Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

ساعي البريد التقليدي... أطاحت به الرسائل النصية

التطور التقني أثّر في هذه المهنة وبقدر ما سهّل أعمالاً تسبب في اندثار أخرى

دائرة البريد في مدينة البصرة العراقية تعود لعام 1952 ويظهر أمامها عدد من الدراجات الهوائية التي كانت تستخدم لإيصال الرسائل والطرود (غيتي)

كان بالنسبة إلى الأجيال السابقة بمثابة حمّال الأسية والأشواق. يقرّب بين من نأت بهم المسافات، وينقل أخبار من انتشروا في أركان المعمورة. على مواعيده اليومية أو الأسبوعية يضبط الناس آمالهم وأمنياتهم. وفي "جرابه" تصل الرسائل والوثائق... والهدايا إلى منتظريها.

ساعي البريد التقليدي، الذي كان جزءا من يوميات المرسلين والمتلقين، في المدن والأرياف، أين أصبح الآن؟ ماذا فعلت به تكنولوجيا الاتصال؟ هل هو فعلا ضحية للرسائل النصية القصيرة؟

في التحقيق التالي من السعودية، والأردن، والمغرب، ولبنان، والجزائر، والعراق، ومصر أجوبة عن هذه الأسئلة.     

تقلص دور ساعي البريد

تتجه مهنة ساعي البريد نحو الاختفاء مثلها مثل عدد من المهن والوسائل التقليدية... فعلى الرغم من أن ساعي البريد في الجزائر لا يزال يقوم بعمله، إلا أن ظهوره لم يعُد كما كانت عليه الحال سابقاً، لتبقى مكانته رفيعة واحترامه واسعاً لدى وسط كبار السن، تقديراً لدور قدّمه سابقاً بتفانٍ وأمانة.

وتوجّه أصابع الاتهام إلى التكنولوجيا التي تتطور بشكل متسارع، بتسببها في تقليص دور ساعي البريد، بعدما بات البريد الإلكتروني ووسائط التواصل الاجتماعي تعوّض هذا العامل، صاحب القبعة الجلدية والبدلة الراقية والحقيبة المنتفخة بالرسائل، المتجول بين العمارات والمساكن في المدن والقرى والأرياف، يوصل إلى الناس رسائل الأفراح والأتراح وأخبار العائلات والأفراد واستدعاءات العمل والمحاكم ودعوات الحفلات والجنائز.

ولقد سمح التطور التكنولوجي باختصار الوقت والجهد والمسافات، كما أسهم في الاستغناء عن التعامل بالمراسلات الورقية، وما اختفاء صناديق الرسائل من المباني السكنية الجديدة، إلا دليل على اقتراب مهنة ساعي البريد من دخول المتحف إيذاناً بانتهاء الصلاحية.

طريقة تقليدية

وتعليقاً على الظاهرة، يقول أستاذ علم الاجتماع الجزائري رضوان كالي، إن ساعي البريد كان من يوميات الجزائريين، وهو الذي يعرف كل حي قديم وحديث، وكل بيت ومسكن وعائلة. لكن تغيّر كل شيء، وبعد أن كان يُطلق عليه "الرجل الأمين"، صار عمله مقتصراً على توصيل الرسائل الرسمية، مثل فواتير الكهرباء والغاز والماء وغيرها من المراسلات التي تقتضي أن تكون ورقية.

ويتابع أن التكنولوجيا أثّرت في هذه المهنة، وبقدر ما سهّلت أعمالاً، تسببت في اندثار أخرى، وبات التعامل بالبريد الإلكتروني ووسائط التواصل الاجتماعي وسيلة تعتمدها المؤسسات للتواصل مع العملاء، والأشخاص في ما بينهم والعائلات، مشيراً إلى أنه في ظل الثورة التكنولوجية لم تستفِد المهنة من التطور الحاصل، ولا تزال تمارس بطريقة تقليدية.

التحدي

لقد اغتالت التكنولوجيا الحديثة مهنة ساعي البريد، بعد أن أصبحت الرسائل إلكترونية تصل إلى هدفها سريعاً من دون الدورة التقليدية السابقة. ولم تعُد غالبية الناس بحاجة إلى تلك الصناديق الحديدية للرسائل بعدما عوّضها البريد الإلكتروني، الأمر الذي دفع صورة ساعي البريد وهو يسلّم الرسائل تتجه نحو الانقراض. وعليه، فمن المؤكد أن ساعي البريد بمهماته التقليدية سيختفي، وتختفي معه الرسائل التي ينقلها.

ويشكل التطور التكنولوجي وتطبيقات التواصل الاجتماعي التحدي الذي قد ينهي مهنة ساعي البريد بشكل كامل، لتصبح تراثية تعتز بها المجتمعات، شأنها شأن عدد من المهن التي عرفتها البشرية وتلاشت واختفت مع تطور الإنسان.

اختراق

وفي السياق، يرى ساعي البريد المتقاعد حميد وهيب أن التخاطب اللساني يظل مختلفاً عن المراسلة البريدية، ومختلفاً في الوقت ذاته عن المراسلة الإلكترونية. وقال "نشهد موت المراسلة البريدية. وبدل وجود عدد محدود جداً من الأشخاص نتواصل معهم عبر الرسائل، أصبح هناك عدد كبير من الأصدقاء الافتراضيين القادرين على اختراق مجالك الذهني والروحي في أي لحظة من دون قيد أو شرط"، وشدد على أن هذا لا يعني التقليل من أهمية الثورة الرقمية في تسهيل نقل المعلومات والتواصل الفوري مع الآخرين في مجال العمل والأنشطة الاجتماعية والعلمية وغيرها. وختم أن الثورة الرقمية تدفع بشكل تدريجي بعيداً من تلك الوحدة التي كانت تشدّ الفرد لشخص محدد أو أشخاص قلائل كان التواصل معهم بانتظام عبر الرسائل.

البريد السعودي... قرن من عدم الرضى

منذ 96 سنة، تأسست علاقة مضطربة بين السعوديين ومؤسسة البريد حملتها ملايين الطرود في مشوار "عشرة عمر" ضم قصصاً تنوعت خدماتها بين البريد، والرسائل، والطرود، والبريد العاجل، وخدمات حديثة مثل التسوق، والحوالات المالية، والتعاملات الحكومية التي تخدم المؤسسات والأفراد والمنشآت الحكومية وقطاع الأعمال، إذ لا يخلو بيت سعودي من طرد بريد عالق بين منتصف فاه بابه، أو طرف ظرف منسدل في قلب صندوق مهمل جانباً. وتتحدث جولة المئة عام عن طريق طويل خرج من رحمه مئات المشاريع التي تنوعت في نتائجها بين صعود وهبوط، فيما أن الواقع الملموس على أرض لخدمات مؤسسة البريد لا يتقاطع مع طموحاتها النظرية. 

وعلى الرغم من تدني مستوى الخدمات البريدية فإنها كانت محصورة في مدن رئيسة، فلم يكن مألوفاً بالنسبة للسعوديين منظر سعاة البريد حاملي الرسائل، فكانوا يضطرون دائماً لتكبد عناء الطوابير الطويلة في مكاتب البريد لاسقبال رسائلهم، ما يجعلهم عرضة دائماً للاصطدام بتردي الخدمات.

وكان أحد أبرز أسباب الفشل في تطوير نظام بريدي منزلي هو غياب العنوان الوطني عن المنشآت والمنازل إلى فترة قريبة جداً. وعليه سعت مخططات البريد السابقة في الوصول إلى بناء صناعة بريدية تدعم حركة التحول الحالية مع انتشار التجارة الإلكترونية في السعودية وتحول الخدمات إلى خدمات عن بعد.

ومن أهم برامج ومشاريع المؤسسة في سبيل تنفيذ هذا هـو تطوير "نظـام العنوان الوطني"، فعلى الرغم من تأخر تحديد المنازل والمواقع والمنشآت بعناوين رقمية موحدة فإن المولود المتأخر لم ينجح كما يجب.

فبعدما أعلن البريد السعودي في 29 أبريل (نيسان) الماضي، تحديث الخدمة التي سيتلقاها المجتمع، من خلال الهوية الجديدة التي أطلقها تحت اسم "سُبل"، قدمت المنظمة المعنية بالأمر، جانب خدمة العملاء كـ"طبق رئيس" على رأس قائمة تحسين جودتها المقدمة. فعلى صعيد البنية اللونية للشعار، اكتسبت هويته الحديثة سمة شكلية ولونية مرتبطة بدرجات اللون الأزرق عالية الوضوح، فضلاً عما يعكسه اللون الأزرق من دلالات تكرس معاني الثقة والتطور والنماء المستقبلي. 

لم ير أحد ساعي البريد

ووعدت الجهة ذات الصلة إبان انطلاقتها، بتعزيز تجربة العملاء والتفاعل اللحظي معهم، والإجابة الفورية على مختلف استفساراتهم، وألقت في ضوء حماسها للتجديد، حزمة من الطموحات افترضت من خلالها تشكيل مرحلة جديدة بل فتح صفحة ثقة معتمدة مع العميل لتطوير الخدمات والمنتجات وإعادة بناء الثقة معه كما يعكس تفسير اللون الأزرق في شعاره. 

إلا أن تغريدة انطلاقة الهوية الجديدة على "تويتر" لخصت أبرز التحديات التي يخوضها البريد السعودي أو "سبل" كما يدعى حديثاً، مع متلقي الخدمة، وأسلوب تعامل الطرفين، كل بحسب دوره، إذ أشارت رسائل عدة مدرجة تحت التغريدة، إلى مواطن النقص من جانب مقدم الخدمة، فجاء كثير منها على شكل استفسار عن معاملات حكومية ووثائق رسمية تأخر تسليمها، وأخطاء في الفرز، وصعوبة في التواصل بين مقدم الخدمة والمستفيد منها. فبين أخذ وعطاء يصل إلى ثمانية آلاف رسالة لا يمكن الجزم بوجود رسالة ثناء تتوسطها، ما يثير التساؤل حول دور الجهات المسؤولة عن مراقبة الأداء.

وقال محمد السويد، وهو باحث مالي واقتصادي، إن "تحسين خدمات البريد ليس بالأمر السهل في السعودية، نظراً إلى تداخل الصلاحيات بين مؤسسات حكومية عدة، ما يؤثر على خدمات البريد". وأضاف "بحسب مراقبتي للجهة الحكومية المسؤولة عن خدمات البريد، أرى أنها ركزت بشكل أكبر على أمور تسويقية ولم تركز بذات القدر على تحسين خدمات البريد".

وأردف، "أعتقد أن خدمات البريد في السعودية تحتاج إلى تناولها بطريقة مختلفة، خصوصاً أنها تستند إلى دعم حكومي، فعلى سبيل المثال، غيرت المؤسسة شعارها من غير تطوير الخدمات، ومن ملاحظتي هناك كثير من الشكاوي، إضافة إلى تجارب موثوقة، وربما من الأفضل أن تهتم المؤسسة بنشر إحصائيات على مستوى تطور جودة خدماتها خلال الفترة المقبلة ليتم تقييم نجاح مبادراتها الأخيرة". 

يذكر أن البريد السعودي تأسس في عام 1926، ويعد من أقدم مؤسسات الدولة على الإطلاق، وتم لاحقاً استحداث خدمات إلكترونية عدة، من ضمنها خدمة واصل، وخدمة العنوان الدولي، وخدمات النظم الجغرافية للعناوين البريدية".

التكنولوجيا في الأردن تحيل ساعي البريد للتقاعد

تراجع الشكل التقليدي للبريد في الأردن وغابت معه كثير من المظاهر المرتبطة به، فرحلت الجلبة التي كان يحدثها ساعي البريد في القرى والمدن والشوارع والأزقة، وحل محلها موظف توصيل الطرود، واستبدل الشغف الذي كان يبديه الأهالي بانتظار رسائل محبيهم في الغربة بمنظومة إلكترونية متكاملة قوامها الحداثة والإنترنت والتتبع الإلكتروني.

ومنذ إنشاء أول مكتب للبريد الأردني عام 1921، تتابعت مكاتب وخدمات البريد في أنحاء البلاد كافة بعد أن تزايدت الحاجة إلى هذه الخدمة الثورية في عالم كان يستعد لولوج عالم الاتصالات بقوة، ومع التطور المذهل لم يبق من البريد التقليدي سوى اسمه فقط.

 

185 شركة بريدية

وفي العام 1975 صدر قانون الخدمات البريدية، وفي العام 2005 أصدرت هيئة تنظيم قطاع الاتصالات أول رخصة لمشغل بريد خاص، أما اليوم فيبلغ عدد الشركات المشغلة لخدمات البريد في الأردن 184 شركة للبريد الخاص المحلي والدولي، منها 10 شركات دولية عالمية و174 شركة محلية، إضافة لشركة البريد الأردني التي تمثل المشغل العام لخدمات البريد في عمّان.

وبحسب أحدث الإحصاءات، تقدم الأردن 19 مرتبة في مؤشر تطور قطاع البريد عالمياً، واحتل المركز الرابع عربياً، وبلغ عدد العاملين في قطاع البريد الأردني 5321 موظفاً.

واليوم لم يعد البريد في الأردن يقدم خدمات تقليدية، بل تعداها إلى الخدمات المالية التي تشمل الحوالات المالية وتحصيل الفواتير ودفع مخصصات المعونة الوطنية، وخدمات أخرى مثل دفع الفواتير وخدمة الرسائل القصيرة وطلبات القبول الجامعي.

ذاكرة الأردنيين

وشكلت خدمات البريد مستودعاً لذاكرة الأردنيين وتاريخهم، إذ ارتبط إنشاؤها بإنشاء الدولة الأردنية الأولى، وعلى الرغم من بدائيتها في المرحلة الأولى واعتمادها على الخيل والعربات، إلا أنها تطورت مع تطور الدولة وصارت شاهداً حياً.

وتعتبر مدينة السلط أول مدينة أردنية استعملت الطوابع بعد توشيحها بكلمة (شرق الأردن)، واستخدمت الطوابع البريدية في البداية من بقايا مرحلة الحكم العثماني.

 

لكن يبدو أن التكنولوجيا اغتالت هذه الذاكرة وأحالتها إلى حقبة من الزمن الجميل بطقوسه الجميلة، ولكن على الرغم من هذا التطور فإن فرص عمل البريد اليوم أكبر من السابق بسبب التوسع في تقديم الخدمات والانتشار الجغرافي  والتحول نحو الأتمتة.

واليوم ثمة نحو 1100 موظف يعملون في البريد الأردني، كانوا حتى عهد قريب يتعاملون مع صندوق البريد الحديدي والرسائل التقليدية من خلال 277 مكتباً بريدياً.

مرت 99 سنة تغيرت فيها كل ملامح الرسائل وذاكرة البريد، لكن ظلت المهنة قائمة مثل نذير فرح وسرور، وانسحب ساعي البريد من حياتنا وضاعت دراجته في زحمة وسائل التوصيل الحديثة.

شارع البريد

لا تزال بعض الشوارع القديمة في العاصمة عمّان شاهدة على ذاكرة البريد الأردني، مثل شارع الأمير محمد أو وسط البلد حيث مقر البريد الرئيس الذي تأسس عام 1921.

وكان يحمل بالنسبة لكثيرين قيمة معنوية وطريقاً طويلاً من المشاعر الفياضة بانتظار رسائل الأحباء، بينما شكلت الطوابع شريط الذاكرة الذي يروي الوقائع التاريخية من تأسيس الدولة، والمراحل التي مرت بها وصولاً إلى الأحداث الدولية، إضافة للمعالم الحضارية الأردنية.

وبحسب المؤرخين فإن موسى عارف الدباس يعد من أوائل هواة جمع الطوابع في الأردن.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

لا يزال موجوداً في العراق بشكل جديد

غاب ساعي البريد عن شوارع بغداد وبقية مدن العراق التي كان يجوبها منذ تأسيس الدولة، خصوصاً في أعوام السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي، بعد أن أبعدته التطورات التكنولوجية الهائلة في مجال الاتصال، ليستعيض عن الرسائل التي يحملها في حقيبته الجلدية ودراجته الهوائية، برسائل إلكترونية اختصرت الزمن وأجبرته على الابتعاد.

ذكريات الساعي

وتحدث عباس مجبل 65 سنة من أهالي مدينة الصدر شرق بغداد، عن ذكرياته مع ساعي البريد الذي غاب عنه خلال العقدين الأخيرين، مبيّناً أن "الذكريات تعود إلى الطفولة التي كنّا فيها نلاحق دراجته الهوائية فرحين بقدومه إلى منطقتنا، وهو يحمل حقيبته الجلدية ويلبس زيّه المعروف ذا القبعة".

وأضاف أن الساعي كان يطوف البيوت في المدينة ويعرف العناوين جيداً، ويتذكر بشكل جيد الأشخاص الذين وُجّهت إليهم الرسائل سواء كانت من الداخل أو الخارج، مشيراً إلى أن جميع هذه الذكريات مضت مع ذهاب ساعي البريد.

حكاية والدي

ويقص مجبل حكاية والده مع ساعي البريد الذي كان يجلب بشغف الرسائل له من ابن خالته، الذي كان يعمل في ميناء البصرة، وعند وصوله نشاهد الابتسامة واضحة على وجوه الاثنين لتلقّي أبي خبراً من قريبه عبر الرسالة الورقية، وما يلبث أن يشكر ساعي البريد ليجلس بعدها على أريكته ويتمعن بالأسطر المكتوبة من قريبه.

المكاتب أبعدتهم

وكان العشرات يعملون كسعاة بريد في العراق خلال فترة سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، إلا أن أعدادهم تناقصت باستمرار مع تطوير التقنيات ثم اضمحلت بصورة نهائية بعد تقاعدهم. كما شهدت فترة التسعينيات من القرن ذاته الاعتماد على المكاتب البريدية الموجودة في جميع أنحاء العراق بدلاً من سعاة البريد.

ويقول رعد فارس إنه كان يتفقد باستمرار صندوقه البريدي في مكتب بريد حيفا وسط العاصمة بغداد، في تسعينيات القرن الماضي، في انتظار رد شقيقه (الذي كان يعمل مدرساً في ليبيا) على رسائله الورقية، التي كان الرد عليها يصل بعد أشهر طويلة.

ويضيف أن مكتب البريد الذي يحوي صندوقه البريدي، قد أُحرق كبقية المؤسسات الحكومية التي أُحرقت عام 2003 في أعقاب غزو الولايات المتحدة للعراق.

وتعرّضت غالبية مكاتب البريد العراقي بعد التاسع من أبريل (نيسان) 2003 لأكبر عملية نهب وسلب وحرق وتدمير للمبنى، لكنها خضعت لعملية تأهيل وإعمار واسعة في مختلف أنحاء البلاد.

موجود بصيغة جديدة

وقال نائب رئيس مجلس إدارة البريد العراقي سالم الزهيري إن مهمة ساعي البريد أوكلت إلى القطاع الخاص ودوائر الدولة في المراسلات التي بينها، موضحاً أن البريد ما زال يستقبل الرسائل الورقية.

وأضاف أن "البريد العراقي في إدارته الجديدة مواكب للتطور العلمي في العالم، وساعي البريد موجود الآن بشكل حديث، والدليل أن القطاعين الخاص والمختلط وحتى دوائر الدولة تقوم بإيصال المراسلات فيما بينها عن طريق ساعي البريد المنتدب من قبلها، فضلاً عن أن عمل شركات التوصيل هو جزء من عمل ساعي البريد الذي كان يجوب الشوارع في حينها.

أسطول بريدي

ولفت إلى أن البريد العراقي بإدارته الجديدة لديه أسطول بريدي، وينقل البريد من مؤسسات الدولة على شكل طرود بريدية. وتعاقد مع مؤسسات الدولة وآخرها في 7 نوفمبر (تشرين الثاني) من 2021 مع البنك المركزي العراقي بدل شركات التوصيل الدولية.

الرسائل الورقية موجودة

وعن استقبال البريد العراقي للرسائل الورقية، بيّن الزهيري أن "البريد العراقي ما زال يستقبل الرسائل الورقية من دول العالم كافة، ويتم إيصالها إلى الوجهات المذكورة في العناوين، وفق توقيتات زمنية قياسية.

وتابع أن البريد العراقي يعتزم في هذا العام اتباع التكنولوجيا الحديثة من خلال الصندوق البريدي، الذي يعمل عن طريق الأزرار والرموز السرية، وعند فتح الصندوق يتلقّى صاحبه رسالة نصية على هاتفه الشخصي، لافتاً إلى وجود إقبال كبير من جانب العراقيين على الصندوق البريدي وفق التكنولوجيا الحديثة.

إقبال على إيداع الأموال

وعن المهمات الأخرى التي يقوم بها البريد، قال الزهيري إن "هناك إقبالاً على التوفير عن طريق البريد من قبل المواطنين، وهناك ثقة وقناعة لدى المواطن بمؤسسات الدولة، خصوصاً الجانب المالي، مؤكداً أن كثراً من الأشخاص يودعون أموالهم في البريد العراقي لثقة المواطن بها".

ويعود تاريخ إنشاء البريد العراقي إلى إبان الدولة العثمانية، تحديداً عام 1893 ميلادية.

وكان مجلس الوزراء قرر في ديسمبر (كانون الأول) عام 2016 تعديل اسم الشركة العامة للاتصالات والبريد إلى الشركة العامة للاتصالات، وتعديل أهدافها ونشاطها وفقاً لذلك، وتأسيس شركة عامة باسم الشركة العامة للبريد والتوفير، برأس مال إجمالي 51 مليار دينار (بحدود 35 مليون دولار).

الانتداب الفرنسي أدخل البريد إلى لبنان

دخل البريد إلى لبنان عبر الانتداب الفرنسي، وأول مكتب بريد متوسطي أنشأته فرنسا في بيروت في عام 1845 بعد ثماني سنوات من إنشاء خط السفن البحرية عام 1837، بعدما كان مكتباً لتحصيل الضرائب عند إنشائه، تحول نتيجة التوسع التجاري لمرفأ بيروت مكتباً للبريد، إلى أن أقفل قسرياً في أغسطس (آب) 1914 عند إعلان تركيا الحرب، وأول طابع استعمل كان يحمل رسم نابليون الثالث.

 

وعقب انتهاء الحرب العالمية الأولى وانسحاب الجيوش العثمانية من البلاد العربية، وقع لبنان تحت الانتداب الفرنسي، خلال هذه الفترة توقفت مكاتب البريد في جميع الدول العربية عن استخدام الطوابع العثمانية؛ وبدأت مصالح البريد في إصدار طوابع بريدية جديدة لتتناسب مع الأحداث السائدة في كل بلد. في لبنان، استخدمت مكاتب البريد في البداية طوابع "خالص الأجرة"، ثم بدأت في استخدام طوابع فرنسية موشحة بأحرف ثلاثة (T.E.O)؛ وتعني باللغة العربية: (أراض عدوة محتلة)؛ (بالفرنسية: Territoires Ennemis Occupes)‏. وفي 1920 استعملت طوابع فرنسية أخرى عليها توشيح بالأحرف الثلاثة (O.M.F) وتعني باللغة العربية (احتلال عسكري فرنسي)؛ (بالفرنسية: Occupation militaire française).‏ وقد استمر استخدامه حتى 1923-1924 عندما قامت فرنسا باعتماد طوابع لبلادها عليها توشيح "لبنان الكبير" (بالفرنسية: Grand Liban)‏.

ويروي أحد سكان بيروت القدامى الصحافي عمر الناطور في حديث خاص لـ"اندبندنت عربية"، قائلاً "المؤسف أنه في السابق لم تكن الشوارع في بيروت مرمزة أو تحمل أرقاماً. فكان ساعي البريد أو البوسطجي يعرف الشوارع ويعرف أصحاب البيوت ومن السهل عليه أن يهتدي إلى المنازل، كان هذا نظام عمل ساعي البريد. وبعد سنوات، بدأت البلديات تطلق على الشوارع الأسماء مثلاً شارع (ويغان)، وشارع (اللمبي) وشارع (فوش) ولكن لم يكن هناك عند مفرق الشوارع الأسماء والرموز كما هو الحال حالياً".

ويشير إلى أنه كان يهوى جمع الطوابع "كنت أنتظر ساعي البريد والحماسة تغمرني حين يحضر إلى الشارع حيث نسكن في زقاق دندن في منطقة خندق الغميق لأعرف منه لمن الرسائل، حتى أحصل منهم على الطوابع وكانت هذه اللحظة من أسعد لحظاتي". ومن أبرز الطوابع التذكارية التي أصدرتها وزارة البريد توقيع ميثاق جامعة الدول العربية ومهرجانات بعلبك وإنشاء الجامعة اللبنانية في العالم ويوم الهند... إلخ.

طوابع تعود إلى حقبة الخمسينيات

ويستذكر عمر ملامح ساعي البريد وهو يحمل حقيبته المليئة بالرسائل لإيصالها إلى أصحابها ومن ثم بدأ يظهر ساعي البريد بلباسه الكاكي وقبعته الشهيرة. ويقول "كان ساعي البريد يضع الرسائل إما تحت الأبواب القديمة أو في صناديق كان أصحاب المنازل يضعونها على مداخل بيوتهم أثناء غيابهم عن البيت. أما الرسائل المضمونة (كتحويلات الأموال من الخارج) فكان يحضر ساعي البريد شخصياً ليعطي صاحبها إشعاراً لتسلم الرسالة من مركز البريد الكائن في منطقة رياض الصلح في وسط بيروت الذي يعرف بشارع المصارف اليوم"، لافتاً إلى أنه "خصصت لمركز البريد حينها وزارة في الشارع المذكور تدعى وزارة (البرق والبريد والهاتف) التي تغيرت فيما بعد والتي هي اليوم المقر الرئيس لوزارة الاتصالات. وكانت وزارة البريد هذه تفرز الرسائل في مقرها الرئيس في بيروت وتوزعها على الموظفين المكلفين بإيصال الرسائل لأصحابها في كل المناطق البيروتية".

ويشير إلى أنه "ما زلت حتى اليوم أحتفظ بجميع الطوابع التي صدرت في عهد لبنان الكبير وعهد الاستقلال، إضافة إلى طوابع عربية وأجنبية تعود إلى حقبة الخمسينيات من القرن الماضي".

بعدها تطورت العملية إذ بات هناك شركات متخصصة بنقل الرسائل والطرود والصحف. ويستذكر عمر المتعهد لنقل الصحف والمجلات قائلاً "من عائلة أبو مرعي وكان منزله يقع في محلة النويري، ثم ظهرت شركة أخرى صاحبها من آل فواز. وشركة التوزيع اللبنانية، ثم تم تلزيم توزيع الرسائل إلى شركة ليبان بوست، ومنذ ذلك اليوم إلى حينه لم يعد لساعي البريد أثر".

ويقول الباحث في جمعية التراث في بيروت زياد عيتاني إن "البوسطجي" أو "ساعي البريد" الذي بدأ نجمه بالأفول، لا بل بالتلاشي، كان قبل ثورة الاتصالات، بمثابة جهاز "الكمبيوتر" في زمانه، لجهة نقل الرسائل بين المرسل والمتلقي، المدموغة بطابع البريد وخاتم الجهة المرسلة، إلى أن غزت الرسائل الإلكترونية البديلة أجهزة التواصل الرقمية، بلا هوادة. ومع انتفاء وظيفته، اختفى معها شوق انتظار الرسالة من حبيب أو مسافر لمعرفة أخباره، التي كان يتطلب وصولها أياماً وأسابيع وربما أشهراً. لم يكن ساعي البريد مجرد موظف ينقل الرسائل وبطاقات المعايدة، بل كان "دليل المدينة" وصديقاً للناس، وكان حافظاً أحياءها وأزقتها ومنازلها وعائلاتها عن ظهر قلب، حيث كثير منهم كانوا ينتظرونه عند مداخل وأبواب المنازل (قبل تعليق صناديق بريدية على مداخل الأبنية المخصص كل واحد منها لأحد قاطنيها)، وأحياناً يكرمونه باستضافته وشرب القهوة والشاي والحلوى، وحتى الهدايا، عندما تكون الرسائل تحمل في طياتها الأثر الطيب، بعد طول الانتظار.

يذكر أن سبب تأخر وصول الرسائل آنذاك يعود بالنسبة إلى عيتاني إلى "حركة الطيران البطيئة بسبب قلة المسافرين قبل خمسة عقود من الزمن، إذ كانت الرسائل تصل إلى مطار بيروت، ثم تفرز وفق المناطق، ثم ترسل إلى مراكز المحافظات، فيقوم موظفوها بفرزها وفق الأحياء والمناطق والقرى، قبل المباشرة بتوزيعها. وكل ذلك يتطلب وقتاً وجهداً. أما بالنسبة إلى وسيلة النقل التي كان يعتمدها البوسطجي لإيصال الرسائل فكانت بدائية. بداية كان يعتمد على قدميه في أغلب الأحيان أو على الدراجة الهوائية، ثم في مرحلة لاحقة صار يتنقل بالدراجة النارية، وبعدها بسيارته الخاصة، كي لا تتكدس الرسائل، وحتى تصل إلى متسلميها سريعاً".

أما اليوم ومع غزو وسائل التواصل الاجتماعي باتت مراكز "البريد" مخصصة ومعقبة للمعاملات والخدمات تسهل على المواطنين إنجازها مقابل رسوم مالية، بدلاً من مشقة الانتقال إلى الدوائر الرسمية والانتظار، كما هو الحال في الدول الأوروبية. كذلك اختفت صناديق البريد من مداخل الأبنية، وما تبقى منها بات صدئاً ويعلوه الغبار ويأكله النسيان، وصارت كـ"صناديق للفرجة" بعدما أهمل أصحابها كتابة الرسائل البريدية، واستعاضوا عنها بالرسائل الإلكترونية على أنواعها!

ساعي البريد... مكانة تاريخية خاصة في المغرب

قبل ظهور موجة التقنيات الرقمية، وفي مرحلة كان فيها الهاتف الأرضي الوسيلة الوحيدة للتواصل، على الرغم من أنه لم يكن متوافراً لدى غالبية المغاربة، إلى حدود تسعينيات القرن الـ 20، نظراً لصعوبة الحصول على خط هاتفي، إذ كان الأمر يقتصر فقط على بعض الأحياء الراقية، وأمام كل ما سبق، كان يعد ساعي البريد شخصاً لا بد منه في الحياة اليومية للمجتمع المغربي، لا سيما في ما خص تناقل الأخبار بين العائلات والمعارف والعشاق، إضافة إلى إيصال الرسائل الإدارية.

التلاميذ الكسالى

وإن كانت رؤية ساعي البريد تشكل لحظة سعادة للبعض نظراً لكونها وسيلة للاطلاع على أحوال الأقارب والأصدقاء، إلا أنها لم تكن كذلك بالنسبة إلى التلاميذ الكسالى، لأن قدوم "حامل الرسائل" كان يشكل لحظة شؤم بالنسبة إليهم، باعتبار أن المدارس كانت تبعث النتائج المدرسية في نهاية كل دورة دراسية عبر البريد فقط، وفي سبيل الحيلولة دون إطلاع الآباء على النتائج المخجلة، كان يجتهد عديد منهم في إقناع ساعي البريد بمنحهم الرسالة التي تحتوي النتيجة تجنباً للفضيحة، لكنه في الغالب كان يوصلها لولي أمر التلميذ، ما تسبب لعديد من هؤلاء الأطفال في توبيخ عائلي لا ينسى، وخلق عندهم حقداً كبيراً عل حامل الرسائل.

رجل التواصل الاجتماعي

وتشير أم ربيعة، ربة منزل في إحدى البوادي المحاذية لمدينة الدار البيضاء، إلى أنه قبل عقود، كان يعد مجيء ساعي البريد إلى قريتها كأنه يوم عيد، ولأنه كان يزور القرية في فترات متباعدة، فإن لحظة قدومه تعد مهمة جداً لسكان القرية، وخصوصاً للأمهات اللواتي ينتظرن رسائل تطمئنهن على أولادهن المهاجرين في المدن، وأوضحت أن دور ساعي البريد لم يكن يقتصر على تسليم الرسائل فقط، بل كان يقوم في بعض الأحيان بقراءتها في حال كان متسلمها أمياً، ما كان يخلق علاقة مودة واحترام بينه وبين سكان القرية، لأنه يتحول من مجرد موظف إلى فرد من العائلة لاطلاعه على  تفاصيل حياة سكان القرية، وتابعت أم ربيعة، "ولشكره على نقله أحوال أقاربنا، إضافة إلى تكبده عناء تنقله مسافة طويلة على دراجته الهوائية، نقوم بإكرامه عبر تقديم وجبة كانت تضم في العادة الشاي والخبز والبيض المقلي وزيت الزيتون، وكنا نمنحه بعضاً من البيض ليحمله إلى منزله".

تغير الحال

من جانبها تشير أم هبة، وهي موظفة في القطاع العام في مدينة الدار البيضاء، إلى تغير مكانة ساعي البريد، فبعد أن كان دوره محورياً باعتباره الناقل الرسمي للأخبار الشخصية بين العائلات والمعارف والعشاق، أصبح  دوره اليوم محصوراً في نقل الاستدعاءات الإدارية و الحوالات والطرود.


وأضافت:" أنه لم يعد يضطلع إلا بجزء يسير منها بعد ابتلاع الشركات العالمية الكبرى معظم سوق التوصيل السريع للرسائل والطرود، موضحة أن الجيل الجديد لا يكاد يعرف من هو ساعي البريد، نظراً لارتباطه الوثيق بوسائل التواصل الحديثة التي قضت على آلية التواصل عبر الرسائل التقليدية، وتابعت أن التطور السريع أسهم في افتقادنا العديد من الأمور، من بينها رؤية ذلك الشخص الآتي على دراجته حاملاً حقيبة ملأى بالرسائل، ينتظرها أصحابها على أحر من الجمر، من مطمئن على ذويه، إلى مطلع على نتائجه الدراسية، إلى ترقب رد على طلب عمل...

تاريخ الخدمة

وكان المغاربة يعتمدون في التواصل بينهم على رسائل شفهية أو مكتوبة كانت ترسل مع المسافرين، إلى أن ظهرت في القرن العاشر خدمة "الرقاص" التي تعتمد على نقل الرسائل بين الأفراد أو الإعلان عن قرار رسمي بواسطة شخص توكل إليه تلك المهمة مقابل مبلغ معين من المال، وبذلك نقل "الرقاص" الرسائل الشخصية وأعلن عن قرارات إدارية للعامة، كما كان يتولى الإعلان عن الوفيات، وتشكل تلك الخدمة أصل خدمة البريد في المغرب، قبل أن تحتل المملكة من قبل فرنسا وإسبانيا ويقوما بإنشاء مكاتب بريدية عصرية في مختلف المدن.

ما زال "البوسطجي" يتلصص على الرسائل والرقمنة جعلت منه "مندوباً"

في مصر لا يقولون "وداعاً للبوسطجي" (ساعي البريد) بل مرحباً بـ "موظف التوصيل" وربما تنزيل تطبيق "بوسطجي" المتخصص في التوصيل شأنه شأن عشرات التطبيقات التي أنهت عمل ساعي البريد بمعناه المعروف للكبار.

الكبار، وتحديداً من تعدوا مرحلة المراهقة، يتذكرون ساعي البريد. من هم في العقد السابع أو أكثر من العمر يتذكرونه ببدلته البنية وطربوشه وحقيبة "البوسطجي" الشهيرة المتخمة بخطابات الأهل والأصدقاء والأحباب. ومن هم أصغر قليلاً يتذكرونه بعدما تخلى عن الزي الموحد جزئياً أو كلياً. والجميع يعرف أن حمولة البوسطجي من الخطابات أخذت تتغير وتتلون بألوان التغيرات التقنية في عالم الاتصالات، حيث أول ضربة قاصمة كانت عبر الهاتف المحمول وتقنية الرسائل النصية القصيرة. ثم توالت الضربات التقنية والتوسعية. مزيد من إتاحة الهواتف المحمولة والكمبيوتر ومن توسع شبكات الإنترنت ومن الإتاحة لشتى الطبقات والفئات أخذت في الدفع بـ"البوسطجي" إلى أرشيف الذكريات.

الذكريات لا تعني الفناء

لكن الذكريات لا تعني الفناء، بل تعني جيلاً جديداً من موظفي ومندوبي الهيئة القومية للبريد أو "البريد المصري"، وطوراً حديثاً من تقنيات التوصيل وغيرها من الخدمات.

أول ما يطالع متصفح موقع "البريد المصري" هو إمكانيات "انقر هنا" للإرسال أو للحوالات الفورية أو خدمات التحصيل أو صرف المعاشات أو دفع الفواتير وقائمة طويلة تتطلب النقر. فارق زمني قصير وتقني كبير بين النقر هنا على الشاشة للحصول على الخدمة، والنقر هناك على الباب لتوصيل الخطابات.

صناديق الخطابات الخاوية على عروشها في مدخل العمارة السكنية القديمة تعكس ما جرى. 46 صندوقاً بالتمام والكمال ما زال بعضها يحمل بقايا أسماء السكان في الـ46 شقة. حارس أمن العقار مجدي سمعان (55 عاماً) يحاول جاهداً أن يتذكر آخر مرة جاء فيها "البوسطجي" إلى العمارة ليسلم خطابات للمرسل إليهم. يقول: "ربما كان ذلك من 10 سنوات. لكن حالياً لا يمر يوم من دون توافد مندوبي توصيل الطرود، وبعضهم يعمل لدى البريد المصري. أما الخطابات فولى زمنها".

سمعان نفسه النازح من محافظة أسيوط (صعيد مصر) لا يتواصل مع ذويه هناك بالخطابات. "واتساب وفيسبوك يقومان بالمهمة. وإن أردت إرسال أموال، فأقوم بذلك عن طريق فوري أو بحوالة عن طريق مكتب البريد. أم البوسطجي، فقد انتهى".

البوسطجي أصبح مندوباً

البوسطجي لم ينته بحسب هيئة البريد، لكن تغيرت مهامه وتعددت الخدمات التي يقوم بها، ولذلك لم يعد اسمه "بوسطجي" بل "مندوب". طرود، وخدمات مالية، وتوصيل معاشات، وسداد فواتير، وشحن عدادات مياه وكهرباء وقائمة طويلة من الخدمات يقدمها المندوب اليوم. حتى دراجته الهوائية في المدن وحمارته في القرى تبددا في هواء العصر الرقمي. يصل المندوب في سيارة الهيئة مسلحاً بماكينات الدفع والتوقيع الإلكتروني ولا يملك رفاهية "صباح الخير يا حاجة. كيف حالك اليوم وكيف حال الحاج؟" ولكنه يسلم الطرد أو إنهاء المعاملة المادية وفي أحوال نادرة تسليم خطاب البريد السريع، يحصل على التوقيع الإلكتروني، ويهرع عائداً إلى سيارة الهيئة.

وإذا كانت سيارة البريد المصري تقول الكثير عما شهده البوسطجي المصري من تغيرات كبرى، فإن مكاتب البريد المصري المنتشرة في كل ركن من أركان مصر تقول الكثير أيضاً. سخرية القدر هي أن هذه المكاتب تقدم عشرات الخدمات التي لا تتعلق بالبريد. حسابات مصرفية، وحوالات مالية، ومعاشات، وأحياناً إرسال رسائل بريدية مسجلة أغلبها يكون لأسباب رسمية تتعلق برغبة الراسل في التأكد من أن المرسل إليه قد تسلم الرسالة، وفي الأغلب يكون الغرض إثبات حالة.

حالة البريد المصري وساعيه الأمين وتطورات إرسال الخطابات يلخصها متحف البريد المصري في القاهرة الذي يؤرخ لرحلة البريد في مصر منذ تأسيسه في عهد والي مصر محمد علي في عام 1886. المتحف الذي افتتح عام 1934 في عهد الملك فؤاد الأول يحكي كثيراً عن زمن فات. موازين وحقائب بريد وأختام وصناديق بريد وملابس ساعي البريد وشارات ملابسهم ونماذج مصغرة لمباني البريد في مدن مصر المختلفة وعربات خشبية ودراجات هوائية وأخرى نارية وطوابع قديمة وكل ما يختص بمسيرة البريد المصري منذ قيامه بدور بالغ الحيوية في التقريب بين الناس والإخبار والإشهار وحتى أفول دوره في التواصل ومواكبته العصر الرقمي وضلوعه في عوالم التوصيل والعمليات المالية الإلكترونية والتطبيقات العنكبوتية وطوابع البريد التذكارية.

التلصص مستمر

التذكرة بساعي البريد المصري لا تستوي من دون فيلم "البوسطجي" الشهير عن قصة الأديب يحيى حقي، وهو الفيلم الذي لعب فيه الراحل شكري سرحان دور البوسطجي التاريخي، وخلف ميراثاً ممزوجاً بين حب البوسطجي والتخوف منه في العقل المصري الجمعي المواكب لظهور الفيلم في عام 1968، وكلما تم عرضه على شاشة التلفزيون.

"البوسطجي" المصنف ضمن أفضل 100 فيلم في تاريخ السينما المصرية عن جدارة حيث عباس ناظر البوسطة يتم نقله إلى أسيوط، وهناك يعاني من جهل الناس وتزمتهم وجفائهم معه، ويقيم علاقة مع راقصة لكن يفتضح أمره، فيقرر الانتقام من أهل المدينة بالتلصص على رسائل الجميع.

الطريف أن التلصص على رسائل الجميع اليوم بات مواكباً بل سابقاً للعصر الرقمي، حيث انتهاك الخصوصية والاطلاع على محتوى المراسلات مهام كبرى تطلع بها تقنيات عظمى.

ومن المميزات القليلة لمراسلات العصر الرقمي هو أن بوسطجية الألفية الثالثة لا يشكون كثرة المراسلات بل يشجعونها ويتحملونها ويطالبون بالمزيد منها لأن في ذلك مكسباً لهم وتغذية لقدراتهم وسطوتهم. وبالتالي لم تعد الشكوى التي تبثها المطربة "رجاء عبده" من أن "البوسطجية اشتكوا من كثرة مراسيلها" سقطت بسقوط كثرة المراسيل.

اقرأ المزيد

المزيد من تحقيقات ومطولات