بعد عام من التأجيل بسبب وباء كورونا افتُتحت الدورة التاسعة والخمسون لبينالي البندقية بمشاركة أكثر من 200 فنان وفنانة من 58 دولة، ويستمر عرض الأعمال المشاركة حتى نهاية نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل. اتخذت دورة البينالي الحالية عنوانها من كتاب "حليب الأحلام" للفنانة السريالية والكاتبة المكسيكية ليونورا كارينغتون، وهو كتاب يضم مجموعة من القصص القصيرة والرسوم السريالية. في بيانها الافتتاحي أوضحت قيمة الدورة الحالية سيسيليا أليماني أن فلسفة العرض وعنوانه المستلهم من عمل الفنانة والكاتبة المكسيكية يحرضاننا على تصور العالم بعيون مختلفة؛ تصور لا يقل خيالاً وجموحاً عن تصورات كارينغتون. وكان بيان البينالي قد حرض الفنانين المشاركين على نحو مباشر على تجاوز المركزية الغربية وتبعاتها والتطرق إلى محاور تمس المصير المشترك للبشرية، في ظل التحديات التي تواجهها.
نستعرض هنا أعمالاً لستة فنانين شاركوا في هذه الدورة بدعوات فردية من لبنان وتونس والسودان وفلسطين، خلافاً للفنانة الجزائرية زينب سديرة التي مثلت الجناح الفرنسي بعمل قوبل باستحسان وإشادة واسعة من لجنة التحكيم.
مخلوقات أسطورية
على رأس هؤلاء المشاركين العرب يبرز الفنان اللبناني علي شيري. يأتي تميز شيري هنا نظراً إلى حصوله على جائزة الأسد الفضي، التي تُمنح لأفضل فنان واعد. تمثلت مشاركة الفنان اللبناني بمجموعة من المنحوتات الطينية التي تتخذ شكلاً هجيناً بين الإنسان والحيوان. استلهم شيري معالجاته النحتية تلك كما يقول، من المنحوتات الأشورية القديمة، ما يمثل استحضاراً مباشراً وقوياً للفكرة التي تقوم عليها هذه الدورة. إلى جانب هذه المنحوتات شارك علي شيري كذلك بعمل آخر عبارة عن شريط فيديو تم عرضه على ثلاث شاشات تحت عنوان "الرجال والآلهة والطين". في هذا الفيديو يتتبع الفنان تاريخ بناء سد مروى، أحد أكبر السدود في أفريقيا والمقام على النيل في شمال السودان، وهو يتخيل السد هنا كبوابة لعالم خيالي. في هذا الفيديو يقضي صانع الطوب أيامه تحت أشعة الشمس الحارقة، وهو يؤدي عمله المرهق المتمثل في تشكيل الطوب من الطين. في الليل يبني صانع الطوب بالسر هيكلاً من الطين والخردة يتحول في النهاية إلى مخلوق أسطوري مخيف. يستعيد العمل الدمار الذي أحدثه بناء هذا السد والذي أدى بناؤه إلى التهجير القسري لآلاف العائلات في المناطق المحيطة. يربط شيري هذه التصورات البصرية الخيالية مع الأساطير والتاريخ والأحداث المعاصرة. تتنوع ممارسات علي شيري بين وسائط فنية مختلفة من الأفلام والفيديو والتركيب والرسم والأداء وهو من مواليد عام 1976 ويعمل بين بيروت وباريس.
ومن لبنان كذلك تأتي مشاركة الفنانة اللبنانية البارزة سيمون فتال، التي يُعرض لها مجموعة من أعمالها النحتية، هذه الأعمال التي تبدو كأنها خارجة لتوها من موقع أثري قديم. في هذه الأعمال التي صنعت خصيصاً للعرض في بينالي البندقية تقدم فتال تركيباً نحتياً يمثل آدم وحواء، إلى جانب قالب برونزي لإحدى منحوتاتها الخزفية الأولى. تجسد هذه الأعمال التي تشارك بها فتال السمات العامة لمعالجاتها النحتية؛ هذه المعالجات التي تتميز بتوظيف الحد الأدنى من التفاصيل.
"ما وراء القناع"
ومن السودان شارك الفنان والشاعر المخضرم إبراهيم الصالحي بعمل تحت عنوان "ما وراء القناع" ، وهو عمل يتكون من مجموعة من الرسوم الصغيرة على الورق، وهي رسوم تجمع بين الخط العربي والزخارف السودانية. يُعد الصالحي من مؤسسي مدرسة الخرطوم، وهي مجموعة فنية تميزت باهتمامها باستكشاف التراث الجمالي السوداني، وهو من مواليد عام 1930. ومن تونس تشارك الفنانة البارزة صفية فرحات، وهي تجمع في أعمالها بين الفن والتصميم والحرفة الممثلة في النسيج والرسم على الأقمشة. تعد فرحات من أوائل النساء اللاتي التحقن بالدراسة في معهد الفنون الجميلة في تونس بعد الاستقلال. ومن فلسطين تشارك الفنانة نور أبو عرفة بعمل فيديو مدته 15 دقيقة. يمثل العمل جزءاً من مشروع ممتد يستطلع أوجه التشابه بين المتاحف وحدائق الحيوان والمقابر كمستودعات للحفظ والعرض. تتضمن المشاهد لقطات من حدائق الحيوانات ومتاحف التاريخ الطبيعي في كل من فلسطين وسويسرا ومصر.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وتأتي المشاركة العربية الأخيرة من خلال التمثيل الرسمي الفرنسي، إذ مثلت الجناح الفرنسي هذا العام الفنانة الجزائرية الفرنسية زينب سديرة، التي حظيت بإشادة خاصة لأعمالها من قبل اللجنة المنظمة. تعتمد سديرة في عملها التجهيزي "الأحلام ليس لها عنوان" على مفردات الثقافة الجزائرية، مع ربطها بعناصر تبدو ذاتية. يحتوي العرض على مقاطع فيديو وصور فوتوغرافية وتجهيزات مختلفة. يركز عمل سديرة على التحولات الاجتماعية والثقافية والسياسية على الصعيد الجزائري بعد فترة الاستقلال وتأثير فترة الاستعمار وتبعاتها على طبيعة العلاقة بين الجزائر وفرنسا. ألغت الفنانة في عملها المتعدد الوسائط، الحدود بين الخيالي والواقعي، وبين الذاكرة الجماعية والشخصية، وقد أنجز هذا العمل بالتعاون مع الجزائرية ياسمين ريجاد والثنائي تيل فيلراث من ألمانيا واللبناني سام بردويل.