Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

لولا الإمضاء والزينة لانقرض القلم

ظهرت مبادرات لإعادة أحياء الكتابة بخط اليد

فتاة تشارك في مسابقة للخط في طوكيو (رويترز)

منذ أن ظهرت الآلة الكاتبة، ومن بعدها لوحة مفاتيح الكمبيوتر، ومن ثم "اللابتوب"، والتليفون المربوط بالإنترنت طوال الوقت، كتب كثيرون، وبشكل مبالغ فيه عن "موت القلم" الذي لم نعد نحتاج إليه فعلياً إلا للتوقيع على ورقة ما، أو حين تسجيل ملاحظات على ثلاجة المنزل. وهذا ما حدث بالفعل، إذ بات بإمكاننا كتابة أي شيء، حتى لو ملاحظة نتذكرها أو موعد لأسابيع مقبلة، أو أي فكرة تخطر في بالنا بات بإمكاننا كتابتها على لوحات المفاتيح الإلكترونية اليوم، بل وتقوم مواقع التواصل مثل "فيسبوك" بحضّنا على الكتابة عبر سؤال "ما الفكرة التي تفكر بها الآن"، وحاولت شركات التقنية الاتصالية المتطورة أن تُعيد المجد للقلم عبر استخدامه إلكترونياً في الأجهزة الحديثة، ولو أن هذه الفكرة والصناعة لم تلقَ انتشاراً كبيراً، وعادت واختفت رويداً رويداً.

وكأن الذين اعتادوا على لوحة المفاتيح ونقرها بالأصابع نسوا كيفية استخدام القلم، وهناك كُثر يقولون إنهم يشعرون وكأنهم ما عادوا يعرفون كيفية استخدام القلم، فيظهر خطهم كما لو أنه "خربشة" كما لو فقدوا حرفة كتابة الأحرف ويبدو مائلاً ومنحرفاً في الكتابة على ورقة بيضاء بلا خطوط.

هل مات القلم فعلاً؟

كثيرون يقولون إنهم حين يحتاجون إلى القلم لتوقيع إيصال أو لأي عمل بسيط، لا يجدون قلماً لا في الحقيبة، ولا حتى في أنحاء المنزل. فالقلم مثله مثل كثير من الأدوات التي اختفت منذ بدأنا تلقين أجهزتنا كل ما نريد كتابته، ولكن هل هذا يعني موته نهائياً، على الرغم من أن شركات الأقلام الفاخرة تنشر إعلاناتها حول أقلامها مرتفعة الثمن، والتي تبدو كزينة وأكسسوار لحاملها أكثر منها قلماً للاستعمال، بعد أن كان تعليق القلم الفاخر في الجيب الأمامي للبدلة الرسمية دليلاً على أن حامله مثقف أو كاتب أو يهتم بأمور الكتابة، إضافة إلى التشاوف بالقلم الثمين، إلا أنه بات اليوم تقريباً مجرد زينة تكمل سائر المظهر كما هي حال ساعة اليد الفاخرة، فصاحبها لم يعد يحتاج إليها لمعرفة الوقت الموجود على هاتفه وفي جهازه الإلكتروني، لكن الساعة لم تعد مجرد أداة تدل على الوقت، وإنما أداة للتميز والظهور في مظهر مختلف أيضاً، كذلك القلم الفاخر.

إذاً أين بات القلم في ظل وسائل الكتابة الكثيرة؟

أولاً، لا بد من التذكير أن الكتابة باليد بأي نوع من أنواع الأدوات، هي واحدة من أعرق المهارات الإنسانية، وواحد من أعمدة الحضارات لأكثر من خمسة آلاف سنة.

الباحثة والكاتبة مهى قمر الدين في مجلة "القافلة" السعودية، في بحثها حول تاريخ الكتابة اليدوية كتبت: "منذ أن بدأت الكتابة في بلاد ما بين النهرين في الألفية الرابعة قبل الميلاد، مرت بتغيرات تقنية عديدة، وتنوعت الأدوات والوسائط المستخدمة فيها، من المسمار والطين في الألواح السومرية في بلاد الرافدين، إلى الرسم في الهيروغليفية الفرعونية، ثم الأبجدية الفينيقية التي ظهرت في الألفية الأولى قبل الميلاد، ومن اختراع الورق في الصين بعد نحو 1000 عام، إلى أول مجلد مخطوط بخط اليد حزمت أوراقه وجمعت مع بعضها لتشكل كتاباً وأحداً، وصولاً إلى اختراع الطباعة في القرن الـ15، وظهور أقلام الحبر في الأربعينيات من القرن الـ20".

ووفقاً لاستنتاج قمر الدين، يمكننا القول إن المعركة القائمة اليوم بين لوحة المفاتيح الرقمية والأقلام، ليست أكثر من تطور في قصة طويلة، تشكل اللوحات الرقمية فيها أداة جديدة أخرى، سننتهي بالتعود عليها واعتمادها بشكل دائم. وهذا يتناول وسائل الاتصال الاجتماعي نفسها التي يرفضها كثيرون بسبب أضرارها على حياتهم الشخصية وعلى أولادهم، والتي يقول باحثون كُثر إننا سنعتاد عليها كما اعتدنا على الراديو والتلفزيون بعد ظهورهما واعتبارهما أدوات شيطانية تهدم الأسرة في حينه.

ولكن استنتاجات قمر الدين الأهم حول الكتابة بالقلم، وبرأيها أن للكتابة اليدوية لغتها الخاصة التي تعكس شخصية الكاتب وسلوكه ومزاجه، وهي تشبه بصمة الإصبع الخاصة بكل فرد، من هنا جاء الاهتمام بدراسة الكتابة اليدوية، أو ما يسمى "تفسير الخط"، الذي يهتم بتحليل خط اليد وطريقة كتابة الحروف، واستخدم هذا التحليل في فك شيفرات جرائم كثيرة، وكذلك في الدعاوى القانونية التي لا يقر أصحابها بأنهم كتبوا العقد أو الرسالة المعينة أو وقعوا على ورقة ما، فجاء علم مقاربة الخطوط ومقارنتها لحل هذه المشكلات الشائكة، لأن خط اليد كالبصمة، فريد وخاص بصاحبه.

دلالات الكتابة بالقلم والخطوط

يُعد التوقيع الشخصي مسألة جوهرية في الكتابة اليدوية، إذ تعتقد إيلين نيس، المتخصصة في تحليل الخطوط اليدوية، أن التوقيع يعكس مهارات الاتصال لدى الأفراد، فإذا كان التوقيع سهلاً ومقروءاً فهذا يعني أن الشخص يعبر عما يريده بارتياح، بينما يشير التوقيع غير المقروء إلى أن صاحب التوقيع يرغب في إخفاء شخصيته.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وفي السياق نفسه، خلصت الدراسات الحديثة في مجالي العلوم والتكنولوجيا وعلم النفس التربوي، إلى أن الطريقة التقليدية في الكتابة بخط اليد، تساعد بشكل ملحوظ على تذكر المعلومات، وتسهم في رفع معدلات الذكاء لدى الأطفال على نحو أفضل من استخدام لوحة الكمبيوتر، وهذا ما أكدته نتائج دراسة أجراها علماء من الجامعة النرويجية للعلوم والتكنولوجيا أجراها علماء من الجامعة النرويجية للعلوم ونشرت في شهر أكتوبر (تشرين الأول) 2020 في مجلة "آفاق علم النفس"، "Journal Frontiers in Psychology"، وفي بحثها حول علم النفس التربوي المتعلق وتأثير الكتابة اليدوية على أدمغة الأطفال، وجدت الدكتورة هدى صباح أنها تنشط وظائف الدماغ وتساعد الكتابة بخط اليد على تنمية المهارات الحركية الدقيقة، وتطوير المهارات الوظيفية الدماغية، كما تساعد على فهم الأمور واستيعابها أكثر.

وشدد الباحثون على أهمية الكتابة اليدوية كخطوة تمهيدية للتعلم لدى الأطفال، فهي تُعد من العوامل المهمة في تنمية مهارات عدة، ومنها: التنبيه، والتركيز، وتحفيز الذاكرة، وتنظيم الأفكار بشكل منهجي، فضلاً عن استثارة المراكز الذهنية، وتطوير القدرات المعرفية لدى الأطفال.

أدوات الكتابة

في البداية، كانت أدوات الكتابة عبارة عن قطع حديدية أو خشبية حادة تشبه المسامير، ومنها أعطي اسم الكتابة المسمارية على ألواح الطين في وادي الرافدين، واستخدم المصريون القدماء الكتابة بالبوص على ورق البردي في مصر الفرعونية، وظلت الكتابة المسمارية منتشرة حتى آخر القرن الميلادي الأول، وقد ظهرت أولاً عند السومريين، ثم اعتمدها البابليون والآشوريون، في المعابد الفرعونية، تطورت الكتابة بالقلم الخشبي الحاد من التصوير إلى كتابة الرموز الكتابية، لكن النقش بالقلم المسمار ظل معتمداً، ومن أشهر النصوص المكتوبة بالقلم المسماري، ملحمة جلجامش، وشريعة حمورابي الملك البابلي (1728 – 1686 قبل الميلاد)، وهي تضم القانون المدني وقانون الأحوال الشخصية وقانون العقوبات.

الباحث والكاتب فيصل يعيد بن سلمان أشار إلى الأقلام التي استخدمها الكتاب والفلاسفة والشعراء العرب، والتي تنوعت إلى 12 نوعاً. ومنها: "القلم الجليل"، أول ما ظهر في أواخر العصر الأموي، وأوائل الدولة العباسية، وكان يستخدم في الكتابة في المحاريب وعلى أبواب المساجد وجدران القصور، ونحو ذلك.

ومن هذه الأقلام "الطومار"، وكان مخصصاً لتوقيع الخلفاء على المكاتبات ومراسلة السلاطين وكبار الدول، ومنها قلم "مختصر الطومار"، و"ثلثا الطومار"، وكان لكتابة اعتماد الوزراء على المراسيم، وكتابة السجلات المحفوظة. وكان قلم الثلثين لكتابة الخلفاء إلى العمال والولاة والأمراء. ومن الأقلام، القلم المدور الصغير، وهو لكتابة الدفاتر، ونقل الحديث والشعر، وقلم العهود، وهو لكتابة العهود والبيعات، وقلم غبار الحلبة، وهو لكتابة بطائق الحمام الزاجل. وورث اليونان والرومان عن المصريين، الكتابة على ورق البردي، لكنهم استعملوا كذلك الجلد، وكان قضيب المعدن المدبب والمقلم الذي يكتب به الرومان يسمونه: "ستيلوس" (stylus)، ومنه أخذ الفرنسيون تسميتهم لقلم الحبر الحديث: "ستيلو" (stylo).

في أوروبا، بعد عصر الرومان، والاستفادة من العلوم العربية والإسلامية المتطورة، لا سيما من خلال التماس مع الحضارة الأندلسية، أخذت الكتابة تنتشر في القرون الوسطى، فسمى الإنجليز القلم "pencil" التي تعني: الذنب الصغير، لأن القلم كان عوداً في آخره شعيرات من وبر الجمل، هي ريشة للكتابة، ومنه تطورت ريشة الرسم التي نعرفها اليوم.

هناك مبادرات عالمية كثيرة حول الخطوط اليدوية، ومنها اليوم العالمي للخط العربي، واليوم العالمي للقلم، وهناك منظمات وجمعيات كثيرة حول العالم يمكن اختصارها بأصدقاء القلم، والتي قد تدل على أهمية العود إلى القلم للكتابة، ولكنها في الوقت عينه قد تدل على عمل ثقافي فكري وكتابي، وظهرت مبادرات عدة من أجل إعادة أحياء الكتابة بخط اليد، قد يكون أبرزها تعيين يوم عالمي للكتابة بخط اليد في 23 يناير (كانون الثاني) من كل عام.

المزيد من تحقيقات ومطولات