Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

رسوم فرانز كافكا تخرج من الأدراج بسخريتها العبثية

كائنات هشّة مرسومة بخفّة وتخطيطات يصفها بـ"الهيروغليفية" الشخصية التي تتعذر قراءتها

من رسوم كافكا التي خرجت إلى الضوء (من الكتاب -  دار لي كاييه ديسينيه)

في هوامش مخطوطاته، أو رسائله، في دفاتره، أو على أوراق متفرقة، كان الكاتب التشيكي الكبير فرانز كافكا (1883ــ1924) يرسم. ممارسة لم تكن مخفية على أصدقائه، وخصوصاً على صديقه الحميم ومنفذ وصيته، الكاتب ماكس برود، الذي كان يعتبر صاحب "الانمساخ" رساماً قبل أي شيء، ويقص رسومه من دفاتره أو يسحبها من سلة مهملاته، حين لم يكن يتلقاها هدية منه.

لكن بحسب برود، كان كافكا "أكثر عدائية تجاه رسومه منه تجاه أعماله الأدبية". لذلك، طالب في وصيته التي خطها عام 1921 بإتلاف كل شيء: "كل ما سأتركه خلفي (...)، سواء تعلق الأمر بيوميات أو مخطوطات أو رسائل أو رسوم، يجب حرقه بالكامل من دون الاطلاع عليه، بما في ذلك النصوص والرسوم التي في حوزتك أو حوزة أي شخص آخر، وعليك المطالبة بها باسمي".

لكن لحسن الحظ، لم يحترم برود، الذي كان معجباً إلى حد الشغف بمختلف مواهب صديقه، إرادته، وإلا لما وصلتنا روايات كافكا الرائعة "المحاكمة" و"القصر" وأميركا"، التي سمح برود لنفسه بإعدادها للنشر، ولا رسومه التي كانت قابعة في خزانة مصرف سويسري. وبعد معركة قضائية ضارية، تحررت الرسوم أخيراً من أسرها لتحط في كتاب صدر حديثاً، وبالتزامن في باريس وبرلين ونيويورك، مرفقة بتعليقات عليها خطها الفنان السويسري بافيل شميد، وبنص طويل للباحث المتخصص بكافكا، أندريا كيلشر، وآخر للفيلسوفة الأميركية جوديت باتلر.

رسوم شخصية

"هذه ليست رسوم يمكنني عرضها، إنها مجرد محاولات هيروغليفية شخصية تتعذر قراءتها". كتب كافكا عن هذه الأعمال التي أنجز معظمها بين عامي 1901 و1907، وتقع في طبيعتها بين واقعية ومحاكاة كوميدية ساخرة. رسوم تقطنها كائنات هشة مرسومة بشكل إعدادي سريع، وتبدو تارةً أثيرية كما لو أنها تحلق في الفضاء، مثل شخصيات شاغال، وطوراً منحنية على ذاتها تحت وطأة حضورها في العالم، أو غارقة في ملابسها كما في مخاوفها. كائنات هي عبارة عن شخصيات مسرنمة، نائمة أو ساهرة، راقصة أو سائرة داخل فضاء مديني، وتحضر على شكل "عربسات" أو خربشات أو مكثف أحلام. وفي جميع هذه الرسوم، يذهب الخط إلى ما هو جوهري في مضمونها بغية إظهار الكوميديا البشرية وعبثيتها.

باختصار، أعمال تبين أن كافكا لم يكن يتقن الرسم فحسب، بل كان يملك أيضاً مخيلة تشكيلية جامحة وأسلوباً خاصاً به، وهو ما يجعل منها امتداداً، أو بالأحرى مقابلاً لنصوصه الأدبية، نظراً إلى فتحها نافذة جديدة وغير متوقعة على عالمه الداخلي. فبخلاف عمله الكتابي، المعتم غالباً، تعكس ممارسته للرسم حساً دعابياً وبهجة يلطفان الصورة التي كونها عنه الباحثون في أدبه.

وهذا ما استنتجه أحد النقاد الفرنسيين بقوله: "التوازن بين الدعابة والرعب الذي يميل غالباً لدى كافكا في اتجاه الرعب، ينقلب في رسومه، إذ يكشف الكاتب داخلها عن حس هزلي وتشويهي مشحوذ، كما هو الحال في بورتريه السكير الذي يجلس أمام كأسه الممتلئة، ويلتهم فم مسنن وجهه، أو في الرسم الذي يظهر فيه رجل مهندم، لكن تعلو وجهه شفتا مهرج تكذبان جدية وضعه البورجوازي. نعم، هناك كافكا ساخر، ماكر، وربما حتى سعيد".

خطوط صافية

وبينما أشار الفنان كيلشر في أحد تعليقاته على هذه الرسوم إلى أنه "يمكننا أن نعتبرها قصصاً حكمية من كلمة أو سطر أو فقرة واحدة"، رأت الفيلسوفة باتلر فيها "رغبة ملحة في التحرر من الوجود المتجسد من خلال الخط الصافي، خط فارغ من المادة والوزن، يطفو في الهواء، منعتقاً من الجاذبية"، مذكرةً بأن "موضوع الارتقاء أو التحول، لدى كافكا، مرتبط بالموت العنيف لأولئك الذين يتحدون آباءهم (الحكم، 1913)، أو يخضعون لأجهزة مميتة ("في مستعمرة العقاب"، 1919)، أو لإجراءات لا ينفصل القانون فيها عن الجريمة ("المحاكمة"، 1925)، أو يفشلون في مغادرة فراشهم في الوقت المناسب للتوجه إلى عملهم ("الانمساخ"، 1915)".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

مهما يكن، ثمة في هذه الرسوم شعور أكيد بابتهاج، بطرافة ناتجة من وضعيات الشخصيات المرسومة وحركاتها، وثمة شعور بسرعة تسمح بالإفلات من كاهل الأسئلة الميتافيزيقية. رسوم نتلقاها مثل رحلة تارةً حلمية، وطوراً سير ذاتية، لاستشفافنا داخلها ميلاً واضحاً لدى صاحبها إلى تجسيد عالم واقعي يومي، وآخر خرافياً معجوناً بالهواجس.

وفعلاً، رسم كافكا عام 1906 كائناً هجيناً ومقلقاً كذلك الحاضر في رواية "الانمساخ"، وفي الفترة نفسها، أنجز بورتريه واقعياً لأمه مرفقاً ببورتريه ذاتي تلاعب داخله في الأنوار والظلال للإيحاء بعلاقة عفيفة. وعلى بطاقة بريدية عنونها "لقطات من حياتي" وأرسلها إلى شقيقته عام 1918، خلال إقامته في مصح للمعالجة من مرض السل، خط مشاهد سريعة مثل فيها الحياة اليومية لرجل مريض.

أما الأحاسيس الشعرية والانطباعات القوية التي تميز أيضاً جميع رسومه، فلا تعكس فقط، بثرائها وغزارتها، موهبة رسامية مفعمة بالحيوية وشخصية شديدة التعقيد، بل تجعل أيضاً من هذه الأعمال باباً مفتوحاً على عالمه الحميمي الذي لطالما عشق التواري داخله، وهو ما يفسر قوله في رسالة وجهها إلى حبيبته فيليس باور عام 1913: "منذ سنوات، كانت هذه الرسوم مصدر رضا لي أكثر من أي شيء آخر".

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة