منذ اعتلائها سدة الحكم بعد ثورة يناير (كانون الثاني)، 2011، لم تمل حركة "النهضة" من محاولة تغيير ملامح المجتمع التونسي من خلال آلاف الجمعيات الدعوية والمدارس القرآنية التي كانت ممنوعة في حكم الرئيس السابق زين العابدين بن علي، فانتشرت مظاهر غريبة في الأحياء الشعبية، على غرار اللباس الأفغاني، والنقاب، واللباس الطائفي، وتحجيب الفتيات الصغيرات، كلها مظاهر رجعت بعد أن جفت منابع الحركة الإسلامية في تونس، بداية ثمانينيات القرن الماضي، لكن، على الرغم من 10 سنوات من المحاولات في شتى الميادين والمجالات، لم تستطع الحركة استعطاف مزيد من التونسيين أو تغيير عاداتهم وجعلهم شعباً متأسلماً يسبح بحمدها.
وفشلها في مسك زمام البلاد، والعباد، وجر تونس إلى مربع الإفلاس الاقتصادي والخراب المجتمعي، جعل كثيرين ينتفضون من حولها، ويوجهون إليها أصابع الاتهام في ما وصلت إليه تونس، بل يطالبون رئيس الجمهورية بمحاسبة من دخل للحكم باسم الأخلاق والدين إلا أنه عاث في الأرض فساداً.
بساط الدين
الجامعية وعضوة المرصد التونسي لمدنية الدولة زينب التوجاني قالت، "انتفض معظم الشعب التونسي بشكل ملحوظ من مساندة النهضة والإخوان والخطاب السياسي الديني عموماً لأسباب عديدة، أهمها الأزمة الاجتماعية والاقتصادية ومخلفات الأزمة الصحية على حياة الناس اليومية، لقد بلغ الوضع بالتونسيين إلى الانفجار التام".
وأشارت التوجاني إلى أن القول، بأن الحركة الإسلاموية في تونس فشلت في أخونة المجتمع التونسي ليس دقيقاً، بل تعتقد أنها "نجحت الصحوة منذ السبعينيات في تعميق التدين الصحوي في التونسيين من خلال مظاهر اللباس للإناث والذكور، ومن خلال تعاطف معظم الشعب مع الإسلاميين بوصفهم ضحايا الاستبداد والتعذيب والقمع. ولكن الذي جعل الأوضاع تختلف هذه المرة يتمثل في فشل الإسلاميين في الحكم فشلاً ذريعاً من جهة، وفي سحب قيس سعيد بساط الدين من تحت قدمي الغنوشي لأنه بدا أكثر تطابقاً بين أقواله وأفعاله لأنه عارض بشكل مباشر مثلاً المساواة في المواريث، وزار مرات عدة المساجد والحلقات الدينية بمناسبة الأعياد الدينية، وقدم نفسه في شكل الخليفة عمر بن الخطاب ما أعطاه صبغة دينية شعبية، لذلك لو لم يكن قيس سعيد غير محسوب على العلمانيين، وما يسمى الحداثيين، لما نجح في اكتساب شعبيته عند الشباب الذي يسانده، والذي عبر في أكثر من مرة على أنه بقدر ما فيه مجموعات غاضبة على البنى الثقافية برمتها، فإن في هذا الشباب نسبة عالية ممن يتمسكون بما يسمونه ثوابت الدين، أي النسخة "الذكورية" من الدين التي تعطي للذكر مثل حظ الأنثيين، التي تعطيه درجة أفضل من المرأة وتحمله مسؤولية القوامة، وغير ذلك من قيم".
خطاب "النهضة"
ونبهت التوجاني من أنه يجب أن "نكشف زيف وازدواجية خطاب النهضة الذي أسهم في إقناع الناس بأنهم لا يمثلون الدين، وأسهم أيضاً في سقوط قداسة الغنوشي الرمزية التي تم ابتذالها عبر الممارسة البرلمانية العنيفة، والسياسية المهترئة، ولكن، كون قيس سعيد يطابق صفات الرئيس الذي يقدم نفسه على أساس يحتكم إلى الله، والدين، والدستور، والشعب، جعله أكثر تناسباً مع عامة الشعب".
ولهذا، أضافت التوجاني، "وجب التنبيه من مخاطر تحليل ما يجري في تونس على أنه انتهاء الفكر الإسلاموي، نعم، يمكن أن تكون نهاية لحركة النهضة في نسختها الأولى، لكنه ليس على أي حال، انتهاء للأخونة العميقة، وللصحوة المتمكنة، ولأفكار توظيف الدين في السياسة ذلك أن سقوط فكر الأخونة يتطلب انكشاف أقنعة الهيمنة الذكورية والمصالح المالية الكبرى، وهو ما لم يفتح ملفه بعد، فالطريق نحو التحرر الفكري الحقيقي لا يزال طويلاً".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
يذكر أن حقوقيين وسياسيين دعوا في تونس إلى غلق مكتب الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، أحد أذرع الإخوان المسلمين، ووجهت له اتهامات بالإرهاب ونشر الأفكار المتطرفة، كما نددوا بمواصلة فرع الاتحاد لأعماله التي وصفوها بالمشبوهة، ووصف أحد البيانات هذا الفرع بالجناح الدعوي، "وظيفته التعبئة الأيديولوجية التي يقتضيها تقسيم العالم إلى فسطاط سلام، وفسطاط جهاد، و''دار الحرب"، و"دار الإسلام''، وتقسيم البشرية إلى ''مسلمين'' و"كفار".
الجهاز السري
وقال الكاتب الصحافي محمد صالح العبيدي، "لقد كان سعياً دؤوباً للنهضة منذ وصولها للمشهد السياسي التونسي سنة 2011، على خدمة أجنداتها الإخوانية وفق ما تفرضه ارتباطاتها الإقليمية، فكانت البداية باختراق الإدارة التونسية عبر شخصيات مقربة سياسياً زمن حكم الترويكا الذي تزعمته حركة النهضة"، وأضاف العبيدي، "النهضة دمجت ما يقارب 130 ألف موظف في الدوائر الحكومية من أنصارها من أجل اختراق الدولة العميقة وتحويل صبغتها من دولة مدنية إلى دولة إخوانية، إضافة إلى محاولتها اختراق الفضاء العمومي وأسلمته عبر الخيمات الدعوية في السنوات الأولى".
وتابع، "حاولت النهضة أخونة المجتمع من خلال طرح ثنائية المسلم والعلماني، مستبطنة في ذلك تقسيم المجتمع بين كافر ومؤمن"، مواصلاً، "وقد سوفت ادعاءات خدمتها في ذلك وسائل الإعلام الموالية لها، تقول إنها الراعية الوحيدة للدين وحامية أسواره، وهي فكرة إخوانية امتدت منذ سنة 1928، تاريخ تأسيس الحركة الأم في مصر، كل هذا النهج في مسار أخونة المجتمع أصله الغنوشي في كتابته عبر مفهوم "التدافع الاجتماعي"، وهو مفهوم يقسم المجتمع بين مسلم وغير مسلم من أجل الاستحواذ على مفهوم المقدس الديني".
وختم العبيدي، "للنهضة أدوات هيكلية في عملية الأخونة وهي الجهاز السري، الذي يسطّر كل العمليات الإرهابية لتصفية الخصوم، وتصفية الخصوم لا تكون فقط بالاغتيال وإنما بتكثيف حملات التشويه من أجل قتلهم معنوياً"، لكن على الرغم من كل هذا، يضيف العبيدي، "لم تنجح النهضة كلياً في تصميم أهدافها وتغيير ملامح المجتمع التونسي".
وتعتبر تونس من البلدان العربية الأولى التي سعى مناضلوها وحكامها إلى بناء أسس الدولة الوطنية الحديثة، فراهن الزعيم الراحل الحبيب بورقيبة على التعليم والصحة، ودفع الفتيات إلى التحرر والخروج إلى التعلم والعمل، فوجدت تونس الحديثة أرضية جاهزة لتكوين الأحزاب والمجتمع المدني التي لعبت دوراً مهماً في بناء ملامح المجتمع التونسي.