Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

الغرب يستفز روسيا لشن حرب لا تشاء وقوعها

من العسير تفهم الأسباب التي تدفع الولايات المتحدة تحديداً إلى تضخيم الحديث عن سيناريوهات الحرب حالياً

فلاديمير بوتين وجو بايدن خلال اجتماع بين زعيمي العالم في جنيف العام الماضي (أ ب)

يوم آخر، وسلسلة جديدة من الإنذارات التي يختلقها الغرب بخصوص اجتياح روسي وشيك لأوكرانيا. التصعيد الأخير الذي نسب إلى مسؤولين أميركيين لم يذكر اسمهم، ووصل إلينا إضافة إلى أمور أخرى عبر قطاعنا الإعلامي العام الذي يتحلى عادة ببرودة الأعصاب، وهو أن روسيا تخطط الآن لعملية تقدم عسكرية واسعة تشمل الاستيلاء على العاصمة الأوكرانية كييف واحتلالها.

على خلفية التقارير التي تدعي أن روسيا قد حشدت مئة ألف جندي قرب الحدود مع أوكرانيا، قال الرئيس الأميركي جو بايدن، إنه يعتقد أن روسيا "ستقوم بعمل ما" ضد أوكرانيا من دون أن يعني ذلك بالضرورة "حرباً مفتوحة [شاملة]". يأتي ذلك بعد 24 ساعة على إعلان وزير الدفاع الأوكراني أوليكسي ريزنيكوف Oleksii Reznikov في مقابلة ضمن برنامج "هارد توك" الذي تبثه قناة هيئة الإذاعة البريطانية "BBC" ويقدمه المذيع ستيفن ساكور Stephen Sackur، أنه على الدول الغربية فرض عقوبات مالية قاسية للغاية على روسيا قبل الاجتياح الروسي وليس بعده.

في أخبار أخرى، كما يقولون، كان البنتاغون قد توقع أن روسيا يمكن أن تكون في صدد إعداد عملية تضليل عسكرية false flag كمقدمة لاجتياح أوكرانيا (مماثلة في الغالب لحادثة تونكين Tonkin، التي أدت إلى توريط الولايات المتحدة في حرب فيتنام). المناورات العسكرية التي تقودها موسكو في بيلاروس يعتبرها البعض بمثابة عملية تمويه محتمل على تقدم نحو أوكرانيا. في هذه الأثناء قامت المملكة المتحدة بإرسال شحنة من الصواريخ المضادة للدروع إلى كييف، كما يبدو أن وزير الدفاع البريطاني بن والاس Ben Wallace، وهو كان حتى الأمس القريب صوتاً عاقلاً وسط الأصوات الداعية للفتنة، قد خصص ساعات كثيرة من وقته الثمين لكتابة رد على مقالة كتبها فلاديمير بوتين قبل ستة أشهر تتحدث بالتفصيل عن أواصر القرابة التي تربط روسيا بأوكرانيا.  

كل ذلك هو إما ترهات غير مسؤولة وضعت من قبل أشخاص كان الأحرى بهم أن يكونوا على اطلاع أفضل بدلاً من المخاطرة بإشعال نزاع عسكري مع روسيا. أو يمكن أن يكون ذلك جزءاً مقصوداً من خطة غربية لدفع روسيا للاختيار- بين اجتياح شامل (متسرع)، من جهة، أو أن تضطر إلى التراجع بشكل مهين من جهة أخرى. في الحالتين على حد سواء، لا مبالغة في القول، إن الاضطراب [الجنون] والتهور بلغ مداه في عملية قرع طبول الحرب التي يقدم عليها المسؤولون الغربيون و"مصادرهم".

ما يصعب فهمه أيضاً، هو لماذا تود الولايات المتحدة الأميركية على وجه التحديد، النفخ في سيناريوهات الحرب في هذه المرحلة. إذا دفعت إلى الإجابة (عن السؤال)، كنت لأخمن أن بايدن ربما يسعى لاعتماد نهج "شرطي جيد وشرطي سيئ" good cop/bad cop مع روسيا، من خلال مساعيه إجراء مفاوضات جديدة وجدية معها، وفي الوقت نفسه محاولاته مقاومة الرفض الذي تبديه مؤسسته الأمنية، وهو رفض مماثل لما واجهه دونالد ترمب وفشل في تجاوزه في حينه. ثم هناك سيناريو التضليل السهل، حيث يمكن أن يكون الرئيس المحاصر (بايدن) بصدد السعي إلى حرف أنظار الرأي العام الأميركي عن متابعة الويلات التي تعانيها إدارته.

لكن ما زال من الصعب علي تفهم الأسباب وراء اختيار رئيس أميركي يتمتع بخبرة سياسية واسعة وتحديات كثيرة أخرى عليه التعامل معها، أن يقول أو أن يفعل ما من شأنه إشعال حرب في أوروبا - إلا إذا كان كل الأطراف المعنيين متيقنين جداً وفي قرارة أنفسهم، أن تلك الحرب لن تقع. إذا كان ذلك هو نهج التفكير السائد، علينا جميعاً إذاً أن نأمل أن تكون تلك الحسابات غير خاطئة [صائبة]. لماذا إذن السعي إلى دفع تلك السردية إلى هذا الحد؟ لماذا قد نعتقد أن روسيا تخطط حتى للقيام باجتياح من النوع الذي تتحدث عنه الدول الغربية بكل ثقة؟

روسيا تعرف أكثر من غيرها مخاطر شن حرب في فصل الشتاء. فشبح انسحاب الجيش الأحمر (السوفياتي) من أفغانستان لا يزال ماثلاً في الأذهان، الرأي العام الروسي قلق من أي مغامرة عسكرية، والكرملين يدرك ذلك. فأي اجتياح لأوكرانيا لن يكون مشابهاً لاحتلال شبه جزيرة القرم في 2014. فأوكرانيا ستحارب، ودموية تلك الحرب قد تطيح بسهولة عهد بوتين وتسقطه عن عرش السلطة التي تربع عليها منذ أكثر من عشرين عاماً، كما من شأن ذلك أن يهدد بانتقال العنف ليعم كافة أرجاء المنطقة. باختصار، ليس هناك من مبرر لتلك الحرب قطعياً، كما أنه ليست هناك أي أدلة ولو ضعيفة على أن بوتين أو أي من المقربين من الكرملين يميلون إلى مثل ذلك التوجه.

كما أن الرئيس بوتين لم يلمح حتى إلى أنه يطمح لإعادة بناء الاتحاد السوفياتي أو الإمبراطورية الروسية. فذلك لم يكن ما كان يقصده أو ما يمكن استنتاجه من ملاحظاته المسيئة معتبراً أن انهيار الاتحاد السوفياتي كان "أعظم كارثة جيواستراتيجية" في القرن العشرين. وبوتين سعى لتوضيح كلامه في وقت لاحق لأنه ببساطة كان يشعر بالتعب مثل كثيرين من النمطية الغربية المعتادة، مشيراً إلى أنه كان يقصد من كلامه حال الفوضى المحلية التي عمت والحرمان الذي عانى منه المواطن الروسي العادي جراء انهيار الاتحاد السوفياتي، ولم يكن يقصد حنينه إلى حقبة إمبريالية جديدة.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

ليس هذا فحسب، لكن من الواضح أن روسيا رفضت التدخل بشكل عام في دول الاتحاد السوفياتي السابق عندما كان يطلب منها التدخل (عسكرياً). فروسيا رفضت - أو في مثل حالة كازاخستان قدمت روسيا المساعدة بشكل بسيط جداً عبر إرسال قوات مظلية انسحبت بعد أيام- حين طلب منها تقديم المساعدة العسكرية إلى جمهوريات آسيا الوسطى التي كانت تواجه مشكلات.

روسيا لم تتحرك ضد أوكرانيا إبان أو بعد الثورة البرتقالية في 2004-2005، والتي سمحت بوصول حكومة مؤيدة بشكل كبير للغرب إلى السلطة هناك. في 2008 لم تبق روسيا على قواتها في جورجيا لمدة أكثر مما يسمح لها باستعادة الإقليمين الذين استهدفهما الرئيس ميخائيل سكاشفيلي. استيلاء روسيا على شبه جزيرة القرم في 2014 يمكن اعتباره عملية استباقية لمنع سقوط قاعدة سيفاستوبول البحرية بأيادي حلف شمال الأطلسي. بعد ذلك بفترة وجيزة، لاحظ بوتين أن روسيا كان يمكنها التقدم وصولاً إلى كييف، (وما عناه هنا هو أنه "كان في متناولها التقدم، لكنه اختار الإحجام عن ذلك"). لكن كلماته قد تمت ترجمتها بشكل خطأ [أسيء فهمها]، وتنصله من التهمة حور إلى شكل من التهديد ـ التهديد الذي ربما يسهم في كلام الدول الغربية عن التخوف من اجتياح هذه الأيام.

أما عن وضع أوكرانيا (كدولة)، فلطالما اعترفت روسيا ووافقت على أن أوكرانيا هي دولة مستقلة وذات سيادة. منذ 2014 رفضت موسكو وبتصميم دعوات متزامنة من قبل بعض الأوكرانيين في شرق البلاد الممزق جراء النزاع هناك أن يتم ضم إقليم دونباس Donbas إلى روسيا. كلام بوتين الذي نشر في يوليو (تموز) الماضي تمت قراءته بشكل خاطئ في الغرب كدليل على طموحات بوتين الإمبريالية، وهو ما لم يكن أبداً ليعبر عن ذلك. كان مجرد كلام يعبر عن حنين إلى علاقات "كانت" قائمة في الماضي- وربما تعود من جديد.

وزير الدفاع البريطاني بن والاس قام بالاقتباس من المقطع الأساسي في رده على مقالة بوتين، فقط من أجل نفيها. فقد كتب والاس قائلاً "إن الرئيس بوتين نفسه اعترف في مقالته أن الأمور تتغير: ولا تشذ الدول والشعوب عن هذه القاعدة. بالطبع بعض المكونات الشعبية وهي حين تخط طريقها نحو التطور، وربما بسبب تأثرها بعدد من الأسباب والظروف التاريخية، قد تنظر إلى نفسها على أنها أمة منفصلة في مرحلة من المراحل. ولكن كيف علينا التعامل مع ذلك؟ هناك جواب واحد: بكل احترام!

لنؤكد مرة أخرى ذلك. إجابة واحدة أعطاها بوتين حول الطموحات الأوكرانية: علينا معاملتهم "باحترام".

إذاً لماذا هناك كثير من الأشخاص المقتنعين بأن بوتين يعد العدة لاجتياح أوكرانيا، إن لم يكن هذا الشهر فمن الأكيد أنه سيفعل ذلك في الشهر المقبل؟ أحد الأسباب ربما يكون ببساطة التاريخ الطويل من سوء الفهم الغربي لطبيعة ما يمثله بوتين. سبب آخر هو ربما الميل (الغربي) لتفسير التحركات الروسية وكأنها على الدوام عدوانية، فيما تحركاتنا (في الدول الغربية) دفاعية، فيما يبدو أن الأمور خلاف ذلك من وجهة نظر موسكو. وسبب ثالث يعكس بالتأكيد إصرار الغرب على رفض الاعتراف أن روسيا تشعر بالتهديد من حلف الأطلسي ــ وهو التحالف العسكري المتفوق عسكرياً على نحو كبير، والذي تخافه موسكو، وسيقوم بدمج أوكرانيا ضمن منظومته عاجلاً أم آجلاً.

الخطر يكمن في أن الجانبين ينظران إلى وضعهما وكأنهما في سباق مع الزمن: روسيا تتخوف من أن أوكرانيا سيتم دمجها عبر الإجراء السريع في عضوية حلف الأطلسي، إن لم تكن قد أصبحت ضمن الحلف بشكل فعلي بعد، والغرب يتخوف من أن تتصرف روسيا بشكل استباقي للحيلولة دون ذلك ولو تتطلب الأمر استخدام القوة.

الشهر الماضي، اقترحت روسيا على الولايات المتحدة وحلف الناتو مسودة مشروع لمعاهدات تحدد بشكل عملي لائحة بتمنيات موسكو لضمان الأمن الأوروبي، وفي نفس الوقت أوضحت أن انتساب أوكرانيا إلى حلف الأطلسي مهما كان شأنه يشكل "خطاً أحمر" روسياً. إعلان موسكو عما تعتبره خطها الأحمر [من المحظورات] بشكل جلي ربما يساهم في تفسير الأسباب الكامنة خلف الحديث عن الحرب. حتى ذلك الوقت كان يمكن التظاهر بأن روسيا ربما ستتراجع بهدوء أمام المزيد من التقدم لحلف الأطلسي. هذه المرة، قالت روسيا "توقفوا".

الموقف المعلن الآن مفاده أن الغرب لا يمكنه السماح لروسيا بأن يكون لها حق النقض، الفيتو، حول من يمكنه الانضمام إلى حلف ناتو، في المقابل لا يمكن لروسيا أن تتسامح مع انضمام دولة تعتبرها من آخر مناطقها العازلة إلى حلف تعتبره موسكو معاد لها. فلو كان هناك أي نزاع لا يجب أن تحكمه دبلوماسية مستخفة بالوقائع، فهو هذا الوضع. المشكلة هي أنه في الواقع كان هذا الوضع سائداً (في الأزمة الأوكرانية) حتى اللحظة التي اكتشفت فيها موسكو النوايا الغربية وأعاقتها. اليوم لا بد من تسوية جديدة، وإلى أن تتوفر، أي إلى أن يتوصل إلى مواقف تتيح التوفيق بين مطالب الجانبين، فإن التوتر سيبقى قائماً ومحتدماً على مستوى الخطورة الحالية.

© The Independent

المزيد من آراء