Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

بيانو رجل الدين يستفز المجلس الشيعي في لبنان

اتهم السيد علي الحسيني بأنه "خرج عن النظام الإسلامي العام بطريقة التهتك الفاضح"

السيد علي الحسيني خلال العزف على البيانو (رويترز)

المناسبة كانت حلقة تلفزيونية معتادة، لا ما يثير أي حفيظة بما يجري فيها، لولا أن رجل دين من الطائفة الشيعية في لبنان، وهو "سيد" يرتدي العمامة سوداء اللون، أي من سلالة "أهل البيت" بحسب المعتقدات الشيعية، قد عزف موسيقى كلاسيكية على آلة البيانو، وهي أيضاً موسيقى أغنية للسيدة فيروز. وعرّف السيد علي الحسيني نفسه بأنه محصل علوم دينية لسنوات طويلة وحاصل على شهادة دكتوراه في الفلسفة. وشرح رأيه في الموسيقى والفنون في العقائد الإسلامية المختلفة ومنها الشيعية، متوصلاً إلى نتيجة بأن الإسلام لم يمنع التمتع بالموسيقى الهادئة والفنون الجميلة، طالما أنها لا تبعث السوء في النفس الأمارة بالسوء، وأن صوت المرأة ليس "عورة" كما يشيع البعض، لأن اعتبار صوتها عورة هو مخالفة لإرادة الله الذي خلق حواء لتكون أحسن رفيق لآدم. وكان شرحه الهادئ والمفيد الذي ينم عن انفتاح ومعرفة غير مستفز لكثيرين، فهو لم يعلن عن أي فتوى أو قول يحمل في طياته انحرافاً أو ميلاً للتصعيد في النقاش الديني.

انطلاق النقاش حول بيان هيئة التبليغ الديني

كان يمكن لهذه الحلقة التلفزيونية أن تمر مرور الكرام لولا أن المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى، وهو المؤسسة الرسمية اللبنانية التي تُعنى بالأحوال الشخصية للشيعة اللبنانيين، قرر التبرؤ من عضوية السيد الحسيني فيه، بل الدعوة إلى نبذه من المؤمنين والمؤمنات "الغيارى على الدين"، كما جاء في البيان.

البيان الذي صدر عن "هيئة التبليغ الديني" في المجلس فتح النقاش على مصراعيه على وسائل التواصل الاجتماعي وفي الصحف والقنوات التلفزيونية بين اللبنانيين من مختلف الانتماءات السياسية والدينية، حول مهمات رجل الدين وإمكانية عزفه على آلات موسيقية، وحول معنى أن يتبرأ المجلس منه تحت حجة مخالفة القواعد الدينية. ودار النقاش حول من هي المرجعية التي يمكنها أن تحدد ما هو الصحيح أو ما يخالف القواعد الدينية، وحول الضوابط التي على رجال الدين أو المؤمنين أن يتبعوها على أنها صحيحة أو مُنزلة ومقدسة، وفي حال خالفوها فإنهم يمارسون عملاً يجعلهم معادين للدين أو كفاراً. وتصاعد النقاش لبنانياً حول الوقت الذي يملكه المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى في ملاحقة رجل دين يعزف الموسيقى، بينما لا يتحدث عن الفقراء من الشيعة، ولا يقدم لهم يد العون والمساعدة، على الرغم من قدرته على ذلك، خصوصاً في ظل أزمة اقتصادية واجتماعية قاسية.

النبذ والاتهام بالزندقة

جاء في بيان "هيئة التبليغ الديني" في المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى، أن السيد علي الحسيني "خرج عن النظام الإسلامي العام بطريقة التهتك الفاضح، محاولاً إلصاق ثقافة منافية للإسلام بدين الإسلام، والإسلام منه براء". ورأت الهيئة أن البرنامج الذي ظهر فيه، الأربعاء 2 فبراير (شباط)، "أعد للنيل من القيم الإنسانية والدينية". ورفضت الإدارة العامة للتبليغ الديني "كل تلك الثقافات الهدامة". وقالت إنها تعتبر علي الحسيني، الذي ظهر في البرنامج المذكور، "هاتكاً لأحكام الشريعة الغراء، ومن المتهتكين بارتدائه الزي المحترم". ووصفته بأنه "من المنتحلين لصفة عالم دين". وقالت "إننا في إدارة التبليغ الديني نحذر المؤمنين والمؤمنات الغيارى من مجاراته ومجاراة أمثاله، بل وعليهم نبذهم أينما كانوا".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

يحمل البيان لغة إدانة واضحة تجاه السيد المنفتح في تفسيره القواعد الدينية التي تدور حول الحلال والحرام، وكان يقول ببساطة، إن القاعدة الدينية تقول إن "الحرام" هو ما يكون ضرره أكبر من فائدته، وإن "الحلال" هو ما تكون فائدته أكبر من ضرره. وإنه لا يجد أن الموسيقى الكلاسيكية تضر أكثر مما تفيد. وقد حلل في البرنامج التلفزيوني فلسفياً ورياضياً معنى الفنون وعلى رأسها الموسيقى، معتبراً أنها تتجاوب بشكل طبيعي مع خلق الكون، فالموسيقى موجودة في الطبيعة في كل صوت نسمعه، وما فعله البشر بقدرة العقل الذي منحهم إياه الخالق الذي جعل الإنسان على أحسن خلق، بأنهم حولوا هذه الأصوات إلى نوتات موسيقية خلقوا بواسطتها موسيقى بشرية، ما هي إلا مجموعة أصوات خلقها الله في الطبيعة.

لكن بيان المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى في لبنان جاء أكثر حزماً، بل وغير متوازن مع كلام السيد المثقف المنفتح. فقد طلب البيان "نبذ" السيد. وهذا يعني في المجتمعات الدينية الضيقة، وفي البيئة التي يعيش فيها السيد، طرده من المكان والاجتماع العام. وربما يصل نبذه ومنعه من العمل وارتداء العمامة الدينية، إلى تفسير عبارة "النبذ" بتحليل القتل، لأن "المتهتك" ومستخدم موقعه الديني مرتدياً الزي الديني للدعوة إلى ما ينافي الدين بحسب هيئة التبليغ، يكون مخالفاً للدين أكثر من غيره، لأنه صاحب موقع ديني وليس مجرد مثقف يدلي بدلوه في موضوع معين.

النقاش ينفلش

عند هذه النقطة، بدأ توسيع الحفرة التي سيقع فيها الجميع، أي السيد المتهم وهيئة التبليغ الديني النابذة والجمهور الموافق والمعارض. وهو نقاش كان شبيهاً بثلاثة نقاشات سبقته. الأول بعد فيلم "أصحاب ولا أعز"، والثاني بعد رفض السماح لفتاة محجبة بالعمل في مجمع تجاري كبير في بيروت بسبب حجابها. والنقاش الثالث بعد وفاة المفكر المصري سيد القمني الداعي بصوت مرتفع منذ عقود إلى فصل الدين عن الدولة وجعل المواطن خاضعاً للقواعد الوطنية المؤسساتية ولقوانين دولته، بينما يمكنه ممارسة عقائده الدينية في مكانها من دون الخلط بين الأمرين. أي على طريقة "الدين لله والوطن للجميع" أو "ما لقيصر لقيصر وما لله لله" في المسيحية. وهذه مقولات درجت بقوة في عصر النهضة العربية في بدايات القرن العشرين، ثم ازدهرت مع صعود المد القومي العربي العلماني.

في جميع هذه الحالات المتقاربة، كان النقاش يدور في طبقات عدة، لو اعتبرنا أن النقاش كله عبارة عن مبنى مرتفع. ففي الطبقة الأولى كان النقاش يقول إن كل "تابو" ديني وجنسي تحديداً في العالم العربي، سيكشف الأقنعة عن وجوه المثقفين أو العلمانيين أو من يدعون التنوير. إذ سيفضح النقاش مواقفهم من الحريات والوضع الاجتماعي للمرأة ودور الدين في المجتمع، ومواقفهم من النقاش في الأمور الجنسية والكبت وارتباطها بالعنف مثلاً.

أما النقاش في الطبقة الثانية، فكان حول حرية التعبير سواء كانت لرجل دين أو لأي شخص في المجتمع، وما هي حدودها، ومَن يضع بداية ونهاية لهذه الحدود، وكيف يمكننا أن نعتبر فعلاً معيّناً مخالفاً للقواعد الدينية أو غير مخالف، طالما أن القواعد الدينية نفسها محل خلاف بين المدارس الدينية المختلفة في الطائفة نفسها أو المذهب الديني في أحيان كثيرة.

أما النقاش الذي جرى في الطبقة الثالثة فكان جذرياً، بين العلمانيين والمؤمنين الأصوليين. فالفريق الأول أراد القول إنه لا يحق لأحد تكفير أحد، والدليل أن الأزهر نفسه لم يكفّر تنظيم "داعش"، على الرغم مما قام به مما يخالف الدين ويشوه صورة الإسلام واعتداله. وكانت حجة الأزهر، أن الله وحده يعلم ما في النفوس، على الرغم من أن الأزهر نفسه مثلاً أصدر فتاوى ودراسات لأساتذة في مؤسسته الأكاديمية تقول، إن حجاب المرأة أمر اختياري ومرتبط بالعادات والتقاليد وهو ليس فرضاً دينياً، وليس هناك في القرآن الكريم أو في السيرة النبوية وفي الحديث النبوي الشريف ما يؤكد أن الحجاب فرض عين ديني يجب أن تلتزمه كل امرأة. ودافع العلمانيون وبعض المؤمنين المنفتحين عن حرية كل شخص بالتعبير عن رأيه وبالتحديد في عزف الموسيقى واعتبارها شكلاً من أشكال التعبيرات الروحية للإنسان عما يكمن في دواخله. وتساءل آخرون عن سبب عدم صدور فتوى تمنع الموسيقى في إذاعات وتلفزيونات وأغاني الحزبين الشيعيين "حركة أمل" و"حزب الله" اللذين يخضع لهما المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى، فلماذا تسمح الموسيقى والآلات الموسيقية في أغانيهم وبرامجهم وتمنع على السيد المتحرر؟ ألأنه يحمل موقفاً سياسياً مغايراً لموقف "الثنائي الشيعي"؟ وهل هذا يعني أن الفتوى الدينية باتت تتداخل مع الموقف السياسي؟

المتزمتون، بدورهم كانت تعليقاتهم منطقية بالنسبة إلى من يقفون إلى جانبهم، إذ قال البعض إنه يمكن لرجل الدين الحسيني أن يتخلى عن عمامته ووظيفته الدينية ويعزف الموسيقى، وليس عليه الخلط بين الأمرين كي لا يقع في المحظور. وآخرون اعتبروا أننا دائماً بحاجة إلى رأي رجل الدين المرجع، لكي يحدد لنا ما هو ممنوع وما هو مسموح، إذ لو ترك الأمر على غاربه سيفسر كل شخص الدين على مزاجه ووفقاً لمصلحته الخاصة.

اقرأ المزيد

المزيد من منوعات