Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

توني موريسون تنصر شكسبير على الضد من "نسويات" القرن العشرين

"مشروع دزدمونة" الذي حول بطلة "عطيل" من داخل قبرها إلى بطلة عرض غنائي

توني موريسون (1931 - 2019) (أ.ف.ب)

خلال الذروة الفكرية والنضالية التي بلغتها الحركات النسوية في أنحاء عديدة من العالم خلال الثلث الأخير من القرن العشرين، كان شكسبير من بين عدد من عمالقة فكر وإبداع آخرين، هدفاً للمعارك التي خاضتها تلك الحركات ضد الهيمنة الذكورية في عالم الأفكار، إلى جانب هيغل وغيره من مفكرين "لم يعاملوا المرأة وتاريخها كما ينبغي". ومن عاش تلك المرحلة وانخرط فيها يتذكر ربما كيف تركز "الهجوم" على شكسبير مقابل رسمه للشخصيتين الأكثر وضوحاً في كونهما ضحيتين في مسرحياته، أوفيليا حبيبة هاملت، بخاصة دزدمونة (ديدمونة في تحريف عربي من الصعب إيجاد مبرر له ما يوازي التحريف العربي لاسم أوتيلو!). والحقيقة أن تلك السجالات العنيفة كان لا بد لها يوماً من أن تعثر على أصدائها وتحديداً لدى الكاتبة الأميركية توني موريسون، الروائية السوداء الوحيدة التي فازت بجائزة نوبل الأدبية حتى اليوم.

شرط مستجاب

فموريسون معروفة بخوضها مسألة المرأة، والمرأة من أصول أفريقية بشكل خاص، وذلك في العدد الأكبر من رواياتها. وها هي هنا تدنو من الموضوع نفسه خلال المرحلة الأخيرة من حياتها وبالتأكيد كرد فعل عملي، وإبداعي، على سجال دار يوماً بينها وبين المخرج المسرحي الطليعي بيتر سيلار عند نهايات القرن السابق، حين دار الحديث بينهما عن مسرحية "عطيل"، بالتالي عن شخصية دزدمونة، فأخبر سيلار الكاتبة بأنه أبداً لم يستسغ تلك الشخصية ولو يحب المسرحية فهو يراها مفتعلة وتخلو من أي منطق، معلناً دهشته من كونها قد "عاشت كل تلك القرون الطويلة على الرغم من خوائها". يومها وانطلاقاً من احتدام السجال بين موريسون وسيلار عرضت الكاتبة على المسرحي أن يخوضا شرطاً في ما بينهما: تحضّر هي عرضاً معاصراً جداً يقوم على أساس تلك الشخصية وموقعها في الفكر والإبداع، ويعيد هو قراءة المسرحية عملياً، أن يخرجها إخراجاً مسرحياً جديداً وطليعياً على طريقته، ويعلن من خلال الإخراج موقفه منها. وبالفعل ما إن حل عام 2009 حتى حقق سيلار عرضاً مسرحياً ضخماً امتد طوال أربع ساعات عالج فيه المسرحية وشخصية بطلتها بأسلوب مستقبلي ينهل من أحدث التجديدات التكنولوجية. ويومها قام بدور عطيل الممثل القدير المنتحر بعد ذلك فيليب سيمور هوفمان. صحيح أن مسرحية سيلار أثارت سجالات في عروضها الأوروبية واستهزاءً في عروضها الأميركية، لكنها حركت موريسون كي تستعيد حصتها من المشروع.

4 ساعات للدفاع عن الضحية

وهكذا ولد في نهاية عام 2011 العرض المعنون "مشروع دزدمونا". وكان لافتاً أن العرض العالمي الأول لذلك "المشروع" كان في مدينة نانتير إلى الغرب من باريس، وأتى على شكل عرض مسرحي تفاعلي غلب عليه الطابع الموسيقي والغنائي، وأتى بدوره في نحو أربع ساعات ومن إخراج... بيتر سيلار نفسه! أما اللافت أكثر من ذلك فكان الأسلوب الموارب الذي دنت به صاحبة "محبوبة" و"جاز" من موضوعها. فهي في النهاية إنما شاءت أن تجعل عرضها نوعاً من الحوار بين امرأتين إحداهما تطل من وراء قبرها، وهي بالطبع دزدمونا التي تحكي هنا حكايتها متوجهة إلى محاورتها باربارا (المسماة هنا باربري في إشارة إلى كونها سوداء أفريقية هي الأخرى مثل سيدتها المغدورة امرأة عطيل). وباربارا (باربري) هي في الأصل وصيفة دزدمونا. والحوار الذي يدور بينهما يلتقطه العرض من خلال عبارات تأتي في المسرحية الأصلية عند نهاية الفصل الرابع حين تذعن دزدمونا لفكرة أن عليها الآن أن تموت لمجرد أن "تكفر عن خيانة لم ترتكبها" (وفي الحقيقة وكما يأتي في الحوار لدى موريسون بين باربري ودزدمونا: عن خطيئة أخرى، بل خطيئة مزدوجة ارتكبتها بالفعل وتتمثل في كونها في آن معاً امرأة وأفريقية سوداء). ومن الواضح هنا أن توني موريسون عرفت كيف تستحوذ على المسرحية الشكسبيرية لتضمها إلى مخزونها الفكري الخاص بها.

امرأة أفريقية سوداء

والمخزون الذي نشير إليه هنا هو بالطبع ذاك الذي اشتغلت موريسون معبرة عنه كما أشرنا في أعمالها جميعاً: الدفاع عن المرأة كياناً وفكراً ووجوداً، على الضد من مجتمع يعاقبها بشكل متواصل لمجرد أنها إمرأة، ثم يعاقبها مرة أخرى وبشكل ربما يكون أكثر قسوة، لكونها امرأة سوداء، أفريقية. ولئن كان هذا الواقع الأخير لايمكن العثور عليه لدى شكسبير، نعرف أن شاعر الإنجليز الأكبر ضم إلى أجواء مسرحيته، وعند ذلك المستوى من أحداثها بالذات، تلك الأغنية الشهيرة في التراث الإنجليزي "أغنية الصفصاف" التي لا بأس من التذكير هنا بأن أوفيليا تغنيها أيضاً في موقف غير بعيد عن موقف دزدمونة في مسرحية "هاملت"، وبذلك تكتمل هنا دائرة "مونولوغ" ثلاثي هذه المرة تقفز فيه أمام أنظارنا وأسماعنا ثلاث نساء يقترح عرض موريسون علينا أنهن لسن في نهاية الأمر سوى امرأة واحدة: الأنثى الأبدية وهي تواجه مجتمع الذكور الذي يعطي هؤلاء حقاً في حياتها وموتها. والتفاعل بين المرأة الواحدة والنساء الثلاث هو ما يعطي توني موريسون هنا إمكانية جر عرضها كله إلى لعبة مرايا تتطابق مع ما تفعله عادة في رواياتها، حيث تكون المجابهة في أغلب الأحيان ليس بين المرأة والذكور، بل حتى ليس بين المرأة والمجتمع الذي يرجح كفة هؤلاء الذكور عليها، بل بين المرأة وذاتها.

الصفصاف الباكي

وهكذا من خلال "الحوار" التفاعلي الذي تقيمه موريسون في عرضها بين دزدمونة وباربري وأوفيليا نجدنا في قلب الإشكالية الموريسونية. ولكن هذه المرة في لعبة غنائية تبادلية عرف المخرج سيلار كيف يستحوذ هو الآخر على عناصرها المكونة ليضم هذا العمل الجديد إلى مخزونه معلناً أنه عرف هنا كيف "يحب" دزدمونة وما تعنيه، لمرة في حياته. وهو لم يفته في السياق أن يشير إلى المعنى الذي حملته دلالة شجرة الصفصاف (المشهورة في علم النبات الفرنسي باسمها: الصفصافة الباكية)، وقد أدرك مغزى إدخال شكسبير للأغنية في مسرحيته، عند ذلك المستوى من أحداثها تحديداً. والحقيقة أن توني موريسون تبدو هنا وكأنها أمعنت إلى أبعد الحدود في الاشتغال على هذه الأغنية، ولكن أيضاً على لعبة المرايا، لا سيما بين دزدمونة وبين باربري التي أضحت معها كياناً واحداً على الخشبة حتى وإن كان يغمرنا حضور باربري أكثر مما يفعل الحضور الافتراضي (من وراء القبر كما أشرنا غير مرة أعلاه) لدزدمونة، دون أن يفوتنا هنا أن للاثنتين صوتاً واحداً هو في الحقيقة صوت المغنية المالية الشهيرة رقية تراوري (حتى ولو تعددت الأصوات المؤدية، فهذا التعدد إنما هو تقني لا أكثر!)، التي تضيء العرض كله ليس فقط بصوتها، بل بحضورها الجسدي الأبنوسي أيضاً. هي التي تتحول هنا إلى مرضعة لدزدمونة، ولكن أيضاً إلى تلك التي علمتها الغناء وتحدثنا بين الحين والآخر، حديث العارفة عن عطيل وطفولة دزدمونة وأمها.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

إنقاذ سمعة شكسبير

ومن الواضح هنا أن هذا التدخل، ولنقل كذلك التداخل، بين الشخصيتين يؤمن لدزدمونة (مباشرة أو مواربة من خلال باربري) حضوراً طاغياً على عكس ما يحدث في المسرحية الشكسبيرية الأصلية، حيث من الواضح أن شكبير لا يبدو شديد المبالاة بامرأة بطله. إنه يريد أن يتحدث عن هذا "البطل" لا أكثر هو لئن كان يدين ما يقترفه عطيل من "حماقة"، فإن عرض توني موريسون ينحو في مسار آخر: مسار يركز على ما يصيب دزدمونة، غير مبال أكثر من اللازم بمشكلة عطيل. عطيل ليس هو البطل هنا بل المرأة هي البطلة. بل حتى يمكننا القول أن ثمة لحظات في العرض نشعر فيها وكأن هذا يجعل من البطلة نفسها هدفاً لاتهاماته، في تفسير لاشكسبيري لما يريد شكسبير قوله. ولعل من الجدير بالذكر هنا هو أن موريسون حين تعطي الحوارات الغنائية أو النثرية الأساسية لباربري أكثر مما تعطيها لسيدتها، إنما تمارس لعبة مقلوبة لا تخلو من جرأة ومهارة ممعنة في الاستحواذ على موضوع أرادت منه، أولاً وأخيراً، أن يخدم خطابها الدائم. ويقيناً أنها نجحت في ذلك، بل تمكنت أيضاً أن تنقذ شكسبير، ورغم أنفه تحديداً، من براثن نسويات الأزمنة الحديثة.

المزيد من ثقافة