الجملة التي استوحاها فلاديمير بوتين من واقع الفولكلور الروسي وحار مترجمو اللقاء الأخير مع نظيره الفرنسي إيمانويل ماكرون أمام دقة نقلها إلى اللغة الفرنسية، تظل حديث الساعة في الأوساط السياسية الروسية والأوكرانية والأجنبية، لما تتضمنه من دلالات قد تكون القول الفصل، للتوصل إلى الحلول المناسبة للخروج بأوكرانيا والمنطقة من الأزمة الراهنة. هذه الجملة التي تتردد ضمن الأغنيات الشعبية الفولكلورية المرجع والمنشأ، وتعني ترجمتها: "أيتها الحسناء.. عليك التحلي بالصبر، سواء أعجبك أم لم يعجبك! أو "بالعربية الدارجة": "تحملي يا عروسة.. عجبك أم لم يعجبك"، استشهد بها بوتين في إطار تأكيد ضرورة التزام أوكرانيا تنفيذ اتفاقيات مينسك الموقعة في فبراير (شباط) 2015 تحت رعاية ما يسمي رباعي "نورماندي" الذي ضم زعماء "روسيا، وأوكرانيا، وألمانيا، وفرنسا". قالها الرئيس الروسي تعليقاً على ما قاله نظيره الأوكراني فلاديمير زيلينسكي حول، "أن اتفاقيات مينسك لا تعجبه".
ورغم ما تحمله هذه الكلمات من معانٍ توحي بضرورة الاستسلام أمام نوائب القدر وأحكامه، وبأن الرئيس الأوكراني ملزم بتنفيذ بنود اتفاقيات مينسك التي لا تعجبه، فإنها وجدت "تفهماً مفعماً بقدر لا بأس به من التحفظات" لدى الجانب الأوكراني، كشف عنه الرئيس فلاديمير زيلينسكي في معرض تعليقه على ما استوحاه نظيره بوتين من واقع الفولكلور الروسي. قال زيلينسكي، إنه يتفق مع ما استشهد به بوتين من مفردات، منها ما يؤكد "أن أوكرانيا هي المقصودة بالحسناء وهو ما لا يمكن أن يكون مثاراً للجدل فضلاً عن أن مناشدتها الصبر لا يمكن أن يعني سوى الاعتراف لها بالحكمة".
ومضى الرئيس الأوكراني ليقول، إن هناك من الأشياء التي لا يمكن فيها الجدل مع رئيس روسيا الاتحادية. ولذا فإنه سيتحول إلى اللغة الروسية ليقول، إن أوكرانيا بالفعل حسناء شديدة الصبر، لأن ذلك رمز الحكمة. وذلك أمر مهم ليس فقط بالنسبة لأوكرانيا، بل ولكل أوروبا. بل وللروس أيضاً، نظراً لأن صبرنا يتوقف على ما نلمسه من تصعيد على الجانب الآخر". واستطرد ليقول، إن "أوكرانيا تسلك سلوكاً يتسم باللياقة والحصافة وتدافع عن أراضيها".
وثمة ما يشير إلى أن "تنفيذ اتفاقيات مينسك" يكاد يبدو النتيجة الرئيسة التي أسفرت عنها مباحثات الساعات الست بين الزعيمين بوتين وماكرون في الكرملين، وهو أيضاً ما يبدو أن الرئيس الفرنسي كان قريباً من إقناع نظيره الأوكراني بضرورة الالتزام به. أما عن جوهر هذه الاتفاقيات فيتلخص وفي إيجاز في التزام السلطات الأوكرانية إقرار "وضعية خاصة" للمناطق "الانفصالية"، في مقاطعتي لوغانسك ودونيتسك في جنوب شرقي أوكرانيا وإجراء الانتخابات المحلية، وتأمين السيادة الأوكرانية على هذه المناطق وسحب التشكيلات الأجنبية المسلحة وإجراء الإصلاحات الدستورية التي تنص على الوضعية الخاصة لهذه المناطق، وبكل ما يتعلق بالإدارة الذاتية والشرطة والقضاء والنيابة العامة واستخدام اللغة الروسية في هاتين المقاطعتين.
وذلك كله هو ما يجب التوصل إليه عبر الحوار المباشر بين ممثلي هاتين المنطقتين والسلطات الأوكرانية، بحسب ما نصت عليه اتفاقيات مينسك، وما أعقبها من توصيات تقدم بها عدد من الأطراف ومنهم فرانك - فالتر شتاينماير من منصبه السابق كوزير لخارجية ألمانيا.
وكان زيلينسكي ومنذ تقلده مهام منصبه رئيساً للجمهورية منذ ما يزيد على العامين، قد تأرجح بين قبول تنفيذ هذه الاتفاقيات التي وقعها سلفه بيتر بوروشينكو بحضور كل من الرئيس بوتين والمستشارة الألمانية السابقة أنغيلا ميركل والرئيس الفرنسي السابق فرانسوا هولاند. أما عن مدى استعداده لتنفيذ اتفاقيات مينسك فلم يشر الرئيس الأوكراني بشيء محدد. كما أعلن وزير خارجيته دميتري كوليبا، أن "الرئيس ماكرون جاء بأفكار، وليس بمقترحات"، وأضاف قوله: "نحن في مرحلة يحاول فيها الطرفان، التواصل مع بعضهما البعض، فهم حدود التسويات والخطوات المقبولة قدر الإمكان من أجل الخروج من المأزق الراهن". أما عن تنفيذ "اتفاقيات مينسك"، فقال كوليبا، إنه "لن يكون هناك خيار يفرض فيه علينا أحد شيئاً ما، وإن أوكرانيا لن توافق على إجراء حوار مباشر مع دونباس خلال مفاوضات مستشاري صيغة نورماندي"، (ألمانيا وروسيا وأوكرانيا وفرنسا) التي عقدت في 10 فبراير (شباط) الجاري، وإن عاد ليقول، إنه "ستكون هناك محادثات صعبة وطويلة مرة أخرى. وإن روسيا ستصر مرة أخرى على إجراء حوار مباشر مع دونباس. ومرة أخرى، سوف نرفض ذلك، ومع ذلك فليس للدبلوماسية سبيل آخر سوى التحدث، والبحث عن حل من دون تجاوز الخطوط الحمراء".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وعلى الرغم مما يبدو من تضافر الجهود من جانب كثير من أطراف الساحة الدولية، فثمة ما يشير أن لكل من هذه الأطراف أجندته الخاصة التي يحاول في إطارها تسخير العام من أجل التوصل إلى الخاص. وفي هذا الصدد تأتي مبادرات الجانب البريطاني، وما كشف عنه رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون ووزيرة خارجيته ليز تراس من تصريحات هي في كثير من جوانبها محاولة لتصفية حسابات مع روسيا، في الوقت الذي يواصل فيه الرئيس الفرنسي ماكرون جهوده بالتعاون مع المستشار الألماني الجديد أولاف شولتز، والتي تستهدف العودة بمواقع البلدين إلى ما يقيهما تبعات "الهيمنة الأميركية"، وهو ما يريد ماكرون أن يعود عليه بكثير من الأصوات في حملته الانتخابية المرتقبة في أبريل (نيسان) المقبل. لكن هناك من يقول أيضاً، "إن ماكرون ليس ديغول، وإن شولتز ليس ميركل"، وذلك ما يمكن أن تتضح أبعاده مع الإعلان عن نتائج القمة المرتقبة بين شولتز ومضيفه بوتين في موسكو، الثلاثاء المقبل، على ضوء ما أسفرت عنه من نتائج، الاتصالات التي جرت على مختلف المستويات منذ مطلع العام الجاري منذ انعقاد القمة "الافتراضية" (عبر الفيديو كونفرانس) بين الرئيسين بوتين ونظيره الأميركي جو بايدن، وما تبع ذلك من لقاءات على مستوى الوزراء والوفود في كل من جنيف وبروكسل وفيينا، ومنها قمة "ثلاثي فايمار" التي عقدت، أخيراً، في برلين بين الرئيس الفرنسي والمستشار الألماني والرئيس البولندي أنجي دودا تأييداً لأوكرانيا، وتمخضت عن دعوتها إلى "بدء حوار موضوعي حول القضايا الأمنية في أوروبا والمساعدة في نزع فتيل التوترات في الوضع حول أوكرانيا".
وكانت موسكو تابعت بكثير من الاهتمام المفعم، وبقليل من الدهشة هذا الاجتماع الذي ضم الرئيس البولندي، بكل ما تتسم به سياسات بلاده من "عدوانية وانحياز سافر صوب التصعيد في مواجهة روسيا وحليفتها بيلاروس المجاورة"، على حد تقديرات مراقبين إعلاميين روس قريبين من الكرملين، مع ماكرون وشولتز بكل ما كشفا عنه من محاولات التوصل إلى موقف أوروبي متميز في علاقات بلديهما مع الولايات المتحدة الأميركية، وإن كشف البيان المشترك الصادر عن تلك القمة ما يقول بغير ذلك. ونقلت المصادر الروسية بعض فقرات هذا البيان، بما في ذلك ما ينص عليه حول أن "رؤساء دول وحكومات ثلاثي فايمار ألمانيا وفرنسا وبولندا، أكدوا التزامهم بذل جهود مشتركة لتقوية الهيكل الأمني لأوروبا وعبر الأطلسي".
وفي هذا الصدد أشار البيان أيضاً إلى أن برلين وباريس ووارسو تلتزم بالمبادئ المنصوص عليها في "مختلف وثائق منظمة الأمن والتعاون في أوروبا"، وأن "الدول الثلاث ستواصل تنسيق أعمالها عن كثب مع شركائها في الاتحاد الأوروبي وحلفاء الناتو من أجل ضمان السلام والاستقرار في الفضاء الأوروبي الأطلسي". وفي هذا السياق نقلت المصادر الروسية تصريحات شولتز حول "تقدم" تم تحقيقه في إطار جهود خفض التصعيد للأزمة الأوكرانية بعد الاتصالات الدبلوماسية المكثفة المنفذة في الأيام الأخيرة. وأشارت المصادر إلى ما قاله شولتز في مؤتمره الصحافي المشترك الذي عقده مع ميتي فريدريكسنن رئيسة الوزراء الدنماركية، حول ضرورة ضمان الأمن في أوروبا، فضلاً عن اعترافه بأن ما جرى من اتصالات ومفاوضات بين الغرب وروسيا على مختلف المستويات تمثل تقدماً على هذا الصعيد. وعلى الرغم من حرص المستشار الألماني على تأكيد ما وصفه مراقبون في موسكو بتوجهات تصالحية تستهدف الحد من التوتر وتدعو إلى وقف التصعيد، بما في ذلك ما أعلنته ألمانيا عن رفضها إرسال الأسلحة الهجومية إلى أوكرانيا، فإن هناك ما يمكن وصفه بتعمد الإعلان عن أن ألمانيا تظل عند مواقفها المؤيدة للتشدد مع روسيا.
وكان شولتز استبق رحلته المرتقبة إلى كل من موسكو وكييف خلال الأيام القليلة المقبلة بتصريحات قال فيها، إنه يعرب عن أمله في أن تؤدي هذه الجهود "المكثفة والاستراتيجية المزدوجة القائمة على وحدة الصف الواضحة مع الإعلان عن عقوبات قاسية في حال وقوع عمل عدائي عسكري، مصحوبة في الوقت ذاته مع صيغ لإجراء مباحثات"، إلى خفض التصعيد. وأكد المستشار الألماني الذي سبق واتهمته مصادر أوكرانية وغربية باتخاذ موقف سلبي حيال الأزمة، على أنه متفق مع حلفاء بلاده الغربيين، وبينهم الولايات المتحدة، على العقوبات المحتملة التي يمكن أن يتم فرضها. ومضى ليقول، "إنه في حال تغير الوضع سنكون على استعداد في أي لحظة لاتخاذ قرار مشترك من قبل ألمانيا والولايات المتحدة وأوروبا، ودول الناتو. أعتقد أن ذلك سيكون فعالاً للغاية، إنها رسالة تم فهمها في روسيا"، فيما أكد مجدداً تهديده روسيا بمواجهة "تبعات خطيرة" في حال شنها أي عملية لـ"غزو أوكرانيا"، على حد قوله.
ومن اللافت في هذا السياق ما تواصله بلدان الناتو والدوائر الغربية من حملات إعلامية تستند في توجهاتها الأساسية إلى ترويج ما يقال حول "غزو روسي وشيك"، يظل في صدارة الأسباب والمبررات التي تستند إليها البلدان الغربية مواصلة إمداداتها العسكرية لأوكرانيا والتي بلغت قيمتها بحسب تقديرات أوكرانية ما يزيد على المليار ونصف المليار دولار، وذلك رغم تراجع السلطات الأوكرانية عما سبق وأعلنته عن احتمالات هذا الغزو، الذي سبق وحددت مع حلفائها الغربية بأنه "وشيك خلال الفترة من منتصف يناير (كانون الثاني)، حتى منتصف فبراير الجاري"، وأن تظل عند ما أعلنته من مخاوف بصدد الحشود العسكرية الروسية على مقربة من الحدود مع أوكرانيا. وقد وصف دميتري بيسكوف الناطق الرسمي باسم الكرملين مثل هذه الحملات والمعلومات بأنها "فارغة ولا أساس لها من الصحة لتصعيد التوتر". وأكد بيسكوف "أن روسيا لا تشكل خطراً على أحد"، في الوقت الذي لم يستبعد فيه احتمالات حدوث استفزازات قد يستخدمها البعض لتبرير مثل هذه التصريحات، إلى جانب تحذيره "من أن محاولات استخدام القوة لحل الأزمة في جنوب شرقي أوكرانيا سيكون لها عواقب وخيمة".
على أن ذلك كله لا ينفي ما تناثر من مؤشرات تقول، إن هناك في الأفق ما يوحي باحتمالات التوصل إلى حلول وسط قد تحمل القضية برمتها بعيداً عن نقطة "اللاعودة"، واحتمالات الانفجار. فإلى جانب ما توصل إليه ممثلو "رباعي نورماندي" من نقاط تقول باحتمالات التوصل إلى ما من شأنه بدء الحوار بين الأطراف المعنية حول تنفيذ اتفاقيات مينسك، وما نجم عن "وساطة" ماكرون بين العاصمتين موسكو وكييف وما قد تسفر عنه من بدء ذلك الحوار الذي تأخر لما يقرب من سبع سنوات، كشفت السفارة الروسية في واشنطن عما وصفته بـ"نضوج العاصمة الأميركية" لمناقشة "مبدأ الأمن غير القابل للتجزئة".
وقالت مصادر السفارة الروسية في الولايات المتحدة في تعليقها على تصريحات النائب الأول لوزير الخارجية الأميركية ويندي شيرمان في الاجتماع غير الرسمي الافتتاحي حول إطلاق صيغة "الحوار الأمني الأوروبي المستأنف" في منظمة الأمن والتعاون في أوروبا وأعربت عن ترحيبها بمثل هذا الموقف، على اعتبار أن "مبدأ الأمن غير القابل للتجزئة، هو أمر أساسي للحفاظ على السلام والاستقرار في المنطقة الأوروبية". على أن ذلك لم يمنع السفارة الروسية من تأكيد أن "الولايات المتحدة تتحدث بنفاق عن حق الناتو في مزيد من التوسع، وتنفي حقيقة أن نهج البنية التحتية العسكرية للتحالف" تجاه حدود روسيا يشكل تهديداً وجودياً على الاتحاد الروسي. وأعلنت السفارة الروسية عن توصيتها بضرورة أن يعود ممثلو وزارة الخارجية الأميركية إلى الاطلاع مرة أخرى وبعناية على ما جاء في رسالة وزير الخارجية سيرغي لافروف التي سلمها إليهم في 28 يناير، والتي تشرح بالتفصيل "الصلة التي لا تنفصم بين هذه الحقوق والالتزامات، والتي تم تسجيلها في إعلاني إسطنبول وأستانا بشأن منظمة الأمن والتعاون في أوروبا".