الزمن، ومع هذا كان على جورج غرشوىن أن ينتظر بعض الوقت قبل أن يحقق ما كان بحاجة إليه من الشهرة والمكانة عبر أغنية شعبية ثالثة كتبها وهي "سواني" التي بيع منها فور ظهورها أكثر من مليون نسخة.

إلى "هوليوود"

اعتباراً من تلك اللحظة صار في وسع غرشوين أن يكرس وقته وطاقته لموسيقى الجاز التي كانت هواه الأول والأخير، وهكذا نراه بعد سنوات من كتابة "رابسودي باللون الأزرق" يعود لكتابة رابسودي ثانية لا علاقة لها بالأولى تحت اسم "الرابسودي الأخرى" وكان ذلك عام 1931.

ولهذه القطعة حكاية تختلف تماماً عن حكاية الأولى وإن اعتبرها بعضهم استكمالاً لها، فبعد سبعة أعوام من ولادة الرابسودي الأولى دعي غرشوين إلى هوليوود لكتابة موسيقى فيلم عنوانه "ديليسيوس"، لكنه حين أنجز العمل وشاهد الفيلم اكتشف أن صنّاعه لم يستخدموا سوى نزر يسير من موسيقاه، وهنا فبدلاً من أن يغضب حوّل ما اشتغل عليه إلى لحن من نوع الـ "كونشرتو" يمتد لـ 14 دقيقة.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وكما كان النجاح حليف القطعة الأولى حققت الثانية نجاحاً مماثلاً إلى حد ما، والأهم من ذلك أن غرشوين منذ ذلك الحين لم يعد عليه أن يقلق بسبب وضعه المالي، إذ إن ذينك العملين والأغنيات الشعبية الأخرى راحت تدر عليه أرباحاً تمكنه من التفرغ تماماً لفنه وكتابة أعماله الكبيرة التالية، ومع هذا لابد من أن نذكر هنا أن نجاح غرشوين في أميركا لم يواكبه، أول الأمر، أي نجاح في أوروبا، حيث إن جمهور مهرجان لندن وقف يصفر لغرشوين بدلاً من أن يصفق له في 1930، حين قدم عمله الكبير التالي "أميركي في باريس"، الذي ألفه قبل ذلك بثلاثة أعوام، ويبدو أن عدوى الصفير انتقلت بسرعة إلى الولايات المتحدة نفسها لتدفع غرشوين إلى نوع من فقدان الثقة باختياراته، ولكن لفترة محدودة انتهت في بوسطن العام 1935، حيث أقيم العرض الأول لرائعته "بورغي آند بس" وهي مسرحية غنائية مقتبسة عن "روميو وجولييت" لشكسبير، وتدور أحداثها في أوساط السود الأميركيين.

شهرة لا تضاهى

انتقل غرشوين على أثر ذلك إلى "هوليوود" حيث بدأت أغانيه ومقطوعاته تغزو الأفلام، وبدأ يحقق نجاحاً يختلف بعض الشيء عن نجاحه الأول، وهو حين رحل عن عالمنا، صيف العام 1937، كان أضحى صاحب شهرة لا تضاهى، زادت السينما من اتساعها، وخلّف وراءه العديد من الكوميديات الموسيقية والأغنيات الشعبية التي كان أخوه يكتب معظم كلماتها.

أما العمل الأكبر الذي كتبه خلال السنوات الأخيرة من حياته فكان "كونشرتو للبيانو والأوركسترا" فلا يزال يعزف بكثرة حتى الآن، ومع هذا فإن ما يبقى خالداً من أعمال غرشوين إنما هي كوميدياته الموسيقية وعلى رأسها "بورغي آند بس" التي تحولت إلى فيلم مميز، و"رابسودي باللون الأزرق"، وكذلك أغنياته الشهيرة مثل "الوجه المضحك" و"فتاة مجنونة" و"اغفر لي إنجليزيتي" و"الفتاة الكنز" وجميعها من كلاسيكيات الأغنية الأميركية التي تجعل ذِكر غرشوين لا يغيب، وكأنه لا يزال حياً حتى الآن.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة