Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

مدينة عمر نعيم التي تنهار واقعياً... تنهض بمسرحها

فيلم وثائقي تقدم فيه نضال الأشقر مسارها التأسيسي الفردي والجماعي

الممثلة والمخرجة نضال الأشقر خلال التصوير (الخدمة الإعلامية)

يبدو عنوان "مدينتان" الذي اختاره المخرج السينمائي اللبناني عمر نعيم لفيلمه الوثائقي مصيباً وفريداً في آن واحد، فالمدينتان هنا هما وجهان لمدينة واحدة هي بيروت، وجه حقيقي تماماً يمثل الحال المزرية التي يتخبط فيها لبنان، ووجه آخر حقيقي أيضاً ورمزي وفني وثقافي يجسده "مسرح المدينة" الذي أسسته الممثلة والمخرجة المسرحية نضال الأشقر العام 1993، ليكون شاهداً على ماضي بيروت الثقافي، خصوصاً في مرحلة ما قبل الحرب الأهلية، ومختبراً جديداً للمسرح الجديد والثقافة الجديدة في مرحلة ما بعد "الطائف".

إنهما "مدينتان" فعلاً، بيروت المدينة في ظروفها الشائكة جداً والمأسوية، و"مسرح المدينة" الذي يمثل بقعة ضوء في هذه الفسحة القاتمة، التي لم يشهد لبنان سابقاً ما يماثلها حتى في أحلك أيام حروبه. بيروت الفقر والبؤس والقهر، بيروت النفايات والتلوث، بيروت الفساد والطائفية والمذهبية والعمالة المعلنة والانقسام الأهلي، تقابلها بيروت أخرى هي بيروت "مسرح المدينة"، هذا المسرح الذي يكاد يكون وحيداً أو شبه وحيد في صموده بل في "عناده" وإصراره على البقاء، محافظاً على رسالته الفنية والثقافية والوطنية، وفاتحاً أبوابه أمام التجارب المسرحية والفنية الحديثة التي تمثل الوجه الحقيقي لهذه المدينة وما بقي منها.

صيغة فريدة

شاء المخرج عمر نعيم الذي درس في اميركا ويعمل فيها، سليل البيت الفني الذي بناه والده ووالدته، فؤاد نعيم ونضال الأشقر، أن يجمع في فيلمه بين التوثيق في مفهومه التقني المعروف، والتوثيق في بعده الفني والإبداعي، وتوصل إلى صيغة فريدة، وثائقية وسردية، تكون فيها الكاميرا أو التصوير مرادفاً للسيناريو المبني بقوة وشاعرية، وللنص في مادتيه الواقعية والدرامية.

تتوازى في الفيلم إذاً الصورتان أو "المدينتان" وتتداخلان وتتقاطعان، وكأن الواحدة التي هي نقيض الأخرى تصبح مرآة لها، على الرغم من الفوارق الصارخة بين صورة مغبشة و"مشوشة" وصورة تقاوم هذا التغبيش أو "التشويش".

هكذا مثلاً استعاد عمر نعيم لقطات من مسرحية الكاتب أوجين يونيسكو "الملك يموت" التي كان أخرجها فؤاد نعيم في "مسرح المدينة" قبل تفشي وباء كورونا، ليقابل بين سقوط الجمهورية ورمزها أو رموزها، وسقوط "ملك" المسرحية، الذي تتهالك مملكته أمام عينيه وتتبدد حاشيته ويجد نفسه أمام الهاوية.

تطل في الفيلم الفنانة نضال الأشقر إطلالة مزدوجة، أولاً كشاهدة على تأسيسها هذا المسرح الفريد، فتروي حكايته كلها وما واجهت طوال السنوات الـ 20 التي يحتفي الفيلم بذكراها، من صعوبات وأزمات وحواجز في بلد متناقض ومتقلب بين سلام أهلي وحرب أهلية مؤجلة دوماً، وقد أكدت تجربة نضال في تأسيس المسرح وإدارته أن النشاط الثقافي في لبنان إنما هو فردي وخاص، ونادراً ما يتلقى دعماً عاماً أو رسمياً.

نضال الأشقر راوية 

روت نضال ملامح من تاريخها الشخصي أو سيرتها التي جسدتها في عرضها الاحتفالي الأخير، وملامح من تاريخ المسرح وواقعه، ومن نضالها الدائم في سبيل بقاء هذا المسرح بصفته منبراً مفتوحاً للتجارب الجديدة، اللبنانية والعربية والأجنبية.

روت أيضاً قصصاً من ماضي بيروت المسرحي خصوصاً في الستينيات، واستعادت قضية مسرحية "مجدلون" التي تطرقت للمرة الأولى حينذاك إلى العمل الفدائي في لبنان، فمنعت وأنزل الممثلون عن خشبة المسرح، فاضطروا إلى مواصلة تمثيلها في مقهى الـ "هورس شو" الشهير في شارع الحمراء.

تبدو نضال في إطلالتها هذه كأنها تؤدي دوراً هو دور الراوية والممثلة التي تستعيد ملامح من شخصيتها والشخصيات التي أدتها سابقاً، مما أضفى على إطلالتها هذه بعداً فنياً وأحاسيس ومشاعر ولحظات من الإشراق والنضارة، فلم تكن مجرد ممثلة ومخرجة تجري حواراً مع الكاميرا، والطريف أن المخرج كان يناديها بـ "مام" وكانت تبادله هي التعبير نفسه، وكأن اللعبة تدور بين أم وابنها في مسرح بيتي. أما المخرج فؤاد نعيم فأطل بصفته مخرجاً، بصرامته المعهودة، وتحدث أمام كاميرا ابنه بطريقته التي تخفي دوماً سرها.

مخرجون وممثلون

وفي السياق الوثائقي يطل في الفيلم مخرجون وممثلون قدموا أعمالهم على خشبة "مسرح المدينة" وتحدثوا عن موقع هذا المسرح ودوره الريادي وضرورة وجوده، ومنهم روجيه عساف رفيق نضال منذ انطلاق "المحترف" في منتصف الستينيات، وجورج خباز الذي أدى دور الملك في مسرحية "الملك يموت"، وربيع مروة ولينا خوري وناجي صوراتي وكريم دكروب وهشام جابر وسواهم.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

خرج عمر نعيم وطلال خوري مدير التصوير بالكاميرا إلى بيروت المدينة وضواحيها، وصورا مشاهد واقعية جداً وصادمة، مثل المجارير التي تصب في البحر وتلوث المياه وأكياس النفايات التي شكلت صفاً طويلاً جداً على طريق توازي أحد الـ "أتوسترادات". وبدت هذه اللقطة الأليفة لبنانياً كأنها ديكور في فيلم شبه غرائبي، وقابل المخرج والمصور أيضاً أناساً عاديين، فقراء ومعدمين على الشاطئ والأرصفة، عبروا عن لبنانهم بل عن مدينتهم التي لا تشبه بيروت بتاتاً. وجالت الكاميرا أيضا على مسارح بيروت وصالاتاها السينمائية العريقة التي أقفلت وحل بها الخراب ومنها: مسرح بيروت العريق ومسرح بابل الذي كان اطلقه المخرج العراقي جواد الاسدي وسواهما. ودخلت الكاميرا أيضاً كواليس المسرح لتصوره من الداخل وتتحدث مع بعض التقنيين والموظفين ومنهم المدير التقني للمسرح لؤي رمضان، وليت المخرج هنا قدم أرشيف المسرح عبر "بوسترات" المسرحيات المهمة التي قدمت على خشبته بطريقته الفنية، مسجلاً ذاكرة هذا المسرح و"ريبرتواره" الفريد.

يعرض فيلم "مدينتان" على قناة "بي بي سي" وسيعرض في "مسرح المدينة" لاحقاً.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة