Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"هدوء تام" عرض بحريني يطرح سؤال القهر المعاصر

أجساد الممثلين تتحاور مع عناصر الخشبة لتنتج صورتها ودلالاتها

من عرض "هدوء تام" البحريني (الخدمة الإعلامية)

إذا كان "الفوران" التكنولوجي الحاصل الآن قد أسهم في رفاهية الإنسان ووفر عليه كثيراً من الجهد والوقت، فإن الصورة التي لاتكاد تكون مرئية لكثيرين أشد عتامة مما نظن، فقد أصبح الإنسان أسيراً لهذه الآلية، وبات معزولاً ومحاصراً بالضجيج والفوضى والتلوث السمعي والبصري، وإذا أضفنا إلى هذا كله ما يتعرض له من قهر سياسي وديني واجتماعي، بل وما يمارسه هو على نفسه من قهر، أدركنا بؤس إنسان هذا العصر ومأساوية وضعه.

لقد أفاض الكتاب والفلاسفة والمحللون وعلماء النفس والاجتماع وغيرهم في الكتابة عن أزمات الإنسان الوجودية وشقائه وبؤسه، واقترحوا لها حلولاً لكن معالجة هذا الأمر عبر الفن تتطلب رهافة خاصة، وقدرة على توظيف الأدوات في رحلة البحث التي لا تتوخى الإجابات بقدر ما تسعى إلى طرح الأسئلة.

في العرض المسرحي البحريني "هدوء تام"، الذي شارك في المسابقة الرسمية للدورة الـ 28 من مهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي، نحن أمام رحلة مضنية ومتعبة للتعبير عن هذه الأزمات، لكنها ممتعة بصرياً وفكرياً.

تأويل العنوان

مبدئياً يمكن تأويل العنوان الذي جاء بمثابة عتبة للدخول إلى عالم العرض، باعتباره صرخة في وجه العالم تطلب منه الكف عن ضجيجه التكنولوجي الذي سحق الإنسان تحت سنابكه، وحوله إلى آلة جامدة وباردة وبلا روح، ويمكن كذلك اعتباره عنواناً ساخراً لم تنقصه سوى علامة تعجب ليقول لنا على سبيل السخرية، "اهنأوا بهدوئكم الذي جلبتموه على أنفسكم".

وأياً كان التأويل فذلك كله في صالح العرض الذي قدمته فرقة مسرح جلجامش البحرينية، وهو من بطولة عمر السعيدي، نجم مساعد، راشد عبدالله، كامل نبيل، مريم حسن، تأليف يوسف الحمدان، سينوغرافيا وإخراج عبدالله البكري.

نص العرض أقرب إلى السيناريو منه إلى النص الذي يعتمد اللغة الكلامية من سرد وحوار ومونولوغ وديالوغ (الرجاء عدم كتابة مونولوج) إلا في ما ندر، بحيث يعتمد العرض أكثر على لغة الجسد، مدعومة بتقنيات بصرية وصوتية، لتسهم العناصر معاً في توصيل رسالة العرض وأسئلته.

توظيف الجسد

اشتغل المخرج على جسد الممثل ونجح في توظيفه على مستوى المغزى، وكذلك على المستوى الجمالي لينتج ذلك الجسد علاماته ويلعب دوره الدرامي داخل العرض، فحركة الممثلين لم تكن في الفراغ، بل هي تشير إلى معنى أو مغزى، وفي الوقت نفسه تقدم تشكيلاً جمالياً، يؤكد أن المسرح صورة، فصاغ المخرج الصورة من خلال أجساد الممثلين، والأشرطة والبكرات والأسلاك الكهربائية المستخدمة، وبدا ذلك على الرغم من حال الفوضى والضجيج المستمرة طوال الوقت، منسجماً ككل في توافق حركي وصوتي وبصري، أنتج في النهاية صورة العرض ومغزاه.

ا

لعرض الذي استغرق 50 دقيقة ضم خمسة ممثلين، لدينا في مستوى أعلى غالباً المايسترو الذي يحرك الأربعة الآخرين، وهو كما نستشف من الحركة والإيماء والصوت جلاد وضحية في الوقت نفسه. وبين الممثلين الأربعة لدينا فتاة، ربما للتأكيد على أن الضجيج والقهر والفوضى تطاول الجميع ولا تفرق بين ذكر أو أنثى، فالكل واقع تحت وطأتها.و ثمة أصوات متداخلة ومزعجة ولا رابط بينها، مثل نشرات أخبار وكلمات لقادة دول حول جائحة كورونا مصورة عبر شاشة في المنتصف، وأحاديث لشيوخ فضائيات يلحون على أن البلاء إذا حل بالمسلمين لا يستمر طويلاً.

هكذا افصح العرض عن رؤيته السياسية والدينية، معتبراً هؤلاء الساسة ورجال الدين المتشددين جزءاً رئيساً من القهر الذي يمارس على الإنسان في هذا العصر، الذي حولته التكنولوجيا إلى ما يشبه الآلات، وهو ما بدا من حركة الممثلين وخطوطها المتقاطعة المرسومة بعناية، وكذلك من ملابسهم التي تشبه جلد الإنسان، وكأننا بصدد الإنسان في عمومه أو بصدد الإنسان الذي عراه التقدم ودمره وعزله.

هنا والآن

وإذا كان العرض قد طرح فكرة الضجيج السمعي والبصري والقهر السياسي والديني، فقد أبى إلا أن يكون متواصلاً مع هنا والآن، فهو يدور في زمن معلوم ومكان مجرد لا ملامح له لتتسع الرؤية والدلالة. وقد تناول كذلك جائحة كورونا التي جاءت لتجعل الإنسان محصوراً ومعزولاً، فتتضاعف وطأة العزلة والحصار، وكأن لا مفر لإنسان هذا العصر مما يطارده من ضجيج وأوبئة وقهر سياسي وديني واجتماعي، وكلها واحد بحسب العرض، كلها أسهم بمقدار ما في سحق هذا الإنسان وانتهاك آدميته.

هو سؤال الحرية إذاً، إذا بحثنا عن معنى أو مغزى، لكن صياغته جاءت عبر منحى تجريبي، وهو أمر مشروع للخروج عن النمطية ومحاولة للنسج على غير منوال، واستفزاز للمشاهد كي يعمل عقله ويشحذ بصره وبصيرته، وربما أدرك مأساته التي يحياها والتفت إلى آليته التي أصبح عليها.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

ربما ثار على وضعه غير الآدمي ورفض ما يتعرض له طوال الوقت من انتهاكات على المستويات كافة. لقد أصبح إنسان هذا العصر، بحسب ما طرح العرض ووفق إحدى زوايا النظر التي قد تتعدد، واقعاً في دائرة جهنمية من القهر لا تنتهي، وهو طرح جرئ لكنه يلمح ويشير فقط، ولا يقدم حلولاً أو يطلق صيحات مباشرة، باعتبار أننا بصدد عمل فني له أدواته ووسائله التي يطرح من خلالها سؤاله، ويترك للمشاهد الزاوية التي يختارها للنظر إليه، وتلك ميزة مهمة في العروض التي تتعامل بوعي مع التجريب، فهي لا تجرب في الفراغ، ولا تتغلق على نفسها، ولا تطرح ألغازاً.

وهي في الوقت نفسه لا تقدم منشوراً مباشراً وفجاً يجعل الفني مطية للسياسي، لكنها عبر الحركة والإيماء والضوء واللون توقع رسالتها وتمضي تاركة مشاهدها في حيرته الفنية والفكرية، وبحثه عن إجابة لأسئلة انهالت عليه، وإن بصيغ مختلفة وغير معتادة.

في مثل هذه العروض حسبك، إن لم تقبض على الدلالة أو الشيفرة، أن تستمتع برهافة الصورة وإشراقها، الصورة التي شكلتها أجساد الممثلين متماهية مع كل المفردات على الخشبة لتنتج حواراً من نوع مختلف.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة