بثياب الفلكلور الشعبي، يرقص شبان وشابات سوريون بين ركام البيوت المهدمة في مدينة حلب، شمال سوريا. تتمايل أجسادهم كأمواج بحرٍ متلاطمٍ يُحطم ما تبقى من مركبٍ غارقٍ، ويرسمون لوحات تعبيرية عن حجم مأساة عشعشت في بيوت دمرتها آلة الحرب.
على أنغام المناجاة
يرقص الشاب الحلبي حكمت صابجيان (26 سنة)، المنحدرُ من عائلة أرمنيّة، ومعه مجموعته في أحياء المدينة القديمة الممتدة بين الجامع الكبير والقلعة، في محاولة لإعادة نبض الحياة إلى بيوت ترزحُ تحت الركام.
ينسابُ رقصهم التعبيري، المتناغم مع موسيقى إياد الريماوي، نحو الدمار، يناجون سكان البيوت، كاسرين صمت الحجارة المهدّمة.
يروي صابجيان، مؤسس وأحد أعضاء الفرقة المتخصّصة بالرقص المسرحي، التي تحمل اسمه (فرقة حكمت)، عن لوحة من الرقص التعبيري تغوص في جزئيات الحياة والموت وعمق المأساة وتحدي البقاء. ويقول "الرقص ليس دائماً تعبيراً عن الفرح، على العكس فإن أسمى أنواع الرقص هو أن ترقص وفي داخلك ألم".
أصوات الأبناء
لم يسلم سكان حلب من الحرب التي امتدت خمس سنوات، قاسى خلالها المدنيون آلام الحصار والنار في أحياء المدينة السكنية، بل وكانت حلب أكثر المدن تأثراً.
دفع سكانها ضريبة كبيرة، سقطوا ضحايا معارك ونزاع مسلح، وهجّروا ودُمرت حجارة أرضٍ عمرها آلاف ومئات السنوات.
أراد صابجيان أن يوصل رسالة يوجّه النظر عبرها إلى هذه الأماكن والمواقع وإلى أنها لن تموت، على الرغم من حكايا الموت والألم التي تكتنفها، فهي تشبهه كما يقول. يضيف "لا نعلم إن كان هذا المبنى الذي دُمّر نصفه ولا يزال واقفاً، هل سيُهدم أو سيقع أو سيعاد بناؤه من جديد. حقيقة، هذا البناء يشبهني فأنا الشاب ذهب نصفي في الحرب، وغالبية الناس تقف ولا تعلم متى ستسقط أو تعيد بناء ذواتها من جديد".
وعلى الرغم من انتقاد رقصة حكمت وفرقته على ركام الحرب، إلا أن صاحب الفكرة يتقبّل من ينتقد رقصته ويتفهّم رد فعلهم. "للحظة وأنا أرقص أجهشتُ بالبكاء وتوقفتُ عن الرقص وانتابني شعور بإحساس الآباء الذين فقدوا أبناءهم وعائلاتهم هنا، ويشاهدونني أرقص بين بيوتهم المهدمة، كم أود أن أقول لهم إنني جئت إلى هنا من أجلكم ومن أجل أن أعيد إلى الأماكن المهجورة الحياة ليس إلا".
في المقابل، تركت هذه الرقصات شعوراً بأن الحياة عادت إلى المكان، لدى أصحاب تلك البيوت المهدمة. ويعبر عبد القادر عجمية، التاجر في أسواق حلب القديمة، عن فرحته بمشاهدة هذه التجارب الشابة المبدعة، وتمنى أن تتكرر لتضج المدينة مجدداً بالحيوية.
لم يخفِ صابجيان محبته موسيقى الريماوي، التي تحمل مزيجاً بين الجمال والألم. وبهذا التناقض تبرز "المناجاة"، حين يكون الإنسان في قاع الألم ولا يريد أن يستسلم.
المجتمع الشرقي
يواجه صابجيان تحدي الاستمرار في مجتمع لم يتقبّل أن يشاهد رجلاً راقصاً يطيل شعره ويضع في أذنه قرطاً.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
لكنه يصمد حاملاً على جسده وشماً مكتوباً باللغة العربية "أنا الكون والحياة"، فيرقص مختلف الرقصات (الهندية والزمبي والباليه)، بعدما تدرب على يد المدرب الحلبي جيرو، الراقص الذي يصفه صابجيان بالأسطورة.
وعلى الرغم من أنه تخرج من كلية الهندسة المدنية، ويحضّر لمناقشة رسالة الماجستير بالهندسة البيئية، وهو محاضر في كليته في جامعة حلب، إلا أن حلمه الوحيد هو أن يطلق أكاديمية خاصة بالرقص. يقول "لا بد أن تزداد خبرتي وتتراكم وأصنع لنفسي طريقة خاصة تميل إلى فن الرقص التعبيري. وعلى المدى البعيد أود من الناس أن يتقبلوا فنون الرقص، خصوصاً أننا في مجتمع شرقي وهو تحد كبير".
التأثير في المجتمع
تراهن فرقة "حكمت"، البالغ عدد أعضائها 70 عضواً من فئتَي الشباب والصغار من الجنسين، على قدرتها على ترك أثر في المجتمع عبر الرقص. وتعبر إحدى المتدرّبات في الفرقة عن أنه يمكن بالرقص أن نوصل رسالة من آلاف الكلمات، لأن "لغة تواصلنا هي لغة الروح".
وكان صابجيان أدّى رقصة في حي صلاح الدين الشعبي قبل سنوات، معرضاً نفسه لخطر الموت برصاص القنص، لمحاكاة حياة حلب المحاصرة في ذلك الوقت.