شهد العالم كوارث مناخية غير مسبوقة في عام 2021، وأصبح هذا هو العام السادس الأكثر سخونةً على الإطلاق من خلال قياس سطح الأرض والمحيطات، وفقاً للبيانات الصادرة عن "وكالة ناسا" والإدارة الوطنية الأميركية للمحيطات والغلاف الجوي في تقريرها السنوي حول المناخ العالمي الصادر في 13 يناير (كانون الثاني) 2022، لكن المفاجأة تأتي من أن أعماق المحيطات أيضاً وصلت إلى مستويات قياسية من الحرارة، فما تداعيات ذلك على حياة البشر؟ وهل ستبرد المحيطات إذا تباطأت انبعاثات غازات الاحتباس الحراري؟
طوال عام 2021 تركت الكوارث المناخية بصماتها العنيفة في جميع أرجاء المعمورة، من الفيضانات المفاجئة المدمرة التي اجتاحت المدن الجبلية في أوروبا، والفيضانات التي أغرقت أنظمة مترو الأنفاق في الولايات المتحدة والصين، إلى موجات الحر وحرائق الغابات في أميركا وروسيا واليونان وإيطاليا وتركيا، وعلى سبيل المثال، قتل إعصار راي الذي ضرب الفيليبين في أكثر من 400 شخص، كما تسبب إعصار "إيدا" في أضرار مادية تقدر بنحو 74 مليار دولار أميركي في الولايات المتحدة.
تحت السطح
ولكن تحت سطح المياه، سجلت درجات حرارة المحيطات مستويات قياسية جديدة في عام 2021، وفقاً لدراسة نُشرت قبل أسبوع واحد، وأجراها 23 باحثاً ينتمون إلى 14 معهداً لتتبع الاحترار في محيطات العالم، وكما يوضح عالم المناخ كيفين ترينبيرث الذي أشرف على الفريق البحثي لهذه الدراسة، فإن درجة الحرارة على سطح الأرض، والتي يختبرها الناس ويعانونها يوماً بعد يوم، لا تُعد أفضل مؤشر لقياس ظاهرة الاحترار، إذ إن درجة الحرارة في الجزء العلوي من المحيط تُعد هي أفضل مؤشر لقياس كيفية تراكم الحرارة الزائدة على الكوكب.
وبحسب ترينبيرث، أصبحت محيطات العالم أكثر سخونة من أي وقت مضى، فقد تزايدت بشكل منتظم منذ ستينيات القرن العشرين، ويُعد ارتفاعها الملحوظ من دون انقطاع، مؤشراً رئيسياً على تغير المناخ الناجم عن النشاط الإنساني.
لماذا المحيطات؟
تغطي المحيطات ما يقرب من 70.8 في المئة من سطح الأرض، لكنها تحتوي على 97 من مياه الكوكب، ولهذا السبب يؤدي ارتفاع درجة حرارة المحيطات، إلى زيادة قوة وضراوة أنظمة الطقس، ما يؤدي إلى ظهور عواصف وأعاصير أكثر قوة، ومزيد من هطول الأمطار الغزيرة، الأمر الذي يهدد ليس فقط حياة البشر وسبل عيشهم، بل يهدد الحياة البحرية ككل، فوفقاً لدراسة أجراها المركز الوطني الأميركي لبحوث الطقس العام الماضي، فإن هناك تأثيرات مباشرة للاحترار العالمي على هطول الأمطار، حيث تؤدي الزيادة في درجات الحرارة إلى تبخر أكبر، بالتالي تجفيف السطح، وزيادة كثافة ومدة الجفاف، ومع ذلك تزداد قدرة الهواء على الاحتفاظ بالماء، إذ ترتفع نسبة معدل بخار الماء في الغلاف الجوي بنحو 7 في المئة مع كل زيادة بمقدار 1 درجة مئوية في درجة الحرارة، ولهذا فإن العواصف، سواء أكانت عواصف رعدية أو مطرية أو ثلجية، تكون مصحوبة بزيادة الرطوبة، وينتج عن ذلك مزيد من هطول الأمطار الشديدة على نطاق واسع، ما يزيد من أخطار الفيضانات، وتصبح المناطق الجافة أكثر جفافاً، وبخاصة في المناطق شبه الاستوائية، كما تصبح المناطق الرطبة أكثر رطوبة، وهو أمر من المتوقع أن يستمر في المستقبل.
وتمتص المحيطات والبحار نحو 93 في المئة من الطاقة الإضافية الناشئة عن غازات الاحتباس الحراري المتزايدة الناتجة عن الأنشطة البشرية، وبخاصة حرق الوقود الأحفوري، ونظراً لأن الماء يمتص حرارة أكثر من اليابسة وبحجم كبير، فإن ما تم تسجيله حول ارتفاع حرارة المحيطات خلال العقود الماضية يمثل أهمية أكبر في قياس الاحترار العالمي.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
النقاط الساخنة
وتشير هذه الدراسة التي تُعد أول تحليل يرصد احترار المحيطات خلال عام 2021، إلى الارتباط الوثيق بين الاحترار العالمي والنشاط البشري، كما أنها تؤكد أن ظاهرة الاحتباس الحراري ما زالت قوية ومستمرة، فقد سجل متوسط درجة حرارة سطح المحيطات في عام 2021 سادس أعلى درجات حرارة مسجلة، ويرجع ذلك جزئياً إلى ظاهرة النينو والنينا التي استمرت لمدة عام، حيث تؤثر ظروف الطقس الباردة في المحيط الهادئ عند خط الاستواء، على أنماط الطقس حول العالم.
ورصد العلماء الكثير من التباين الطبيعي بين درجات حرارة الهواء فوق سطح المحيطات ودرجات حرارة المحيطات نفسها بسبب ظاهرة النينو والنينا وتقلبات الطقس، ويؤدي هذا التباين الطبيعي فوق سطح المحيط الذي يزداد احتراراً إلى خلق نقاط ساخنة، تسمى أحياناً "موجات الحرارة البحرية" ، والتي تختلف من سنة إلى أخرى، لكنها تُحدِث تأثيرات عميقة على الحياة البحرية، بدءاً من العوالق الصغيرة والشعب المرجانية، إلى الأسماك والثدييات البحرية والطيور، في حين تؤدي البقع الساخنة الأخرى إلى التسبب في مزيد من النشاط في الغلاف الجوي، مثل الأعاصير.
من الماء إلى اليابسة
وفي حين أن درجات حرارة سطح اليابسة هي نتيجة وسبب في الوقت نفسه، فإن المصدر الرئيس الذي يسبب الظواهر المناخية المتطرفة، يتعلق بحرارة المحيط، والتي تُحفز وتُنشط أنظمة الطقس، حيث اكتشف الباحثون أن جميع المحيطات تزداد احتراراً، مع ارتفاع درجات الحرارة بأكبر قدر في المحيط الأطلسي وفي المحيط الجنوبي الذي يحيط بالقارة القطبية الجنوبية، الأمر الذي يثير أكبر قلق للجليد في القارة القطبية الجنوبية (أنتاركتيكا)، حيث يمكن للحرارة في المحيط الجنوبي أن تتسلل تحت طبقات الجليد في القارة القطبية الجنوبية، مما يؤدي إلى ترققها، وينتج من ذلك انقسام وتفكك الجبال الجليدية الضخمة وذوبان بعضها بمرور الوقت، ما يقود إلى ارتفاع مستوى سطح البحر حول العالم وغرق كثير من الشواطئ والمدن الساحلية.
وعلاوة على ذلك، تزود المحيطات الأكثر دفئاً الغلاف الجوي فوق اليابسة بالرطوبة، ما يزيد من أخطار الفيضانات، مثلما حدث في الساحل الغربي للولايات المتحدة الذي عانى عدة مرات هذه الظواهر، حيث توفر المحيطات الأكثر دفئاً رطوبة إضافية للجو، والتي تغذي بدورها العواصف، وبخاصة الأعاصير، وقد تصبح العواصف أكثر حدة وتستمر لفترة أطول، إذ وقع عديد من الفيضانات الكبرى في أستراليا ونيوزيلندا العام الماضي، كما يمكن أن يحدث تساقط للثلوج أكبر في الشتاء بشرط أن تظل درجات الحرارة أقل من درجة التجمد لأن الهواء الدافئ يحتفظ بمزيد من الرطوبة.
هل يبرد المحيط؟
في المحيطات، يطفو الماء الدافئ فوق مياه أكثر برودة وأكثر كثافة، ولذلك تصبح المحيطات عبارة عن عدة طبقات حرارية، حيث تكون دافئة من أعلى إلى أسفل، وهذا يمنع الاختلاط بين الطبقات، لكنه يسمح بطريقة أخرى للمحيطات بالتدفئة إلى مستويات أعمق ما يؤدي إلى امتصاص ثاني أكسيد الكربون والأوكسجين، ومن ثم يؤثر على جميع أشكال الحياة البحرية.
وعلى مدى عقود من القياسات والمتابعة، وجد العلماء أن أعلى 500 متر من المحيط، ترتفع درجة حرارتها بشكل واضح منذ عام 1980، بينما بدأت درجة حرارة الأعماق التي تتراوح بين 500 و1000 متر في الارتفاع منذ نحو عام 1990، في حين أن الأعماق بين 1000-1500 متر بدأت ترتفع حرارتها منذ عام 1998، أما الطبقة الأعمق التي تزيد على 1500 متر تحت سطح المحيط، فقد بدأت حرارتها في الارتفاع منذ عام 2005.
ويعني هذا الاختراق البطيء للحرارة من أعلى إلى أسفل أن المحيطات ستواصل الاحترار طالما تواصلت أسباب الاحترار العالمي، وسيستمر مستوى سطح البحر في الارتفاع، وحتى إذا نجحت الجهود الدولية في التحكم في غازات الدفيئة واستقرار معدلاتها إلى ما كانت عليه، فلن تبرد المحيطات إلى مستوياتها السابقة في أعوام قليلة، حيث يتوقع أن تستغرق عدة عقود.
الاستعداد للمستقبل
وبينما يحاول العلماء توسيع قدرتهم على مراقبة التغيرات الحرارية في المحيطات لتصل إلى أعماق ما دون 2000 متر نظراً لأهميتها التي لا تقدر بثمن وتأثيراتها المباشرة وغير المباشرة على حياة البشر والحياة البحرية، يدق العلماء جرس إنذار بضرورة الاستعداد لارتفاع مستوى سطح البحر لما له من آثار على المجتمعات الساحلية بشكل خاص، إذ يوصي الباحثون بإجراء تغييرات على التصميمات الهندسية، وقوانين البناء، وإضافة تعديلات على خطط التنمية في المناطق الساحلية.
وإذا كانت دول العالم تطمح للوصول إلى أهداف التنمية المستدامة بحلول عام 2030، فعليها أن تدرك أن كثيراً من هذه الأهداف ترتبط بشكل مباشر أو غير مباشر بصحة محيطات العالم مثل الإجراءات المناخية والقضاء على الجوع والمياه النظيفة، والصرف الصحي، والصحة الجيدة، والرفاهية.
وعلى الرغم من أن الأمم المتحدة بدأت في عام 2021، الاهتمام بعلوم المحيطات من أجل أهداف التنمية المستدامة، وبهدف زيادة الوعي بعديد من المشاكل التي تواجه المحيطات وزيادة القدرة على رصد المحيطات والبحث العلمي، فإن هذه الدراسة تشير إلى أنه لا تزال هناك شكوك وفجوات معرفية في مراقبة احترار المحيطات، على سبيل المثال، والتي ما زالت في حاجة إلى مزيد من الجهود اللازمة لفهم طريقة تغير حرارة المحيطات، ما يساعد في مكافحة التغير المناخي.