Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

طبول حرب مشبوهة حول باكالوريا "تخصص فنون" في الجزائر

كل عداء للفنون على اختلاف حساسياتها هو حفر قبر لكل استثمار سياسي ديمقراطي أو اقتصادي أو اجتماعي

تموت المواهب في مختلف الفنون بالعالم العربي بسبب منظوماتنا الثقافية (أ ف ب)

هجوم كبير وشرس يشنه أنصار الإسلام السياسي المتشدد والقوى التقليدية المتعصبة على مشروع الحكومة الجزائرية المتمثل في إنشاء تخصص جديد في امتحان الباكالوريا، وهو تخصص "باكالوريا الفنون". هذا المشروع قدّمته وزارة التربية الوطنية بالتنسيق والتعاون والتشاور مع وزارة الثقافة والفنون. حرب دعائية على كل جبهات وسائل التواصل الاجتماعي وغيرها تقودها شبه ميليشيات منظمة بزعامة تنظيم سياسي لا يكشف عن اسمه بوضوح، لكن مفردات المرجعيات الأيديولوجية التي يستند إليها هذا الخطاب العدائي تبيّن بشكل واضح من يقف وراء ذلك.

هل يعلمون؟

الثقافة والفنون استثمار أساسي في العالم العربي وشمال أفريقيا لو توافرت الظروف لذلك، وأولها التخطيط المحكم والحرية الفكرية وحرية الرأي وانفتاح المجتمع على الآخر، بعيداً من النفاق والحلم الكاذب بإقامة مجتمع "صافٍ"، وفي الوقت ذاته تصاعد "الحلم" الانتحاري بالهروب للعيش عند هذا الآخر.

الفنون بكل تفرعاتها قادرة أن تكون كنزاً لا يقدر بثمن لو أننا فهمنا دوره والسبل للوصول إليه، وكذا القدرة على احترام جنوده من الفنانين منتجي القيم الفكرية والرمزية، بالتالي الاقتصادية الكبيرة.

الفنون لو أنها وجدت مكانتها الطبيعية في مجتمعاتنا، فهي قادرة أن تكون مجالاً لاستيعاب الملايين من اليد العاملة المتخصصة والعامة في كل الميادين: في الهندسة المعمارية، في تنضيد الحدائق، في السياحة، في الفندقة، في أروقة الفنون التشكيلية، في الموسيقى، في الفولكلور، في المحافظة على التراث الرمزي اللامادي، في الكتاب، في السينما، في المسرح، في فن التصاميم، في فن الخياطة، في فن عرض الأزياء، في فن الطبخ، في الرقص، في فن ترتيب الزهور وفي فن الاسترجاع...

الدفاع عن الفنون هو الدفاع عن التوازن في الحياة الاجتماعية، فكل مجتمع يفتقر إلى الفنون يغلب عليه العنف والعنصرية والكراهية والخوف من الآخر. الفنون ليست ضد الأخلاق، بل بالعكس، الفنون هي العامل الذي يهذّب الأخلاق السامية، ويعيد الإنسان إلى إنسانيته من خلال علاقة متوازنة مع محيطه البشري والاجتماعي والإيكولوجي والحيواني.

كم من المواهب الفنية العظيمة في مختلف الفنون تموت يومياً في العالم العربي وفي العالم الإسلامي لا لشيء، إلا لأن منظوماتنا التربوية والتعليمية والجامعية والثقافية لا تولي أهمية لولادة هذه الموهبة أو تلك، مدارسنا وجامعاتنا مقابر مفتوحة تردم في صمتها القاتل يومياً مئات بل آلاف المواهب في كل الفنون، في الموسيقى والتمثيل والفن التشكيلي والشعر والرقص والرواية والخياطة الفنية وما إلى ذلك.         

رعاية الفنون والفنانين واكتشاف المواهب الجديدة ومرافقتها لا تكون إلا في ظل نظام سياسي يدرك سلطة الفن ويدرك قوة أعداء الفن أيضاً، ويقف إلى جانب الفن من دون تردد، لكن هذا لن يحصل إلا إذا كان النظام السياسي ديمقراطياً، يحترم ويدافع عن الحرية الفردية التي هي أساسية في الإبداع.

"الشعبوية السياسية"، دينية كانت أو وطنية، التي تنتهجها غالبية الأنظمة العربية والإسلامية والهادفة وَهْماً إلى إرضاء الغالبية من "الغوغاء"، بهدف شراء السلم الاجتماعي الزائف والموسمي، هذه الشعبوية هي أكبر عدو لحياة ولتطور ولرعاية الفنون والفنانين.

لا يمكن لأي استثمار اقتصادي أو مالي تحقيق النجاح المرجو، محلياً كان هذا الاستثمار أو أجنبياً، إلا إذا كان المجتمع الذي يتم فيه هذا الاستثمار يحترم الفنون ويقدرها، وأن للفرد الذي يكوّن المجموعة الاجتماعية نصيباً منه وفيه.

الاستثمار الرأسمالي الاقتصادي والمالي يترعرع ويحافظ على صحته الجيدة وتوازنه الديمومي في المجتمعات التي فيها حياة فنية وثقافية منتعشة ومتوازنة ومفتوحة على جميع قيم الخير الإنسانية.

كل عداء للفنون على اختلاف حساسياتها هو حفر قبر لكل استثمار سياسي ديمقراطي أو اقتصادي أو اجتماعي، بالتالي تكريس الثيوقراطية الدينية أو الديكتاتورية العسكرية. وأمام هذا الفراغ الفني، سينمو المواطن داخل مؤسسات مهما كانت تسميتها وشعاراتها في الاستلاب والخوف والغباء.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

إن الحرب على الفنون في الجزائر المستقلة ليست جديدة، فالمدرسة الجزائرية عرفت حرباً منظمة ضد الفنون والثقافة في رحابها قبل أن يظهر هذا المشروع الجديد "باكالوريا تخصص فنون"، فمنذ صعود تيار الإسلام السياسي المتعصب بداية السبعينيات، ومع بداية زحف الإخوان المسلمين على المدرسة وإحكام قبضتهم عليها بشكل مخيف لاحقاً، بدأت محاربة المواد الفنية التي كانت تُدرّس بانسجام واحترام ضمن مواد التكوين العادية كالموسيقى والفنون التشكيلية، باعتبارها، في رأيهم، المواد التي "تفسد" الأخلاق، وتضر بتربية التلميذ وتلهيه عن دينه وعن تراثه وعن دروسه، بل وصلت هذه الحروب إلى اقتلاع الكتاب الثقافي من الفضاء المدرسي، فقد حورب الكتاب من المدارس والثانويات. وجراء هذه الحرب المعلنة تارة والمستترة تارة أخرى، وتحت عيون السلطة المركزية والمحلية على السواء، تحولت كثير من المكتبات وقاعات أوراش تدريس الفنون التشكيلية والموسيقية وحتى قاعات الرقص الاحترافي التي كانت موجودة في بعض المدن، تحولت إلى مصلّيات عشوائية، تقوم بالدعاية الأيديولوجية لهذا التيار السياسي الغريب عن الإسلام في الجزائر تارة ضد "الاشتراكية" باعتبارها كفراً وتارة ضد الرأسمالية (فرنسا وأميركا)، باعتبارها بؤرة لتصدير الأخلاق الفاسدة التي تهدد الشخصية الوطنية، بالتالي الدعوة إلى "التقوقع" و"التعصب" و"كراهية الآخر".

ليس غريباً أن تشن ميليشيات الإسلام السياسي وانكشارية التعصب والتطرف مثل هذه الحروب بالنيابة عن حزب سياسي لا يريد أن يرفع يافطته بوضوح، تكفي العودة إلى سنوات العشرية السوداء الدموية "1990-2000" لنكتشف ما عاشه الفنان الجزائري من فصول الجحيم اليومي، وما عرفه من اغتيالات طالت المسرحيين والموسيقيين والمغنين والكتاب والمفكرين (نذكر من بينهم عبد القادر علولة، عز الدين مجوبي، الشاب حسني، الشاب عزيز، رشيد بابا أحمد، الطاهر جاووت، محمد الصالح باوية، بختي بن عودة وجمال زعيتر...)، كما تمت هجرة الآلاف من الفنانين إلى بقاع الدنيا، حفاظاً عن أرواحهم وأرواح أسرهم.

إن حملة "مناهضة" باكالوريا "تخصص فنون" تذكرنا في شعاراتها وغضبها وعنفها ببعض ما كانت تتضمنه خطابات العشرية السوداء بما حملته من دعوات لكراهية الفن والفنانين والدعوة إلى تصفيتهم، وبما فيها أيضاً من رفض للحريات الخاصة والعامة، وبما فيها من دعوة لتغريق الجزائر في عزلة عن العالم، كي يسهل عليهم ابتلاعها.

إن لهذا الهجوم خلفية وتفسيراً سياسياً وأيديولوجياً، فقوى التعصب التي تستند إلى الإسلام السياسي المتشدد، تخاف من الفن ومن الثقافة بشكل عام، لأنها الطريق إلى تربية سليمة متسامحة وقادرة على توفير ظروف العيش المشترك مع الآخر بسلام وتعاون واحترام، في ظل احترام الخصوصيات والاختلاف والتكامل.

كلما كانت للفنون مكانة حقيقية في المجتمع، كان المجتمع صادقاً، وقلّت فيه ثقافة النفاق وتعممت ثقافة المسؤولية والشفافية في السلوك السياسي وفي المعاملات الاجتماعية وفي الاختيارات، وهو ما يزعج التيارات المتشددة ويجرّدها من "سلاحها" الوحيد الذي هو "التهديد" و"التعصب" و"الاغتيالات" المباشرة أو غير المباشرة.

الدرس الكبير

في الوقت الذي تتحرر كثير من الدول العربية والإسلامية من مخلفات الإسلام السياسي المتشدد على المستوى التعليمي والاجتماعي والثقافي والفني، كما هو الشأن في  السعودية والإمارات العربية، وهي المنطقة التي ظلت تعاني من ثقل هذا الإسلام السياسي المتشدد الذي ما فتئ يثير الصراع والتفرقة بين مسلمي البلد الواحد، ها هي هذه البلدان وبعد قراءة لمسارها ومراجعة أسباب أعطابها، تنفتح بكثير من الثقة والأريحية على الحياة الثقافية والفنية المحلية والعربية والعالمية باستثمارها في السينما والمسرح والموسيقى والمتاحف، لتتحوّل الفنون إلى واحدة من الأساسيات التي تجمع المجتمع الجديد في هذه البلدان التي تدخل بثقة في دورة اقتصادات العالم المادية والثقافية من خلال خصوصياتها.

أن تباع نحو ستة ملايين بطاقة دخول إلى قاعات السينما في السعودية خلال عام 2021، على الرغم من أنها كانت سنة الجائحة وما تبعها من تشدد في الحركة والحياة العامة والتضييق على الفضاءات العمومية، هذا يدل على أننا أمام مرحلة جديدة لصناعة إنسان جديد من خلال الفن في بلد كان قبل عشرية منغلقاً على نفسه.

على الدولة الجزائرية اليوم ألّا ترضخ لمثل هذه الأصوات النشاز والخارجة عن مجرى التاريخ الإنساني، وألا تتنازل عن مثل هذا الاختيار المتمثل في "الباكالوريا تخصص فنون" لأنه اختيار، إذا ما تم احترام أصوله، سيضع جيلاً جديداً أمام عتبة جديدة لحلم جديد، والبلاد بحاجة إلى ذلك.

ختاماً أيها السادة، أمام هذا الهجوم الذي تشنه قوى التعصب باسم الدين السياسي تارة، وباسم حراسة الأخلاق المشبوهة تارة أخرى، أدعو الدولة الجزائرية إلى الإسراع في تأسيس "أكاديمية الفنون والآداب" التي بإمكانها أن تكون مؤسسة أكاديمية قادرة على تقديم قراءة موضوعية وعالمة عن دور الآداب والفنون في صناعة قوة الشعوب وإبراز عبقريتها في هذا الزمن الصعب.

اقرأ المزيد

المزيد من آراء