يضم كتاب "سارقة النار" الصادر حديثاً في تونس عن منشورات عليسة، مجموعة من "الاعترافات" أدلت بها الروائية التونسية حفيظة قارة بيبان في مناسبات مختلفة، لتسلط من خلالها الضوء على مسيرتها الأدبيّة، وتفتح في الوقت ذاته مختبرها الكتابي للقارئ، مصورة بحس درامي لافت لحظات تخلق النص الإبداعي لديها.
تحفر الروائية بأسلوب سردي أنيق، في ماضيها البعيد صاعدة إلى البدايات حين كانت بنتاً صغيرة تتهجّى العالم بعينين مندهشتين وقلب مرتجف.
فالكاتبة نشأت في بيت مغلق النوافذ، مسدل الستائر، شاهق الجدران، أما ربته فهي عين تراقب حركات البنت بحذر وريبة، وتتوجس خيفة من الجوار. هذا الانغلاق كان يشتد "مع تنامي الوعي لتصبح الجدران عبر توالي السنين قيدا يطوّقني". كان الهاجس المهيمن على البيت هو الخوف على البنت وربما الخوف منها أيضاً.
لم يكن لهذه الطفلة المليئة بالحياة، من فسحة غير الذهاب إلى ما وراء بستان الأهل، حيث يمتد البحر غامضاً وساحراً في آن. هذه العودة إلى الماء إنما هي عودة رمزية إلى ما قبل الولادة، إلى ما قبل الحلول في العالم. فليس غريباً أن يصبح هذا العنصر في أعمالها الأدبية رمزاً مثقلاً بالمعاني، يتحول إلى هوية واسم ثان للكاتبة.
ومثل مي زيادة وليلى بعلبكي وفضيلة الفاروق وسهام مرضي أصرت الكاتبة على "الخروج عن الطابور" لتشق لنفسها طريقاً مختلفاً بعيدا من الزحام، ومنطق الإجماع والجماعة. كانت تتوق إلى إنجاز حلم طفولتها المزدوج المتمثل في احتراف الغناء والشدو بأعذب الألحان من ناحية، والإقبال من ناحية أخرى على التمثيل وتقمص شخصية العاشقة أو الملكة أو الطريدة المعذبة.
لكن هل يمكن لهذه البنت الصغيرة أن تقهر بمفردها سلطة التقاليد "في مدينة صغيرة مسورة"؟ وكيف لها أن تتجاوز القوانين الحجرية وتتمكن من قهر الحصار والموت؟.
اختارت البنت أن تقاوم، أن ترفع قبضتها عالياً وتواجه الحصار الذي ضرب حولها منذ طفولتها الأولى. صحيح أنها لم تعد تسعى إلى احتراف الغناء أو التمثيل، لكنها استبدلت فتنة بفتنة: فتنة الموسيقى والفن الرابع بفتنة اللغة. اللغة بوصفها طريقا للخلاص، أداة مقاومة، أسلوب رفض واحتجاج. أن تكتب فهذا يعني أن تستدرك على العالم، يعني أن تهدم وتبني من جديد وأن تأخذ جزة الخلود الأبدية عن كتف الله، كما يعبر الروائي كازانتزاكيس.
اللغة طريقة غزو وفتح
وفي صفحات من الأدب الرفيع تحدثت الروائية عن تجربتها مع الكتابة أو على حد عبارتها مع "رعشة الخلق" تقول: "ظل حلم الخلق، وأنا أفتح دروبه يمنحني تلك اللذة الخارقة الفريدة التي تكلل الوجع القادح لنار الكتابة، لذة تحييني وتبعثني أكثر قوة وأشد توهجا وتحديا".
كثيراً ما تتردد عبارة الكتابة لدى حفيظة مقترنة بالنار أو بما يرادفها من كلمات. في هذا السياق عدّت نفسها "سارقة النار"، أي قرينة برومثيوس الذي استحوذ على المعرفة بعد أن كابد من أجل ذلك صنوفاً من العذاب متنوعة، وكأنها تقتفي أثر عدد كبير من الأدباء، جمعوا بين فعل الكتابة وفعل سرقة النار جمع قرين بقرين. فمنذ مسرحية "برومثيوس مكبّلاً" للشاعر الإغريقي إيسخيلوس، وصولاً إلى اندريه جيد، مروراً بغوته ولورد بايرون وأبي القاسم الشابي، ظل برومثيوس رمز الإرادة الإنسانية الجامحة، وظل الاستحواذ على المعرفة استحواذاً على قبس من نار آلهة الإغريق.
في سن مبكرة اكتشفت الكاتبة الناشئة القصة القصيرة، فمضت بحماسة كبيرة تسعى إلى تطويعها لتقول من خلالها تجربتها وجروحها الغائرة. فبالتقاط القصة القصيرة موقفاً أو حدثاً أو حالة، فإنها تفتح كوة يطل من خلالها المتلقي على أعماق الذات الإنسانية المختفية وراء عدد لا يحصى من الأقنعة. لكن سرعان ما تفطنت الكاتبة إلى أنها في حاجة إلى فضاء أرحب ومساحة أكبر. فالقصة القصيرة، بعد عدد من التجارب الناجحة، ما عادت قادرة "على رتق مزق الذات ... فصرختي أصبحت في حاجة إلى مدى أوسع ليعود طائر الفينيق قادراً على التحليق من جديد...". هكذا أقدمت على كتابة الرواية، معزية نفسها بأن هذا الجنس من القول يمنح المبدع حرية أكبر.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ومن أهم تجارب حفيظة الروائية نصها الجميل " العراء"، الذي يأخذنا إلى مرحلة الثمانينيات حين قدم ألف مقاتل فلسطيني هرباً من جحيم بيروت، للإقامة في تونس. تصور الرواية العلاقة التي انعقدت بين "دجلة العامري" وهي كاتبة تونسية و"غسان سلمان"، وهو شاعر فلسطيني. فصول الرواية تتناوب الشخصيتان على كتابتها: دجلة وغسّان. والواقع أن كل الأحداث كانت تعلّة لاستقصاء "تجربة الجسد" وتأملها بعمق ونباهة.
تجربة أدب الطفولة
عرّجت الكاتبة من ثم، على تجربتها مع أدب الطفولة الذي خبرته من خلال تأليف عدد من الحكايات الموجهة للطفل. وأدب الطفولة هو النوع الوحيد الذي بقى، في نظر الكاتبة، رديف الحلم والدهشة والغرابة، فيما أصبحت كل الأنواع الأخرى، بما فيها الشعر، قرينة التأمل والتفكير وكد الذهن.
والواقع أن حفيظة كانت تتلافى في البداية الكتابة للأطفال "تقديراً للمسؤولية الثقيلة في التوجه لرمز النقاء الإنساني". لكنها في مرحلة ثانية أقبلت على خوض التجربة وألفت عدداً من الحكايات تحدثت عنها بتبسط وحاولت رصد خصائصها. فالكتابة للأطفال تعني الارتداد إلى زمن سابق على المنطق، حيث لا تمييز بين الطبيعي والخارق، بين القوى السحرية والقوى الطبيعية. فالقانون المسيطر على عالم الطفولة، هو "قانون التعاطف والمشاركة المتبادلة" لا قانون التناقض، وهذا يعني أيضاً أن يدخل الكاتب "مجتمع الحياة" حيث تنعقد بين الإنسان والرعد القاصف، والظل المباغت والحيوان الجامح أواصر قربى عديدة.
لهذا وجب القول إن كتّاب قصص الأطفال هم صائغو أساطيرنا الجديدة بعد أن فقدت الأساطير القديمة دورها وانطفأ بريقها الأول، وهم آخر من يصر على إخراج الإنسان من زمن "اللوغوس" وإعادته إلى زمن "المثيوس". لكن هذه العودة إلى "الميثوس" لا تعني إلغاء الواقع أو تغييبه، فالكاتبة ظلت في كل حكاياتها الموجهة للطفل، ترصد صراع الإنسان مع أقداره وبحثه عن حريته في عالم يقمعها. بعبارة واحدة ظلت حفيظة قارة بيبان تكتب دوماً "أدباً مقاوماً وحالماً في آن".