Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

الروائي أمور تولز يسلك "طريق لينكولن السريع" بحثا عن والدته

روايته الجديدة تستوحي مغامرات جاك كيرواك المشوقة على طرقات أميركا

الروائي الاميركي أمور تولز (صفحة الكااتب على فيسبوك)

نادرون هم الكتاب القادرون على وضع روايات تتحلى دائماً بقيمة كبيرة وبمميزات تجعل قارئها يتملكه الانطباع بأنها أعمال لروائيين مختلفين. الأميركي أمور تولز هو من دون شك واحد منهم. والدليل؟ الفارق الكبير بين تحفته الأدبية، "جنتلمان في موسكو" (2016)، التي تغطي سنوات طويلة من حياة بطلها أمضاها سجين فندق فخم في موسكو، وروايته الجديدة، "طريق لينكولن السريع"، التي صدرت حديثاً في نيويورك عن دار "فايكينغ"، وتدور أحداثها على طرقات أميركا، خلال عشرة أيام فقط من عام 1954.

وفعلاً، اختار تولز كإطار عام لهذه الرواية، "طريق لينكولن السريع" الذي دشن عام 1913، ولا يعبر فقط أميركا من الشرق إلى الغرب، بل يحمل أيضاً اسم الرئيس الذي وحد شمالها وجنوبها. ولسرد قصته، ابتكر باقة من الشخصيات الآسرة التي تبقى طويلاً في ذهن قارئها، بعد فراغه من قراءة صفحاتها الغزيرة.

المراهق والإصلاحية

أولى هذه الشخصيات هي المراهق إيميت واتسون الذي أمضى 15 شهراً خلف جدران إصلاحية، لقتله عن غير قصد، شاباً استفزه بالسخرية علناً من والده. ولأن هذا الوالد لا يلبث أن يتوفى خلال هذه الفترة غارقاً في الديون، فيضع المصرف يده على مزرعته وسائر أملاكه، يتوجه ابنه، فور الإفراج عنه، إلى منزلهما في بلدة مورغن (ولاية نبراسكا) للاجتماع مجدداً بشقيقه بيلي، البالغ ثماني سنوات، واصطحابه معه إلى تكساس حيث قرر إعادة تشييد نفسه.

لكن حين يصل إلى داره، يستنتج أن بيلي يملك خطة أخرى لهما: السفر براً إلى كاليفورنيا للبحث عن والدتهما التي غادرت المنزل قبل ثماني سنوات، تاركة خلفها مجموعة من البطاقات البريدية وعدد من الإشارات على الطريق الذي سلكته. وعلى الرغم من صغر سنه، بيلي فتى مدهش، ليس فقط لذكائه الحاد، بل لامتلاكه أيضاً قدرة شبه سحرية على سرد الحكاية الملائمة لمن يصادفه. حكاية يستقيها في كل مرة من كتاب "حصيلة وافية من الأبطال والمغامرين والرحالة المقدامين" الذي وضعه البروفيسور أباكوس أبرناث، وقرأه بيلي 25 مرة، منذ أن تلقاه هدية من موظفة في مكتبة البلدة العامة، حيث كان يمضي معظم وقته أثناء غياب إيميت.

وحين يتمكن هذا الفتى من إقناع شقيقه بضرورة التوجه إلى سان فرانسيسكو، حيث انقطعت أخبار أمهما، وبواجب سلوك "طريق لينكولن السريع" الذي سلكته هذه الأم قبلهما، ينهار مشروعهما إثر الظهور المفاجئ على باب منزلهما للمراهقين ولي ودوشيس اللذين عرفهما إيميت داخل الإصلاحية وتمكنا من الفرار منها عبر الاختباء في صندوق السيارة التي أقلته إلى داره. فبسبب موافقته على نقل رفيقيه إلى محطة "أوماها"، يفقد إيميت سيارته لأن دوشيس لا يلبث أن يختلسها منه هناك، للذهاب مع ولي إلى نيويورك حيث ينتظرهما مبلغ كبير من المال، موجود في خزنة منزل وولي العائلي، مما يضطر إيميت إلى استقلال القطار مع بيلي للحاق بهما واسترجاع سيارته...

طرقات وروايات

من "في مهب الطريق" لجاك كيرواك إلى "رحلات مع شارلي" لجون شتاينبك، مروراً بـ"طرقات سريعة زرقاء" لويليام مون وعناوين كثيرة غيرها، تشكل مغامرات الترحال بالسيارة موضوعاً أساسياً في الأدب الأميركي الحديث. لكن في "طريق لينكولن السريع" التي تنتمي إلى هذا النوع من الروايات، يتمكن تولز من تجديد هذه "الوصفة"، مقترضاً أيضاً عناصر من رواية ليمان فرانك بوم، "ساحر أوز العجيب"، كما أصاب أحد النقاد في إشارته إلى ذلك.

خلال سفرهما، يلتقي إيميت وبيلي بشخصيات كثيرة غنية بالألوان، نذكر منها الأرستقراطي الثمل الذي سيعطي إيميت 50 دولاراً إكرامية لظنه أنه أحد الخدم في عربات القطار، فيحل مشكلة هذا الأخير المادية؛ القس النصاب الذي يحاول سرقة قطع نقود بيلي الفضية داخل القطار وينتهي مرمياً منه؛ الجندي الأسود عوليس الذي فقد أثر زوجته وطفله بعد عودته من الحرب، ومذاك بات، مثل قرينه الإغريقي، يمضي وقته في الترحال من دون وجهة محددة...

ومع أن "طريق لينكولن السريع" لا يقود سالكيه إلا شرقاً أو غرباً داخل أميركا، لكن مغامرات إيميت وبيلي تتجاوز هذا المحور الجغرافي بفعل خيمياء الحكايات التي يرويها البروفيسور أبرناث داخل كتابه، ويملك بيلي مفتاح استعاراتها. وفعلاً، لعل أحد أجمل فصول الرواية، هو ذلك الذي يلتقي هذا الفتى فيه بالجندي عوليس، وحين يصغي إلى قصته ويعرف عدد السنوات التي أمضاها هائماً على وجهه، يجعله يذرف دموعاً حارة إثر قراءته له أسطورة عوليس الإغريقية، وتطمينه من خلالها على اقتراب لقائه مجدداً بزوجته وطفله.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وهذا ما يقودنا إلى الرسالة المركزية التي يسيرها تولز داخل نصه، ومفادها أن الحكايات قادرة على إعادتنا إلى أنفسنا، شرط أن نكون منفتحين كفاية لتلقي حكمتها. وثمة رسالة مركزية أخرى في هذا النص مفادها أن بعض القصص أو الأحداث تذهب بنا إلى أماكن نحبها وأخرى لا نحبها، أو تحدد وجهة لسفرنا غير تلك التي نرغب في سلوكها، كما يحصل مع إيميت وبيلي، وأيضاً مع ولي ودوشيس.

وهذا تحديداً ما يجعل قارئ الرواية متشوقاً على توالي صفحاتها لمعرفة الأسباب التي رمت بالمراهقين الثلاثة داخل الإصلاحية أولاً، ثم على الطرقات، ومآل سفرهم. أسباب حين تتضح أخيراً له، يتلقى عن طريقها رسالة الكاتب الثالثة، ومفادها أن منعطفاً خاطئاً واحداً يمكن أن يتسبب في إبعادنا عن مسارنا لسنوات، لكن ليس بالضرورة بشكل لا رجوع فيه. وفي هذا السياق، تتحلى صفات الشجاعة والنزاهة والعزم داخل نصه بقيمة كبيرة لأن امتلاكها قد لا يقود حتماً إلى المكان المنشود، لكنه يسمح لمن يتمتع بها بالمثابرة حين تعانده المصادفات وتقلبات القدر وحيل الآخرين التخريبية.

أبطال أربعة

وعلى المستوى السردي، يقفز تولز بمهارة من وجهة نظر حول الأحداث المروية إلى أخرى، بين أبطاله الأربعة، مستخدماً صيغة الغائب، باستثناء الفصول المسرودة من وجهة نظر دوشيس التي تأتي بصيغة المتكلم. استثناء تبرره شخصية هذا المراهق الآسرة وإنسانيته الكبيرة، على الرغم من المنطق الفريد الذي يتحكم بسلوكه وحسه الأخلاقي الخاص. إنسانية تتجلى خصوصاً في اهتمامه المؤثر بصديقه ولي للسبب الذي يشرحه بنفسه: "نشأ ولي في أحد أحياء مانتهاتن الفخمة، وكان يملك منزلاً في الريف، سائقاً في السيارة وطباخاً في المطبخ. كان جده صديق تيودور وفرانكلين روزفلت. ولأنه رقيق النفس، خلفت هذه الوفرة داخله شعوراً برهبة. كما لو أن كومة المنازل والسيارات والشخصيات السياسية المهمة ستنهار في أي لحظة فوقه".

في روايته الأولى، كتب تولز: "على ألف شخص، واحد فقط قادر على تأمل العالم بدهشة". جملة تفسر اهتمامه الثابت بأولئك الذين يملكون قلوباً فتية ولم يخنق "إبهام الواقع" بعد حماستهم، كبطل "جنتلمان في موسكو"، وأيضاً كمراهقي "طريق لينكولن السريع"، الناضجين وفقاً لمعايير اليوم، والمثقلين بالهموم، لكن المسلحين بقدرة كبيرة على الاندهاش. فتيان يحضر كل واحد منهم داخل روايته الجديدة كبطل مركزي لمغامرة فريدة وشاملة في الوقت نفسه.

وفعلاً، بينما يبحث دوشيس عن والده وعن طريقة لتكفير ذنوبه، إلى جانب سعيه خلف تلك الخزنة المليئة بالنقود في نيويورك، يبحث إيميت عنه لاسترجاع سيارته والتوجه غرباً مع شقيقه. وبينما يبحث ولي عن سلام داخلي لا يجد سبيلاً له في النهاية إلا بإزهاق نفسه، يبحث بيلي عن أمه التي لم يعرفها قط وعن تلك المغامرة التي وعده بها أباكوس أبرناث في كتابه. وحتى هذا الأخير الذي أمضى حياته يكتب في الطابق الـ55 من مبنى "إمباير ستيت"، ينزل من برجه العاجي، حين يلتقي قارئه الصغير بيلي، ويعانق العالم الواقعي.

باختصار، مغامرات مشوقة يحبكها تولز برقة ومهارة كبيرتين، مقدماً لنا من خلالها بورتريهاً دقيقاً وحنينياً لفترة الخمسينيات في وطنه التي كانت مشحونة بتفاؤل لا تلبث حالة عدم المساواة الاجتماعية أن تبدده في العقد اللاحق.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة