إن المذهب الفلسفي الوجودي بجناحيه الإيماني والإلحادي يرتكز في نهجه التقليدي العام حول الأنا والوجود والعدم والزمن، وما يتعلق بالحياة والمجتمع من الحرية والقلق والتفاهة واللاجدوى والعبث، وكلها ترتبط بما جرى في أوروبا من نزاعات وصراعات، منها الحربان العالميتان. فضلًا عن النزعة المادية السائدة في علوم وأفكار وحياة الغرب عموماً. إن ما طرحه كولن ولسن (1931-2013) في باكورة أعماله "اللامنتمي" في عام 1956، قد أحدث ضجة نقدية قوية، إذ إن ولسن نظر إلى فردية "الأنا" من زاوية مغايرة تماماً في الفلسفة الوجودية.
إن مؤسس الوجودية سورين كيركيجارد (1813-1855) ركّز على الذات الفردية كونها حقيقة الإنسان، التي يستقل فيها عن كل شيء موجود، فهي كيانه الوجودي في هذا العالم. لذلك كان كيركيجارد على خلاف مع جورج هيغل (1770-1831) وفريدريك شلنغ (1775- 1854) وجُلّ الفلاسفة المثاليين المعاصرين له. فالبحث في الخارج عن الحقيقة والسعادة لا وجود لها، بل إنها في الداخل، علينا أن نكتشف الأنا، التي هي محطّ الحقيقة للإنسان. فالأنا تعني الفرد وما يعيشه في الحياة، وما يكتسبه من خبرات وتجارب، وما يحمله من مشاعر وأحاسيس كذات فردية، ومدى صلته بالإيمان.
أمَّا مارتن هيدغر (1889-1977) في كتابه "الوجود والزمن"، فقد وصل بمقولته إلى "الكينونة في العالم" كمركز مستقل بالعقل والأخلاق، وإن المسائل المتعلقة بالماورائيات والإلهيات والجماليات ينبغي النظر فيها من الوجود نفسه، الذي يرتكز على معنى الكينونة، وهو الأنا، أي "الوجود في العالم". إذ "في كل فهم للعالم، يُفهم الوجود معه، والعكس صحيح". (الترجمة الانجليزية، 1985، ص 194). وأن القلق يساعد إلى حدّ ما على تأكيد الإنسان على كينونته، وعلى معرفة حقيقة ذاته ومعنى وجوده.
ورغم تأثر جان بول سارتر (1905-1980) بالتنظير الهيدغري، إذ وضع كتابه "الوجود والعدم" على منوال مساير له، لكن سارتر يرى أن "الإنسان غير مُجّدٍ" تجاه هذا العالم السائر على وتيرة واحدة لا تتغير قط. بيد أن الحرية فعل مهم لدى الإنسان، لأنها تميل نحو المستقبل، والإنسان لا يرفض الفعل الحر. إن "كل مشروع حرّ في تخطيط نفسه يتوقع مجموعة من عدم القدرة على التنبؤ بسبب استقلال الأشياء على وجه التحديد، لأن هذا الاستقلال هو من حيث يتم تشكيل الحرية". (الترجمة الانجليزية، 1972، ص 507). ومن هنا فقد ركز سارتر على "حرية الإرادة" ودورها في حياة الفرد، لأن وجود الإنسان سابق على ماهيته.
إن الأعمال الفلسفية والأدبية الوجودية لسارتر، قد سار على نهجها ألبير كامو (1913-1960)، لكن مركزية فكره تدور حول العبثية، والذي أسهم بشكل واضح في ظهور الفلسفة العبثية. فالإنسان، حسب تصوره، مُقدّر عليه الشقاء في هذا العالم، وأن لا جدوى من وجوده إلا بالانتحار الجسدي أو الفلسفي، والأخير يعني الغوص الذهني حيث معانقة العدم، لأن الفكر يحاول تجاوز نفسه لذا ينتهي إلى النفي.
جاء كولن ولسن برؤية وجودية هي أقرب إلى الأدب من الفلسفة، إذ يُظهر في كتابه "اللامنتمي" (الطبعة الانجليزية، 1978) عزلة المبدعين عن محيطهم الأسري والاجتماعي من ناحية، وسلسلة التساؤلات التي لا تنقطع في نمط تفكيرهم من ناحية أخرى.
"اللامنتمي"
استهل ولسن الفصل الأول قائلاً إن "اللامنتمي هو مشكلة اجتماعية، إنه الرجل الموجود في الحفرة"، ثم أخذ يُحلل ويُفسر هذه الشخصية الوجودية حسب الموضوعات التي طرحها في الكتاب. فاللامنتمي يدرك ما تنهض عليه الإنسانية من أساس واهٍ، وهو ليس شخصاً مجنوناً، لكنه يتمتع بحساسية أكثر من أولئك المتفائلين صحيحي العقول؛ وهو يروم الحرية فهي مشكلته العويصة.
كما أن "اللامنتمي يميل إلى التعبير عن نفسه من حيث الوجودية، إنه لا يهتم بشدة بالتمييز بين الجسد والروح، أو الإنسان والطبيعة، فهذه الأفكار تنتج التفكير اللاهوتي والفلسفة، فهو يرفض كليهما، بالنسبة إليه فإن التمييز الوحيد المهم هو بين الوجود والعدم". (ص 37).
إن اللامنتمي ينظر إلى العالم على أنه معقول فوضوي وليس منظماً جوهرياً، وهذه النظرة تجعله أكثر عمقاً في فهم الواقع من الآخرين الذين ينشغلون دائماً بتفاصيل الحياة اليومية، فضلاً عن إن اللامنتمي يجابه هذه الفوضى والاضطراب ويعترف بحقيقتها رغم كل شيء، وهذا الموقف المبدئي مهم في إمكانية عملية الإصلاح، لكن يبث فيه شعوراً كئيباً، لأنه ملتزم بقول الحقيقة دون مواربة أو دوران.
وعندما يؤكد ولسن على أن "اللامنتمي هو مشكلة اجتماعية"، فذلك لأنه يبحث عن "الحرية"، ويريد أن يكون حراً بالمعنى الروحي العميق، فالحرية بالنسبة إلى اللامنتمي تقترن بالدين لا بالعقل، فالعاقل الذي يمارس الحرية السياسية مثلاً، ليس حراً روحياً. ولذلك فإن الحل الذي يبغيه اللامنتمي إلى مشكلة الحرية يجده في الدين فقط، إذ إن "جوهر الدين هو الحرية". أمَّا المشكلات الأخرى، فحسب تصور اللامنتمي، إن الدين ليس باستطاعته أن يقدم أجوبة أو حلولاً لها.
ويتطرق ولسن إلى القول إن "جَوّ الوجودي اللامنتمي غير صحي للتنفس، هناك شيء ما من الغثيان المعادي للحياة، حَولهُ هؤلاء الرجال الذين يبقون في غرفهم بلا دافع، يبدو لأنه لا يوجد سبب لفعل أي شيء آخر، إنه في الأساس عالم البالغين، الذي هو من دون قيّم. أمَّا عالم الطفل فهو أنظف تماماً، إنه هواء الأذواق المتوقعة في متجر كبير بوقت أعياد الميلاد، إنه عالم جديد. بالنسبة إلى الروح العليلة، والرجل اللامنتمي، فإن هذا (العالم الجديد) ينتج عنه شعور بالخوف؛ إنه رمز للحضارة الآلية (المادية)، التي تعمل كأخاديد أسطوانة جهاز الموسيقى بعزف مقدّمة الحرية". (ص 57).
لقد تناول ولسن في كتابه العديد من الفلاسفة والأدباء أمثال: نيتشه ودستوفيسكي وسارتر وهمنغواي وكافكا ووليم جيمس وغيرهم، إذ يستعرض أفكارهم أو شخوص رواياتهم في تفسيرات وتعريفات وجودية تهتم بالجوانب النفسية والأدبية أكثر منها إلى علوم العقل والمنطق. ولذلك تجد بحث ولسن يتميز بأسلوب عالي التعبير وأدبي التركيب النصي. فعن قضية الوجود والعدم، يتناول بطل باربوس الذي يرى أن "الموت هو أهم الأفكار كلها". وإن الحرية لا تتعلق بما تفعل وتريد، بل إنها قوة الإرادة، التي تظهر في أي ظرف يحدد الإنسان، ويبعث الحياة في إرادته. وهذا ما كان يردده آرثر شوبنهاور (1788-1860) أيضاً، ففي مسألة "الشيء في ذاته ومظهره" يشير الأخير عن نفسه وعن بقية الفلاسفة قائلاً إن "الشيء في ذاته يدل على وجوده الذي يستقل به عن إدراكنا، حيث يكون في الواقع. بالنسبة إلى ديموقريطس كانت هي المادة، وهذا هو المبدأ الأساسي الذي استمر إلى وقت جون لوك، ثم جعلها عمانؤيل كانت مجهولة. وبالنسبة إلي فإنها الإرادة". (مقالات شوبنهاور، الترجمة الانجليزية، 1970، ص 55).
ولا غرو إن وجدنا ولسن يقول "أنا أعتقد بأن الفلاسفة أمثال عمانؤيل كانت قد أثروا بأسوأ الإمكانيات على الفلسفة الغربية"، لأن محور اللامنتمي نفسي يتعلق بالشعور والأحاسيس والوجدان والعاطفة، بينما محور كانت وفخته وشلنغ وهيغل ذاتي يعتمد على العقل والمنطق والفلسفة. فالمشكلة، حسب رأي ولسن في شخص اللامنتمي، هي مشكلة "الإدراك النفسي" للفرد، وإنه إدراك لا يتأتى جرّاء الرضوخ لنظام معيشي رتيبي، لأنه استسلام نابع من الخوف، وأن الخوف لا يؤدي إلى الحرية، بل يجب مواجهة الفوضى، إذ إن السقوط في هذه الفوضى أمر ضروري من أجل النهوض مرة أخرى. فبعد هذا النهوض يستطيع الإنسان أن يحصل على نظامه المعيشي الحقيقي المطلوب له.
إن "مشكلة اللامنتمي هي أساساً مشكلة العيش، فالكتابة عنها بمصطلحات الأدب هو تزييف لها. إن تحليلات المؤلفين هي ضرورية إلى حد ما، فعمل الكاتب هو تعبير ذاتي قد يساعدنا على تعريف علمي واضح لمشكلات اللامنتمي. إلا أن هؤلاء الرجال: باربوس، سارتر، همنغواي وحتى هيس لم يكونوا مهتمين وثابتين تجاه اللامنتمي، وإن القياس في عدم اكتراثهم يكمن في تجاوزهم إلى موضوعات أخرى. إن الكاتب يمتلك فطرة تجعله يختار المادة التي بها يضع أفضل عرض على الورقة، وعندما يخفق أو يجد صعوبة في ذلك، ينتقل صوب منعطف جديد". (ص 81).
معنى هذا، أن نصوص الشعراء والأدباء المتعلقة بعقلية ونفسية اللامنتمي قد لا تكون صادقة تماماً في التعبير عنه. ومن هنا، يُحبذ ولسن قوله الآتي "لقد آمنت دوماً بأن الكاتب يجب أن يبقى لا منتمياً. وإذا ما قدّر لي أن أحصل على شيء شبيه بجائزة نوبل في الأدب، لوجدت نفسي في حالة نزاع صعب، على الرغم من أني لا أميل لقبول هذه الجائزة أصلاً".
كما يؤكد ولسن على أن شخصية اللامنتمي ليس بمقدورها أن تتخذ من شعوره المؤلم بخطورة الحياة مقياساً عضوياً يرفع بها من مستوى قوته، فمثل هذا الشعور لن يمكنه من أن يعيش حياة أكثر وفرة. وإذا كان اللامنتمي يرفض الإيمان، فإنه يرفض أيضاً أن يشعر بتلك التفاهة التي تتحكم بالكون. بيد أن طبيعته الإنسانية تملي عليه أن يجد شيئاً يتفق معه تماماً، ولذلك يبحث عقلياً في الأشياء والظواهر لتكون مقبولة لديه.
إن "اللامنتمي ليس متأكداً مَنْ يكون؟ لقد وجد (الأنا)، لكنها ليست هي حقيقته، فأغلب عمله هو لإيجاد عودة إلى ذاته، وهذه ليست هينة. في الواقع، وعلى وجه الدقة، نحن لم نمسّ المشكلة حتى الآن، نحن فقط قد حلّلنا (ضياع) اللامنتمي، حتى أن (المحاولة في تحصيل السيطرة) كانت فاشلة، لأنها وفّرت فراسة أكثر تجاه عمل الساعة المعقدة لدى اللامنتمي فحسب". (ص 159).
وبعدما أثبت ولسن جدارة بحثه في سياق رؤيته إلى شخصية اللامنتمي، كتب في هذا الخصوص المؤلفات التالية: "الدين والتمرد"، 1957. "عصر الهزيمة"، 1959. "قوة الحلم"، 1962. "أصول الدافع الجنسي"، 1963. "ما بعد اللامنتمي"، 1965. وبذلك يكون ولسن ليس فقط قد أكمل الأبعاد الرئيسة المتعلقة بشخص وفكر ونفسية اللامنتمي، وإنما قد وضع تكميلاً لتصوراته وقراءته الجديدة ذات السياق الوجودي. ويعود إلى ولسن التأثير الكبير في نشر الفلسفة الوجودية في بريطانيا، التي تُعتبر معقل الفلسفة التجريبية.
اللامنتمي "في الدين والتمرد"
لقد جاء في كتاب ولسن "الدين والتمرد" ردّ على الذين يتهمون اللامنتمي بأنه مجرد نزوة عقلية طارئة. إذ بجانب الأجوبة التي يسطرها حول هذا الشأن، فإنه يستعرض مظهر القوة عند اللامنتمي بالتمرد ضد المجتمع المادي، وتوتر النقص الروحي. الكتاب عبارة عن سرد رؤيوي لتدهور الحضارة الغربية بشكل عام من جهة، ومن جهة أخرى، التركيز على أهمية أن يطيل الإنسان مجاله في الشعور.
لقد واجه ولسن انتقاداً شديداً واسعاً من بريطانيين وغربيين، مما أثرت على وصوله إلى مكانة مرموقة في الفكر الغربي؛ كما كان الأمر مع هيدغر وسارتر وبعض الوجوديين الآخرين. إلا أن هذا لا يمنع من القول إن كتابه قد حث قسماً آخر على النظر في الواقع الغربي بعد الحرب العالمية الثانية، خصوصاً مع مجموعة "الشباب الغاضبين" الذي كان ولسن أحدهم.
كانت غاية ولسن أن يبين بأن الدين ليس فقط في الممارسات الخارجية بالطقوس والشعائر التي تتجلى بالصلاة والعبادة إلى الله، لكنه يكمن أيضاً في الرؤية الداخلية إلى الطبيعة. ومن هذا المنطلق، حاول ولسن أن يحطم العادات القديمة ويزيحها عن أرضية الواقع الاجتماعي الغربي. ولقد رأى بعض الناقدين والدارسين، أن ولسن يقوم بعمل تدميري منتظم لبنية الحضارة الغربية. بيد أن ولسن قد وظّف بعض الأفكار والنظريات لمؤرخين ومفكرين غربيين أمثال: باسكال وكيركيجار ووايتهيد وبرنارد شو وآخرين غيرهم من الذين كانوا ضد المذهب المادي في العالم الغربي. (الطبعة الانجليزية، 1994).