Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

الكتاب الذي أنصف سيّد الجاز الأميركي لويس آرمسترونغ

كان السود يهاجمونه فيما كان يندد بالرئيس أيزنهاور ضد التمييز العنصري

لويس آرمسترونغ (غيتي)

كان ممن يغيظ سيد الجاز الأميركي لويس آرمسترونغ خلال السنوات الأخيرة من حياته، على الأقل، أولئك من "الأفارقة الأميركيين" الذين كانوا يتعاملون معه ومع تاريخه بكونه واحداً من أولئك "السود الناجحين في حياتهم الفنية والإجتماعية" والذين يتمثل نجاحهم في "قبول البيض لهم"، قبولاً تجلى في ذلك القول الذي عبر عنه واحد من كبار نقاد الموسيقى في أميركا، يوماً بقوله إن "آرمسترونغ هو واحد من قلة من مبدعين سود عرفوا كيف يدخلون بيوت الأميركيين جميعاً مرحباً بهم، في أزمنة لم يدخل فيها تلك البيوت من السود سوى الخدم". ولئن كان ذلك الناقد قد كتب هذا تحبباً ليعبر فيه عن حب كبير لآرمسترونغ، فإن بعضاً من "مناضلي" العرق الأفريقي – الأميركي اعتبروا الأمر مأخذاً على ذلك المبدع وراحوا يعيرونه به أسوة بما كانوا يقولونه عن الأفريقي – الأميركي الآخر الذي عاش في صدارة الفن السينمائي الأميركي، سيدني بواتييه، الراحل قبل فترة والذي اعتبره المتطرفون دائماً خائناً لأبناء جلدته ممالئاً للبيض لا يتوانى عن أن يلعب على الشاشة أدواراً تصالحية تريح ضمير البيض المعذب. نفس الشيء، إذا، قيل عن آرمسترونغ وسيظل يقال عنه طالما هناك متطرفون متعصبون، يشبهون أولئك الذين في منطقتنا العربية لا يترددون في إرجاع كل نجاح يحققه مبدع عربي على الصعيد العالمي (والمثلان الأسطع هنا حين فاز نجيب محفوظ بجائزة نوبل، ويوسف شاهين بخمسينية "كان")، إلى ممالأة المبدع المعني للغرب بل حتى لـ"الصهيونية العالمية" التي يرون لبلاهتهم أنها تتحكم في جوائز العالم ومصائره الإبداعية!.

مع تأخير 40 عاماً

بالنسبة إلى لويس آرمسترونغ احتاج الأمر إلى انتظار نحو أربعين عاماً مضت على رحيله عام 1971 قبل أن تصدر سيرة حياته في كتاب كان أول ما لفت النظر فيه إعادته الاعتبار إلى سمعة آرمسترونغ النضالية متحدثاً خاصة عن مواقف مشرفة له في الدفاع عن حقوق الأفارقة الأميركيين والمنددة بالاضطهاد الذي كان يطاولهم. بل إن التوقف عند تلك المواقف تناول كذلك مواقف أخرى كثيرة له لم يشأ هو في حينه الإعلان عنها، ليس خوفاً من "أسياده البيض" كما قال أحد نقاده السود يوماً، بل لرغبة منه في أن يقرن الموقف بالعطاء الصامت عوناً لنضالات السود. أو هذا على الأقل ما أسهب في الحديث عنه الكاتب تيري تيشاوت في كتابه "بوبس، حياة لويس آرمسترونغ" الذي صدر بالإنجليزية عام 2009 ليصدر بعد ذلك بسنة واحدة مترجماً إلى عدد من اللغات معطياً عن "ساتشمو" (وكان ذلك لقب آرمسترونغ الشعبي كما كان "بوبس" لقبه الآخر) صورة غير تلك التي كانت معهودة. ولا سيما في المجال الذي انطلقنا في الحديث فيه أعلاه. لربما كان من المهم هنا القول مع مؤلف الكتاب، أن ما يبدو أكثر أهمية في الحكاية كلها هو أن آرمسترونغ إذ اشتغل على موسيقى الجاز، عازفاً ومغنياً، ونال كل تلك الشعبية العالمية إنما خدم أهل جلدته خدمة هائلة، إذ أخرج الجاز نفسه من نخبويته العرقية إلى رحابة كونية أوضحت للعالم أن إبداعاً موسيقياً من هذا النمط تمكن من أن يحقق عالمية استثنائية لا يمكنه أن يكون آتياً من شعب وقوم ينظر إليهما المتعصبون من البيض الأميركيين وغير الأميركيين تلك النظرة الاستعلائية.

في وجه "البيتلز"

فآرمسترونغ حين كان يغني لم يكن يغني كأسود. بل إنه حين جعل أميركا من أقصاها إلى أدناها تغني ما غناه وعزفه في "هاللو دوللي" (1964)، جعلها تخر على ركبتيها إعجاباً وتبجيلاً أمام ذلك المغني الأسود الآتي من شوارع نيو أورلينز البائسة ليضفي هالة كونية غير متوقعة على فن طلع هو الآخر من البؤس والمعاناة من أزقة الحثالة. ففي نهاية الأمر لا شك أن الجاز الذي عزفه آرمسترونغ متجولاً به بين الولايات الأميركية قبل أن يفرضه على العالم الخارجي بعدما كان محصوراً لدى السود فإن تجاوزهم وصل إلى بعض البيض المتعاطفين أصلاً مع قضايا السود؛ لكنه مع آرمسترونغ وفي ركابه بعض الكبار الذين نشروا هذا الفن صنيع ما فعل، وضع أمام مجتمعات ذلك العالم مرايا لا ترى فيها نفسها بقدر ما ترى ما فعلته بأولئك المبدعين قبل أن يعرفوها على فنونهم. وفي هذا الإطار لا بد من التذكير بأن لويس آرمسترونغ كان الوحيد بين فناني الموسيقى الأميركيين جميعاً، الذي تمكن في عام 1964، أي عند الظهور الأول لفريق البيتلز الإنجليزي الذي كان في طريقه ليغزو العالم فارضاً عليه موسيقى يمكن الإشارة إلى أنها جمعت في النهاية بين الروك أند رول والجاز، كان هو الذي تمكن من صد هجمة البيتلز الأولى، وتحديداً ببقاء أسطوانته "هاللو دوللي" شهوراً طويلة في قمة مبيعات الأسطوانات غير سامحة لألبوم البيتلز يومها بارتقاء تلك القمة. ومن نافل القول هنا إن ذلك كان حدثاً أثار فخر الأميركيين البيض بتصدي إبداعهم الأميركي الخالص لذلك الغزو البريطاني.

ضد الرئيس أيزنهاور

كل هذا شكل نقطة أساسية ارتكن تيشاوت مؤلف الكتاب، إليها في رصده سيرة ومكانة آرمسترونغ ومن ثم في التعويض على الظلم الذي لحقه من قبل أبناء جلدته أكثر مما لحقه من الآخرين. وفي ذلك السياق وجد المؤلف لزاماً عليه أن يعيد إلى الأذهان ذلك الموقف الحاد والغاضب والذي نقلته الصحافة الأميركية متفاوتة في تقديرها له. ويعني به الانتقاد الصارخ الذي جابه به "ساتشمو" الرئيس الأميركي أيزنهاور حين اندلعت حادثة "مدرسة ليتل روك" في سنوات الستين، واعتبرت واحدة من العلامات الفارقة في التمييز العنصري ضد السود ولحظة انعطافية في النضال ضد ذلك التمييز. يومها كان آرمسترونغ في مقدمة الذين انتفضوا غاضبين، في وقت كان المتطرفون السود أنفسهم يتحدثون عنه بوصفه "واحداً من أولئك الأشخاص الذين يدجنهم البيض لكي يرفهوا من خلالهم عن أنفسهم فيركع المدجَّنون أمام أولئك الأسياد مبتسمين متقافزين". ويؤكد تيشاوت في الكتاب أن آرمسترونغ لم يقبل التدجين "بل إنه هو من دجن مستمعيه كما دجن الإدارة الأميركية جاعلاً كثراً من أعيانها يعلنون إحساسهم بالخجل إزاء ما حدث في ليتل روك...".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

من الجاز إلى السوينغ

غير أن كتاب تيشاوت لم يتوقف في كل فصوله عند تلك القضية على رغم إصراره على إعطائها مكانة أساسية وكله رغبة في أن يوضح أموراً كان البعض يتعمد السكوت عنها. فالكتاب أتى أيضاً، وبخاصة، سيرة حقيقية، اعتبرها كثر نهائية بشكل أو بآخر، لذلك الفنان الذي ولد في العام الأول من القرن العشرين، وسيعرف طوال ذلك القرن بوصفه أعظم عازف ترومبيت في العالم، وكذلك بوصفه صاحب أغرب صوت غنائي بنبرته الجشة وقوته التعبيرية. وهو كان في التاسعة عشر من عمره عام 1920 حين تمكن، بعد عقد عرف فيه وهو بعد في سني مراهقته كيف يتسلل إلى ذلك الفن الصعب من دون تمهيد دراسي أو دراسة أكاديمية، تمكن من أن يحدث تلك النقلة الضخمة في عالمه الخاص، ولكن كذلك في عالم الجاز بتحويله إلى نوع من "سوينغ" شعبي خفيف وناعم. صحيح أن كثراً سيعتبرون ذلك مأخذاً عليه، لكنه هو لم يبال بعد أن جعل هدفه نشر الجاز في كل مكان وإيصاله إلى أبسط الناس من دون أن يكون وقفاً على مرتادي الملاهي الليلية. ومن الطبيعي أن يفتح ذلك السجالات بل المعارك الحادة في وجهه. وفي هذا السياق يذكر الكتاب القراء بكيف أن مايلز دايفز كان في مقدمة المهاجمين، بل كان هو من اتهمه بالخضوع لتدجين البيض له. لكن "ساتشمو" سيربح معركته في نهاية الأمر من دون أن يدعي أنه ألحق الهزيمة لا بدايفز ولا بغيره. وهو لم يربح معركة الغناء والموسيقى فقط، بل كذلك كان له نصيبه من النجاحات السينمائية في أفلام مثل "المجتمع المخملي" مع بينغ كروسبي وفرانك سيناترا وغريس كيلي، أو، طبعاً "هاللو دوللي" الذي ختم به نجاحات حياته الكبيرة، هو الذي سيرحل وهو في القمة عام 1971.

المزيد من ثقافة