حتى خلال المرحلة الانتقالية، القصيرة نسبياً التي انتقل فيها الفنانون النهضويون من تمجيد الآلهة والأحداث الدينية والتاريخية في لوحاتهم التي كانت تعلق في القصور والكاتدرائيات، إلى تمجيد الطبيعة ومن ثم الإنسان نفسه وأحوال المجتمعات في تحولها من التمحور حول الأفكار والعوالم الغيبية إلى الحديث عن العوالم الصغرى في لوحات مكرسة لتعلق في البيوت. ظل هؤلاء الفنانون على نوع من حياء، أو ربما عن ترفع يمنعهم من رسم أنفسهم في لوحات خاصة بهم، أي يكونون هم أنفسهم موضوعها. صحيح أن عدداً منهم وبينهم بعض كبار الكبار، من دافنشي إلى ميكائيل آنجلو كما من فيرونيزي إلى رافائيل أو تيشيانو، تمكنوا من إحداث خرق ولو جزئي في الأعراف التي تقف حاجزاً دون تصوير الذات، بأن يرسموا ملامحهم في اسكتشات سريعة، أو كشخصيات ثانوية في لوحات جماعية أو ما يقرب من ذلك، لكن تكريس ما سوف يسمى بـ"البورتريه" الذاتي لرسم أنفسهم في لوحة بأكملها، كان لا يزال بعيداً. أو لنقل، على الأقل، إنه كان في انتظار ذلك الفنان الألماني الكبير آلبريخت دورر الذي سيحفظ له التاريخ مكانة كبيرة متعددة الأطياف، بينها ما يتعلق بكونه واحداً من أوائل الرسامين في تاريخ الإنسانية الذين أبدعوا لوحات تصورهم ذاتياً. بل لعله كان الأول على الإطلاق.
ثلاث لوحات في المرآة
ولا شك أن اللوحات التي صور فيها دورر ذاته لا تزال حية ومشهورة حتى أيامنا هذه، كما كانت حالها منذ ظهرت إلى الوجود في حياة الرسام الذي عاش بين 1471 و1528، بحيث يخيل إلى كُثر أنها كبيرة العدد. لكنها في الحقيقة لا تتجاوز الثلاث لوحات إلى جانب تخطيطات واسكتشات أخرى، ما يجعلها أقل عدداً بكثير مما أنتج وفي المجال ذاته.
فنانون كبار آخرون تبعوا دورر في مسعاه "الذاتي" خلال الأزمنة اللاحقة، من رمبراندت إلى فان غوخ وماكس بيكمان وعشرات، بل ربما مئات غيرهم. والحقيقة أن دورر على الرغم من سمعته الكبيرة في هذا المجال، كان أقل الفنانين احتفالاً بذاته ورسماً لملامحه، ولكن فقط من الناحية الكمية، أما على المستوى النوعي، فلا شك أن في إمكاننا أن نقول إنه أبزهم جميعاً ودون أن يدفع ما يعد عادة "ثمن الريادة"، أي الوهن الذي يسمى عادة ابتكارات كبيرة تخلق جديداً في عالم الفن. فدورر منذ لوحته الأولى التي سميت "بورتريه ذاتي" بدا كبيراً ومتألقاًً وعميقا في قوة تعبيره ودقيقاً في نقل ملامحه إلى المسطح الأبيض الذي اشتغل عليه بألوانه الدافئة. وهنا لا بد من التوقف عند تلك الملاحظة التي تفرض نفسها في هذا المجال، المتعلقة بواقع أن ما نراه على اللوحة إنما هو نقل أمين من الطبيعة لصورة الفنان، وقد انعكست في مرآة لم يكن في إمكانه أن يتعرف على ملامحه إلا من خلالها. وبهذا يمكن القول إن ما نشاهده إنما هو صورة الفنان في مرآته.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
الصورة معكوسة دائما
صحيح أن هذا الأمر قد لا يكون فائق الأهمية هنا، لكن الإشارة إليه ضرورية طالما أننا لا بد أن نعرف أن رسم دورر لنفسه من خلال صورته في المرآة سيكون المثال المحتذى الذي سيتبعه كل الرسامين الذين أرادوا يوماً أن يرسموا ملامحهم في "بورتريه ذاتي"، بالتالي فإن ذلك الانعكاس يبقى الصورة الوحيدة التي عبر بها الفنانون عن ذاتهم. أما الصورة الذاتية لفنان ما التي يمكننا الاتكال عليها لمعرفة حقيقته شكلياً على الأقل، فعلينا أن نبحث عنها في بورتريهات لهم رسمها زملاؤهم الفنانون الآخرون في حراك كثر كما نعرف لدى الفنانين الانطباعيين في الأزمنة التالية، كأن يرسم رينوار مانيه أو يخلد الأخير ملامح سيسلي أو مونيه في لوحاته. لكن هذا موضوع آخر. أما موضوعنا الذي لا بد من العودة إليه فهو تلك اللوحات التي بقيت من تراث دورر تصوره لنا خلال مراحل متقاربة من حياته. ومن خلال ذلك، التساؤل، لماذا يا ترى رسمها خالقاً بهذا جديداً ندر أن كان له سابق في عالم الفن؟
لوحات للتطبيق النظري
ولعل الجواب يكمن في السؤال نفسه. وبالأحرى في حقيقة أن دورر، بقدر ما كان فناناً كبيراً، كان منذ شبابه المبكر منظّراً في الفن، وضع عديداً من الدراسات التي انطلق فيها من مواهبه الخاصة، ولكن كذلك من مشاهداته ومما تعلمه خلال تنقلاته الأوروبية التي كادت تجعل منه واحداً من أكثر الفنانين ترحالاً وانكباباً على الدراسة العملية والتطبيقية في تلك المرحلة من مراحل تاريخ الفن. وربما يمكننا أن نضع في هذا السياق تحديداً اهتمامه برسم ذاته في تلك البورتريهات المتتالية زمنياً، التي تبدو وكأنها حلقات في سلسلة متتابعة تحاول رسم تأثير السنين على ملامح الإنسان، وتأثير الدراسة والتجوال على ضروب التطور التي تطاول فنه. والحقيقة أنه، حتى ولو لم يكن دورر يتقصد ذلك بحيث أن توزيع اللوحات على حلقات "متتالية" إنما كان عفو الخاطر، وانطلاقاً من أحوال معيشة وسيكولوجية أراد أن "يؤرخ" لها بطريقته، فإن النتيجة تبقى كما هي، نتيجة تقول، إن لدينا هنا لوحات أنجز الفنان أولاها عام 1493، وكان في الثانية والعشرين من عمره، فيما أنجز الثانية بعدها بثلاث سنوات 1498، والثالثة في عام 1500 وهكذا.
صورة الخاطب ووعوده
مهما يكن قد يمكننا هنا التوقف عند اللوحة الأولى والموافقة على تلك الفرضية التي تقول، إن دورر الشاب إنما توخى منها أن ترسل إلى عروس أراد أن يخطبها، هي التي ستصبح زوجته لاحقاً. وكان التقليد في ذلك الحين يقضي بأن يفعل الخاطب ذلك بأن يجعل رساماً يرسمه كي ترى العروس ما ينتظرها. والدليل على هذه الفرضية هو أن دورر يحمل بين يديه في اللوحة غصن عشب في حركة كانت معهودة للتعبير عن الوعد بالإخلاص والوفاء في تلك المنطقة التي ولد ونشأ فيها، منطقة نورنبرغ. وطبعاً لم يكن من المنطقي للرسام الذي كانه دورر منذ ذلك الوقت المبكر أن يعهد لزميل له بالقيام بالمهمة التي كان في إمكانه هو القيام بها. وبهذا، بحسب المعطيات المتوافرة، ولدت أول لوحة في تاريخ الفن مبتكرة فن "البورتريه الذاتي"، أما اللوحة التالية التي لئن أتت على نفس مقاس الأولى إلى حد ما، فإنها جاءت أكثر قوة من ناحية خطوطها وألوانها، ناهيك عن أنها "كشفت" من خلال النظرة التي تمكن الرسام من نقلها، عن حضور لعبة "الانعكاس في المرآة" وحتى بشكل بدا وكأنه يوصل درساً تقنياً يتماشى مع بعض كتاباته النظرية التي أصدرها في ذلك الحين، واشتهر من خلالها كباحث فريد في تاريخ الفن ونظرياته، بقدر ما كانت شهرته قد عمت أوروبا كرسام بارع.
غير أن ما يبدو لنا هنا أكثر أهمية من تلك الأبعاد الشكلية والتعليمية، كان المظهر الذي شاء الفنان أن يقدم نفسه عبره، فعلى عكس "الموضة" السائدة في تلك السنوات الأخيرة من القرن الخامس عشر، حيث كان الشعر الطويل قد كف عن إغراء الشباب، وكذلك كفت اللحية عن أن تكون على الموضة، ها هو دورر وهو في السادسة والعشرين يصور نفسه بهما وبتكوين غير تقليدي. بل حتى وبملامح تجعله يبدو وكأنه تقدم في العمر سنوات عديدة عما كانت عليه حاله في اللوحة السابقة. وهو نفس ما قد يكون في إمكاننا أن نقوله عن اللوحة التالية التي حققها بعد عامين من الثانية. فهنا قد يكون حافظ على شعره الطويل ولحيته، وقد تجاوزا في طولهما ما كان رسمه في الثانية، لكنه بات يبدو أكبر سناً بكثير وهو يواجه مشاهد اللوحة رافعاً يده في حركة مباركة تجعله يبدو حكيماً ورعاً وهادئاً، وكأنه بات شيخاً عركته السنون وخففت من غلواء تمرده، بل زادت من تقواه الدينية وورعه. فإذا أضفنا إلى هذا، الفرو الثمين الذي يرتديه سيمكننا أن نخمن صعوده الاجتماعي السريع. لكن هذا الواقع الاجتماعي لا ينبغي أن يصرف انتباهنا عما سيلفت إليه عدد كبير من الدارسين من أن ملامح دورر في هذه اللوحة تكاد تكون متشابهة مع الملامح التي رسمت للسيد المسيح في عدد كبير من لوحات رسامين نهضويين وغير نهضويين جلهم، كما سوف يقال، تعمدوا أن يعطوا السيد المسيح ملامح تكاد تكون ملامحهم هم أنفسهم. فهل معنى ذلك أن دورر تعمد أن يوصل تلك الممارسة إلى حدودها القصوى؟