Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

التونسيون يحتجون على عودة الزواج العرفي من خلال مسلسل

حملات إدانة ضد تشويه صورة المرأة وإعلاء ذكورية الزوج وتجاوز القانون

بوستر مسلسل "براءة" الذي يثير سجالاً في تونس (الخدمة الإعلامية للمسلسل)

في مشهد عنيف يختلط فيه الصراخ الحاد بالدموع المنهمرة، يعلن الكهل "وناس" الذي جسده باقتدار الممثل فتحي الهداوي أمام زوجته الخائفة، وأبنائه المندهشين أنه قرر أن يتزوج بالخادمة "بية" زواجاً عرفياً.

نظر، في البدء، كل أفراد العائلة إلى الرجل مستغربين، متسائلين، كأنهم غير مصدقين، فالزواج العرفي ممنوع في تونس، وقد جرمه القانون منذ بداية الاستقلال. ثم إن المجتمع التونسي لم يعد يتقبله أو يزكيه. لقد بات من الماضي البعيد، أو هكذا تخيل الناس. لكن " وناس" ينتصب، فجأة، واقفاً، في بهو البيت، بكل جبروته وعنجهيته ليؤكد أنه سيقدم على ذلك، غير مبال بالقانون المعمول به، وبنظام الأحوال الشخصية. فثمة قوانين أخرى، في نظره، أولى بالمراعاة والاحترام.

أحس الجميع، لفترة ما، وكأن الزمن توقف فجأة، أو ربما عاد إلى الوراء، إلى ما قبل الاستقلال. لهذا فقدوا القدرة على الكلام والاحتجاج ولاذوا بالصمت خائفين: الأم والأبناء والخادم... وحده "وناس" ظل يتكلم بصوته الجهوري ويملأ المكان بجسمه القوي الفارع، رافضاً، بقوة، أي تدخل في قراره، وكأنه، يشير بطرف خفي إلى أن هذا الزواج لم يعد غريباً عن المجتمع التونسي رغم صرامة العقوبة.

عودة الماضي

والواقع أن كثيراً من المثقفين ورجال القانون والصحافيين حذروا منذ 2011 من تغير المشهد الاجتماعي التونسي بعد انتشار بعض المظاهر "الغريبة" بتأثير مباشر من بعض الأحزاب، لعل أبرزها "الزواج العرفي" الذي يُبرم عبر عقد غير مسجل رسمياً بين رجل وامرأة، من دون حضور شهود في أغلب الأحيان، واعتبروا ذلك مدخلاً لإلغاء نظام الأحوال الشخصية الصادر في 13 أغسطس (آب) 1956. وهو القانون الذي تنص على حقوق عدة لفائدة المرأة الزوجة. وفي مشهد درامي قوي تواجه "زهرة" الزوجة الضعيفة الخائفة زوجها المتجبر القوي وتحاول صده عن هذا القرار الخطير، لكنه يشيح عنها، ولا يعيرها أهمية، ويقول للجميع بلهجة آمرة: "إني لست هنا لاستشارتكم، وإنما لإعلامكم فحسب". يتفرق الجميع في وجوم كامل.

وحده الطفل الصغير بقي يسأل: ما معنى أن يتزوج الأب الخادمة؟

صدمة مزدوجة

صدمت "براءة" هذه الدراما التلفزيونية التي تعرض بمناسبة شهر رمضان للمخرج سامي الفهري، المشاهد التونسي لسببين اثنين يؤولان إلى سبب واحد:

أولاً: تقديمها المرأة التونسية في هيئة غير لائقة، في نظر البعض، فهي تبدو من خلال هذ المسلسل امرأة ضعيفة، مستكينة، مسلوبة الإرادة، غير قادرة على الرفض والاحتجاج... فستون سنة من الاستقلال والتعليم والتحديث وترسانة كبيرة من القوانين، لم تصنع منها امرأة جديدة، قادرة على المواجهة والرفض.

 ثانياً: إثارتها قضية "الزواج العرفي" وهو الزواج الذي يُعد في تونس منذ 13 أغسطس 1956 زواجاً يخالف الصيغ القانونية، وجرمه القانون التونسي، واعتبره باطلاً بحسب الفصلين 36 و31 من قانون الحالة المدنية، إذ يشترط الفصل الأخير أن يبرم عقد الزواج أمام عدلين أو أمام ضابط الحالة المدنية، بمحضر شاهدين من أهل الثقة... أما الزواج العرفي، فإنه لا يشترط حضور شهود، ولا يسجل في الوثائق الرسمية ولا يقر بأي حقوق للمرأة.

وقد أصدر مرصد الدفاع عن مدنية الدولة بياناً يدين فيه مسلسل "براءة" الذي يسعى إلى التطبيع مع مبادئ خطيرة جداً على المجتمع التونسي. واستنكر عدداً من المشاهد التي تبرر الزواج العرفي علاوة على المشاهد التي تصور الرجل في مقام الآمر الناهي، والمرأة في موقع الكائن الضعيف. علاوة على مشاهد تعافي المرأة من مرض نفسي بواسطة الشعوذة والبخور، بعدما عجز الأطباء المختصون عن معالجتها. ورأى المرصد أن المسلسل يدعو صراحة إلى مخالفة القوانين الجارية في تونس، وبخاصة قوانين الأحوال الشخصية. ودانت رئيسة الاتحاد الوطني للمرأة التونسية راضية الجربي، مشهد الزواج العرفي في مسلسل "براءة"، وطالبت بمعاقبة كل من "يسيء إلى المرأة التونسية".

المخرج الإشكالي

والواقع أن سامي الفهري مخرج المسلسل وكاتب السيناريو، ما فتئ يفاجئ المشاهد التونسي بمسلسلاته الجريئة في لغتها، الصادمة في أحداثها، ولهذا كثيراً ما قوبلت أعماله بالإدانة والرفض. والفهري من المخرجين الجدد المولعين بالأسلوب الواقعي في الكتابة والإخراج، لكن واقعيته هي واقعية الهامش، والمسكوت عنه. ومن أخص خصائص واقعية الهامش: الجرأة في الطرح، وتناول كل ما هو محظور وممنوع، بالنظر والمساءلة.

يرصد الفهري بعين الرفض إلى التحولات العميقة التي يشهدها المجتمع التونسي وما يصحب تلك التحولات من تصدعات على مستوى الحياة الاجتماعية والأخلاقية، فيحاول التعبير عنها من خلال عدد من الشخصيات "الإشكالية". ومن هذه التصدعات: المخدرات، العنف، الجنس، وهي المواضيع الأثيرة لدى الفهري... كأن تبدو الشخصيات، كل الشخصيات، ضعيفة رغم قوتها، هشة رغم جبروتها، تمضي إلى قدرها المحتوم مغمضة العينين.

لا يختلف مسلسل "براءة" عن بقية أعمال سامي الفهري الدرامية الأخرى، فهو يلتقط ظاهرة اجتماعية (في هذه الدراما الزواج العرفي) ويسلط الأضواء عليها، يبرزها وربما يضخمها، وكل ذلك من أجل شد الانتباه إليها، ومن أجل خلق عنصري المفاجأة والإدهاش لدى الجمهور.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

لهذا لا يدعو الفهري، كما يذهب المعلقون والمدونون، إلى إحياء الزواج العرفي بعد سنوات من إلغائه، كلا، وإنما غايته لفت الانتباه إلى الظاهرة، فيعمد إلى تقديمها في أسلوب درامي مؤثر، يدفع الجميع إلى إعادة النظر في ما استتب واستقر وأصبح سائداً ومنتشراً وربما معترفاً به. إن الألفة تقتل إحساسنا بالأشياء فتصبح غير قادرة على إثارتنا، فيأتي الفن ليخلع على المألوف روعة المجهول فننفعل من جديد ونستعيد دهشتنا. ذلك ما يسعى إليه سامي الفهري من خلال أعماله الدرامية، ولكن بأسلوب فيه الكثير من الاستفزاز.

ونريد أن نشير في الختام إلى أن الكاتبة التونسية رباب المنصوري اتهمت المخرج سامي الفهري بالسطو على سيناريو مسلسل "براءة" الذي يبث حالياً على قناة "الحوار التونسي". وقالت إنها أودعت سيناريو عنوانه "براءة" لدى المؤسسة التونسية لحقوق المؤلف والحقوق المجاورة، وتابعت قائلة: "أريد أن أقول لمن ينتظرون هذا المسلسل، إن كاتبته هي رباب المنصوري وليس سامي الفهري الذي قام باستغلال السيناريو من دون إبرام أي عقد بينه وبين الكاتبة الأصلية للعمل، وقام بتغيير محتواه بلا أي استشارة".

وفي انتظار حسم هذه القضية تتوالى حلقات الدراما الرمضانية "براءة" متوغلة في مجتمع تونسي نعرفه ولا نعرفه.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة