حتى الزمن الذي أعاد فيه السورياليون الفرنسيون "اكتشاف" الفنان الإيطالي النهضوي جيوزيبي أرشيمبولدو (1527–1593) خلال الربع الثاني من القرن العشرين واعتبروه واحداً منهم، بل حتى واحداً من أوائل مبتكري فنونهم التي تقوم -في رأيهم- على مبادئ اللا وعي، ظل هذا الرسام غائباً عن الموسوعات الفنية. وحتى حين يذكر فإن ذاكريه بالكاد يعطونه مكاناً متقدماً في تراتبية الفن الكبير، إلى جانب مكانة الفنانين الكبار. وحدهم السورياليون اعتبروه مبدعاً كبيراً ولسوف يجيء لاحقاً بهم، ولكن من منظور آخر، الباحث الفرنسي والناقد رولان بارت، ليمعن في إعادة الاعتبار لذلك الفن الغريب المليء -في رأي صاحب "أسطوريات" وغيره من الكتب المتحلقة من حول الدلالات والمعاني- بتلك الإشارات والمحتويات التي تجتمع إلى المعاني لتقدم، عبر ما يبدو كأحجيات بل أحياناً كنوع من العبث واللعب، فناً وقف فريداً من نوعه خلال تلك المراحل التي "انفصل" فيها الفن عن الكنيسة ليمعن في خوض علاقته مع الطبيعة. ومن هنا خصَّ بارت هذا الفن بواحد من أجمل وأقوى النصوص التي كتبها عن الفن التشكيلي.
الرسام واللسانيات
غير أن بارت لم يحتفل بأرشيمبولدو بوصفه صاحب متن فني يلتقي مع أبعاد سيكولوجية كما فعل السورياليون، بل بوصفه مبتكر فن يقوم أصلاً على الدالّ والمدلول ومبادئهما العزيزة على فؤاد الباحث المعاصر، ما يربط بين فن أرشيمبولدو ونظريات بارت برباط محكم كان هو جوهر تحليله للوحات الفنان في نصه الغني، الذي كتبه حينها بحماس شديد لمناسبة معرض نادر أقيم لعدد لا بأس به من لوحات فاجأت المتفرجين تماماً، كما فاجأ الرسام بارت وغيره من الدارسين بمقدار انطباق فنه على النظريات "اللسانية" الحديثة. ولا شك أن أرشيمبولدو نفسه لو كان حياً بيننا يعيش في زمننا شاهداً على التطورات الهائلة التي تحققت في القرن العشرين في مجال علوم اللسانيات وعلم المعاني، وتحديداً منذ ظهور أعمال السويسري فردينان دي سوسور، أستاذ بارت بين آخرين، لكانت دهشته كبيرة، ليس فقط لتلك الجدية التي تعاملت العلوم الحديثة عبرها مع لوحاته، بل كذلك لكونه كان، بفنه التطبيقي ومن دون أن يدرك عمق ذلك وأهميته، رائداً من كبار رواد تطبيق تلك العلوم.
العالم الدنيوي في بوتقة واحدة
فالواقع أن أرشيمبولدو رسام وملوِّن زجاج نوافذ الكاتدرائيات في مدينة ميلانو عند أواسط القرن السادس عشر، كان قد تخلى عن تلك المهنة لينصرف إلى فنه العابث والطريف، ربما لرغبة منه في المشاكسة على السائد من الفنون. ولكن ربما أيضاً انطلاقاً من موقف فلسفي يريد أن يجمع بين الأقنومين اللذين راحا يبتعدان معاً عن الأبعاد الكنسية في الوجود الدنيوي ليشكلا نوعاً من وحدة تحضر في بوتقة واحدة: الطبيعة والإنسان. ونعرف، منذ دراسات بوركهاردت في الأقل حول الأزمان النهضوية، أن تلك الرؤية إنما كانت تشكل أساس التجديدات الأنطولوجية التي جاءت بها العصور النهضوية، محاولة في الجنوب الأوروبي أن توجد معادلاً للنزعة الإنسانية الخالصة التي كانت تنمو في الشمال تحت ظل التبسيط البروتستانتي للإيمان الديني تحت هيمنة العلاقات المركانتيلية ونمو البورجوازيات التجارية التي استعادت للبيت مكانته على حساب الكنيسة، وللفردية رونقاً كانت خسرته منذ مئات السنين لصالح الجماعة والخضوع المشترك للكنيسة. وهنا يبقى السؤال الذي لم يجب عنه أحد بصدد فن أرشيمبولدو، في الأقل حتى مجيء بارت ودراسته التي ربما كانت تعطي السورياليين "تفسيراً" لم يتوقعوه لشغفهم بفن ذلك الرسام. ولكن ما هذا الفن؟
إنسان تكوّنه عناصر الطبيعة
هو بالتحديد مجموعة مدهشة و"طريفة" على أية حال من لوحات رسمها أرشيمبولدو خلال مرحلة أساسية من حياته، تشكل العديد من المواضيع المستقاة عادة من الحياة اليومية ولكن بشكل جعل الرسام يكوّن غالباً أشكالاً بشرية، ربما تبدو مشوهة في معظم الأحيان، من دون أن يتعمد الفنان بالأحرى ذلك "التشويه"، لكها تتسم بقدر من واقعية يربط بين تلك العناصر المكونة للشكل البشري بكينونة الإنسان نفسه. وهكذا نراه مثلاً، في مجموعة تدور من حول "الفصول الأربعة" وسبق لنا أن تناولناها في هذه الزاوية، يكوّن مشهداً يتحدث عن كل فصل من فصول السنة من خلال مجموعة عناصر مأخوذة من الطبيعة كما تظهر للمرء خلال الفصل نفسه بحيث تدل تلك العناصر، كزهور الربيع البرية والنباتات الأخرى أو غيوم الشتاء أو أمطار الخريف أو سماء الصيف المشرقة، إلى آخر ما هنالك، على معنى الفصل، معبرة عن أول دالّة بتحليل بارت ولغته، على سمات الفصل المعني. والشيء نفسه ينطبق على مجموعات أخرى منها تلك التي تدل على أنواع المأكولات. حيث من مجموعة مواد وكائنات بحرية يكون على سبيل المثال شكلاً بشرياً لعينيه سمات سمكة معينة ولأنفه سمات سمكية أخرى كما لخديه وذقنه وجبينه التشكيل نفسه.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
البورتريه الصيني العائلي
ولعل الأشهر بين تلك المجموعات من اللوحات تلك التي يصور فيها الرسام بورتريهات تبدو من العبث إلى درجة لا يتوانى معها بارت عن تشبيهها بتلك الألعاب التي يروي لنا أنها كانت تُلعب في بيته أيام الطفولة في جلسات الشتاء من حول الموقد، حيث يجتمع أفراد العائلة صغاراً وكباراً ليتشاركوا في تعيين عناصر متعددة تكوِّن في نهاية الأمر ما كانوا يطلقون عليه اسم "البورتريه الصيني"، حيث يتشكل مشهد متكامل يحمل دلالة خاصة به من مجموع تلك العناصر المقترحة، ومهما كان مقدار ابتعادها في المعنى والمبنى عن بعضها البعض. وإذ يذكر بارت ذلك التشابه بين اللعبة العائلية وفن أرشيمبولدو لا يفوته التركيز على "القصدية" الماثلة في فن أرشيمبولدو مقابل التلقائية التركيبية في اللعبة العائلية. ومن هنا إذا كانت هذه الأخيرة تبدو أقرب إلى المنطق السوريالي القائم على اللا وعي، من الواضح في المقابل، أن منطق أرشيمبولدو منطق آخر يقوم على هندسة واعية لا تتوافق في الحقيقة مع نظرة السورياليين إلى مبادئهم، لكنها تتوافق بالأحرى، وعلى سبيل المثال هنا أيضاً، مع نظرة فرويد رائد اللا وعي والتحليل النفسي إليهم، حيث نجده، في مقابل إعلان بريتون زعيم السورياليين أنهم جميعاً ينتمون إلى مبادئ "اللا وعي" التي كانت من أبرز اكتشافات فرويد، يقول لسلفادور دالي في لقاء بينهما عشية هجرته إلى لندن، إن السوريالية لا علاقة لها باللا وعي، لأن كل ما تبدعه ينبع في الحقيقة من ممارسة واعية على الضد مما يزعمونه. وفي إطار الوعي المحيط بالممارسة السوريالية، لا في إطار ما تزعمه هذه من انتماء إلى اللا وعي، يمكننا في الواقع موضعة التساوق بين فن أرشيمبولدو الواعي والهندسي والمستخدم بكل قصدية تلك العناصر والمواد الطبيعية التي يتكون الشكل الإنساني منها في نهاية الأمر.
...بارت ولغته العلمية
والحقيقة أن هذه القصدية هي التي استنتجها رولان بارت في دراسته الباهرة لفن أرشيمبولدو التي نتحدث عنها هنا، والتي "أعاد فيها اكتشاف ذلك الفن العابث وإنما في ذكاء شديد" بلغة مفهومية علمية ربطت بين فن يبدو قائماً على اللعب والمشاكسة، وفلسفة كانت تقوم في لحظة نهضوية على جعل الإنسان والطبيعة في تلاقٍ عضوي بينهما واجتماعهما في كلٍّ متكامل، نقطة انعطافية ليس فقط في تاريخ الفن أو الفكر، بل في تاريخ الإنسانية نفسها. ولعله كان من شأن هذا التأكيد أن يزرع لدى سورياليي النصف الأول من القرن العشرين حيرة إزاء أسئلة يطرحها عليهم لم تكن لتخطر لهم في بال، وهم الذين اعتبروا ما قاله سيغموند فرويد لسلفادور دالي بصدد علاقتهم باللا وعي، خنجراً أغمد في ظهر نظريتهم وبيَّن خطل ما بنوا عليه كل جوانب تلك النظرية وبخاصة الجانب منها المتعلق بتلقائية الإبداع، إذ كشف لهم أن ليس ثمة تلقائية حقيقية في ذلك الإبداع، كما أن اللا وعي يغيب كلياً عن فن أرشيمبولدو وهو نفس ما سيؤكده بارت لاحقاً بلغة علمية قاطعة.