Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

يعتقد الغرب أن العقوبات ستقلب الروس على بوتين لكن للتاريخ رأيا آخر؟

المعاناة المشتركة تغضبهم وتولد رغبة للرد وتعزز فرص اصطفافهم مع حكومتهم

يقود الرئيس الروسي حرباً بلا هوادة في أوكرانيا ويستخدم فيها أقوى أسلحة التدمير (رويترز)

حينما افتتحت مطاعم "ماكدونالدز" للمرة الأولى في موسكو عام 1990 كانت رمزاً لعصر روسيا الجديدة الموالية للغرب، لكن مع انتهاء هذه الحقبة عبر نزوح جماعي للعلامات التجارية الغربية كجزء من العقوبات على موسكو بعد غزوها أوكرانيا، تنتشر القومية الروسية نتيجة للاختناق الاقتصادي الذي يعتقد الغرب أنه سوف يحدث الأثر المطلوب وهو انقلاب الروس على رئيسهم فلاديمير بوتين، فما الذي يقوله التاريخ حول قدرة الروس على العيش وسط الاضطرابات وعدم الاستقرار وتحملهم تجارب اجتماعية قاسية خلال القرن الـ 20، حتى ولو كانت قياداتهم السياسية هي من جرت عليهم البلاء؟

نزوح العلامات التجارية

بينما يقود الرئيس الروسي حرباً بلا هوادة في أوكرانيا، ويستخدم فيها أقوى أسلحة التدمير من صواريخ "هايبرسونيك" (أسرع من الصوت بخمس مرات) وصواريخ بعيدة المدى، والقذائف المتنوعة، يتزايد أعداد اللاجئين الأوكرانيين الفارين من جحيم الحرب إلى البلدان المجاورة، لكن شيئاً آخر أصبح في حال فرار ونزوح جماعي مستمر من روسيا وهي العلامات التجارية الغربية، التي دخلت روسيا للمرة الأولى عام 1990 عندما افتتحت مطاعم "ماكدونالدز" الأميركية أول فروعها في العاصمة موسكو، وكان وصوله رمزاً لروسيا الجديدة الموالية للغرب قبل عام واحد من انهيار الاتحاد السوفياتي ومنظومته الشيوعية وستاره الحديدي بعد 64 عاماً من الوجود.

غير أن هذه الحقبة وما شهدته من انفتاح واسع على الغرب على مدى أكثر من ثلاثة عقود، انتهت بشكل مفاجئ منذ أن قرر بوتين غزو جارته أوكرانيا يوم 24 فبراير (شباط) الماضي، بانسحاب مئات العلامات التجارية الغربية واسعة الانتشار في مختلف المجالات وإن استمر القليل منها في العمل، الأمر الذي يعتقد باحثون أنه يفسح المجال لانتشار سريع للقومية الروسية، كنتيجة مباشرة للاختناق الاقتصادي للبلاد الذي تسببه العقوبات ورفض الغرب الواسع لروسيا وحربها على أوكرانيا.

هدف العقوبات

يستهدف الغرب من معاقبة روسيا، أن تضع الأزمة الاقتصادية الرهيبة التي أثارتها العقوبات نهاية للحرب الدموية ضد أوكرانيا، ليس فقط عبر الضغط على الدائرة المالية المقربة من الرئيس بوتين، وإنما أيضاً إلحاق أكبر ضرر ممكن بالمواطن العادي على أمل أن تتزايد الضغوط المعارضة للحرب في الشارع الروسي وتدفع بوتين على تغيير مسار الحرب وقبول وقف إطلاق النار أو تسوية سلمية سريعة يمكن أن تخفف من العقوبات التي بدأ المواطن يشعر بها مع ارتفاع تكلفة الغذاء والمنتجات الأساسية والأجهزة الكهربائية والسيارات والأدوية، وتزايد خطر فقدان الوظائف، فضلاً عن اختفاء أسماء العلامات التجارية الغربية التي أغلقت فروعها وخرجت من السوق.

وبينما يتوقع البنك المركزي الروسي انكماش الاقتصاد بنسبة ثمانية في المئة، يبدو أن اضطرار كثيرين من الروس إلى التخلي عن أسلوب حياتهم، بما في ذلك تأثر تواصلهم عبر وسائل التواصل الاجتماعي، وعدم القدرة على السفر، وشعورهم المتزايد بالعزلة، هو ما تراهن عليه الولايات المتحدة ودول غرب أوروبا لزيادة الألم الاقتصادي والنفسي الذي يتصورون أنه قد يحدث الأثر المطلوب. 

معاناة الروس الدائمة

ومع ذلك، يبدو أن العقوبات لن تحدث الأثر الذي يطمح إليه الغرب، فالروس معتادون على الاضطرابات وعدم الاستقرار وفقاً لما تقوله جوليا هورهاغر، أستاذة الدراسات الثقافية والدولية في جامعة ولاية كولورادو، ذلك أن الروس تحملوا تجارب اجتماعية قاسية خلال القرن الـ 20، وأوائل القرن الـ 21، فقد خرجت روسيا فقيرة من الحرب العالمية الأولى، وأسقط البلاشفة حكم القيصر بوحشية عام 1917 لتبدأ فترة طويلة من الحكم الشيوعي السوفياتي استمرت أكثر من ستة عقود، وباسم القضية الثورية، استخدموا أساليب قاسية لقمع أعدائهم السياسيين.

ويشير كثير من الدراسات الأكاديمية، إلى أن البلاشفة كانوا يعتقدون أن مصالح الفرد يجب التضحية بها من أجل مصالح الدولة، التي صوروها بأنها تقدم مهمة اجتماعية مقدسة، وفي عام 1929، ألغيت الملكية الخاصة وأمر القادة السياسيون بطاعة مطلقة للدولة السوفياتية، وسعى جوزيف ستالين (1917 - 1956) إلى بناء الاشتراكية عن طريق نفي الملايين إلى معسكرات العمل القسري وإعدام العديد منهم بدم بارد، ضمن برامج زراعية وصناعية أدت إلى معاناة إنسانية هائلة وخسائر في الأرواح، إلى أن اندلعت الحرب العالمية الثانية التي تطلبت تضحية مؤلمة من كل مواطن روسي، بما في ذلك النساء والأطفال.

وبعد انتهاء الحرب، بنى الاتحاد السوفياتي ما وصف بالستار الحديدي الذي منع مواطنيه من السفر والتواصل مع الغرب، وأدت محاولات الدولة السوفياتية توسيع نفوذها الشيوعي في مواجهة نفوذ الولايات المتحدة إلى الحرب الباردة، وزيادة النفقات على التسليح والجيش الأمر الذي أدى مع انتشار اللامبالاة والفساد الإداري إلى تفكك مؤلم لاتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفياتية عام 1990 مع محاولات إصلاحية متأخرة من الزعيم السوفياتي ميخائيل غورباتشوف باءت بالفشل، وهو ما تبعه اضطراب اقتصادي واسع في روسيا المشكلة حديثاً، إلى جانب انتشار البطالة ومعدلات الانتحار المرتفعة.

اعتياد الصعاب

وتقول إيفجينيا بياتوفسكايا، الباحثة في جامعة جنوب فلوريدا الأميركية إلى أن كل هذه المصاعب التي عايشها الروس تشير إلى أنهم لا يمكن أن يتخوفوا من غياب السلع الذي تفرضه العقوبات الاقتصادية الغربية الأخيرة حتى بعدما أصبحت علامات الأزياء الراقية وأجهزة "آيفون"، والقهوة الفاخرة، والسيارات الأجنبية جزءاً من الحياة الروسية على مدار الأعوام الـ 20 الماضية، ذلك أن الروس امتلكوها لفترة قصيرة، ما يعني أنه يمكنهم تخيل الحياة من دونها.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وتوضح بياتوفسكايا إلى ضرورة الأخذ في الاعتبار، أن معظم الشركات والمنتجات الفاخرة التي حظرها الغرب، بما فيها مطاعم "ماكدونالدز" التي تعتبر شركة فاخرة في روسيا، توجد بالأساس في موسكو والمناطق المجاورة لها، في حين أن الغالبية العظمى من الروس لم يتمكنوا من رؤيتها في مدنهم، ما يشير إلى أن غالبية الشعب الروسي لن تتأثر كثيراً بالعقوبات المتصلة بالسلع والمنتجات الفاخرة والترفيهية.

متحدون في كفاحهم

وعلاوة على ذلك، يقول التاريخ إن أي صراع سياسي واقتصادي وحد روسيا وشعبها، لا سيما في مواجهة عدو مشترك الذي كان تقليدياً يتمثل في الولايات المتحدة والدول الغربية، ووحدت الحرب العالمية الثانية والحرب الباردة الأمة الروسية حول فكرة التضحية بالنفس باعتبارها مركزية للهوية السوفياتية المتفردة التي تتكون من أمة متفوقة أخلاقياً تضحي بالروح.

وشملت الهوية السوفياتية مجموعة كبيرة ومتنوعة من الأعراق، بما فيها روسيا، وعلى الرغم من أن موسكو كانت عاصمة اتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفياتية، واللغة الرسمية للاتحاد السوفياتي هي الروسية، إلا أن الاتحاد كان يتألف من 14 جمهورية إضافية، ووحد أكثر من 100 قومية مختلفة تم فرض التشابه بينها عن طريق الاستيعاب القسري من خلال نشر اللغة والثقافة الروسية، فضلاً عن احتكار الدولة كل شيء، بما في ذلك السيطرة على التفكير الجمعي، لذا فإن كلمة "سوفياتي" تشير إلى أي شخص عاش في الاتحاد السوفياتي، بما في ذلك الأوكرانيون والروس والجورجيون والبيلاروس والأرمن والأذربيجانيون وغيرهم.

واستخدم الاتحاد السوفياتي خطاباً رناناً، يُمجد تشابه السوفيات والتضحية الأخلاقية للشعب كمحرك للوطنية والولاء للوطن الأم، الذي كان جوهره روسيا، ومن بين الشعارات الدالة على ذلك، "فكر في وطنك الأم، وبعد ذلك فكر في نفسك"، "أنا هو الحرف الأخير من الأبجدية" في "السيريلية"، لغة الشعوب السلافية.

في النهاية، تم فهم واستخدام كل من روسيا والاتحاد السوفياتي بشكل متبادل ومتماه في الداخل والخارج، وبالنسبة للقوميين الروس، وبخاصة أولئك الذين ولدوا ونشأوا في الاتحاد السوفياتي، فإن مشاهدة أوكرانيا وهي تعانق الغرب في الفترة الأخيرة، كانت تعني بالنسبة لهم التخلي عن جزء من تاريخ روسيا يذهب مع أوكرانيا.

نتائج عكسية

ويعتقد بعض الباحثين المهاجرين من أصول روسية، أن استراتيجية العقوبات الغربية يمكن أن تأتي بنتائج عكسية، فعلى الرغم من أن كثيرين من الروس يرفضون الحرب في أوكرانيا، ولا يؤيدون الحكومة التي جرتهم إليها، إلا أن جميع الروس يعانون من العقوبات ويتأثرون بالأزمة، ولهذا، فإن معاناتهم المشتركة تعد أمراً خطيراً على الرغم من كونها مألوفة للغاية، ذلك أنها تجعلهم غاضبين، وتولد رغبة لدى البعض في الرد على هذه المعاناة، تنبع من العقلية القومية الروسية، التي نشأت في العهد السوفياتي، وتؤثر الآن حتى على الأجيال التي نشأت في روسيا ما بعد الاتحاد السوفياتي.

وإذا كان البعض يتحدث عن أن الحريات الغربية جذابة للشباب الروسي، فإن ذلك يمكن أن ينطبق بشكل جزئي فقط، إذ إن الروس لم يمتلكوا هذه الحريات تاريخياً، لا حرية التعبير ولا حرية تقرير المصير ولا حرية الأديان، أو حتى حرية السفر غير المقيد، وبدلاً من ذلك، فإن الشعب الروسي يتحلى بالصبر، والقدرة على تحمل الألم والمعاناة، وغالباً ما يكون مخلصاً بشكل مبالغ لوطنه الأم، حتى ولو كان زعيمه الأوتوقراطي هو من قرر بدء الحرب.

الدب الجريح

وتعتقد جوليا هورهاغر من جامعة كولورادو الأميركية أن الروس الآن في مأزق كبير، فالدولة التي تقصف وتدمر أوكرانيا حالياً هي أيضاً وطنهم الحبيب، وهي الآن المكان الوحيد في العالم الذي يقبلهم ويتسع لهم، وإذا كانت بلادهم منبوذة دولياً، فإن هذا ليس بالأمر الجديد على الروس، ولهذا فإن فرص اصطفاف الروس إلى جانب حكومتهم تعد كبيرة بسبب شعورهم بالرفض من قبل المجتمع الدولي، ومن المرجح أن يؤدي ذلك إلى تعزيز نظام بوتين تحت ستار استعادة الصناعة والاقتصاد في البلاد في مواجهة الرفض الغربي.

وفي ظل هذه الأجواء، سيكون لروسيا عدو مشترك مرة أخرى، بينما يخبو صوت التمرد والعصيان الذي عادة ما تكون له عواقب وخيمة، ولن يتم سماع المعارضة التي يعلم الروس حكايات أشهر قادتهم والذين انتهى بهم الحال إلى القتل أو زج بهم في السجون، مثل آنا بوليتكوفسكايا، وألكسندر ليتفينينكو، وبوريس نيمتسوف، وأليكسي نافالني.

ولهذا، فإن تشجيع الدول الغربية الروس على الاحتجاج ضد حكومتهم، بينما يقطع الغرب العلاقات الطيبة معهم، يصبح بالنسبة للروس تناقضاً أيديولوجياً، لأن الغرب يعاقب الناس على ما تفعله تلك الحكومة بينما تخنقهم العقوبات اقتصادياً.

وكما يقول الروس، فإن قواعد السلامة تصبح مسألة حياة أو موت في سيبيريا حيث موطن الدب الروسي، ومن بين أهم القواعد أن تترك للدب دائماً طريقاً للهروب، لأنه يصبح عدوانياً في ثلاث حالات، حينما يكون جريحاً، وعندما تحاصره، وحين يضطر إلى حماية أشباله تحت التهديد، والدب الذي يمثل الأمة الروسية، هو بالفعل جريح ومحاصر.

المزيد من تحلیل