Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

حيث ظلت الحدود مغلقة بعد الجائحة... سبتة ومليلية مدينتا شمال أفريقيا الحدوديتان

سلّط إغلاق الحدود المطول الضوء على نقاط التفاوت فيهما وعاث خراباً في اقتصادهما. تقرير توماس غراهام، الفائز بجائزة روبرت كورنوال، من داخل الجيبين

مليلة وجهة المهاجرين المغاربة للتسلل إلى إسبانيا (رويترز)

إنها العاشرة من صباح يوم الأربعاء، ولكن الطريق الطويل الممتد نحو الحدود مهجور.

وكل المتاجر الموجودة على جوانبه تقريباً مغلقة. خارج مكتب اللجوء، يطالعك مشهد أشبه بالفوضى التي تخلّفها الاشتباكات. أجساد نائمة ممددة هنا وهناك، يقضّ مضجعها الذباب وأشعة شمس الصباح.

مليلية مدينة مزدحمة، يبدو لك أن الضجيج يلازمها كظلّه، ولكن هنا، يخيّم الصمت على المكان، فيضفي عليه هدوء سكينة وسلام.

يقف صديق خارج متجره ويراقب الجادة المقفرة. أسأله كيف كانت الحال قبلاً. "يا رجل، كانت فوضى تامة. حديثنا الهادئ هذا ما كان ليحدث. لم يكُن بإمكانك السير على الرصيف حتى".  

ثم يجيل عينيه على صف المتاجر المغلقة والرجال النائمين قرب مكتب تقديم طلبات اللجوء. "وهذا ما آلت إليه الحال الآن".

في مارس (آذار) 2020، كانت الحدود تغلق في كل مكان. ولكن قلّة هي المناطق التي شعرت بوطأة هذا الإغلاق مثل سبتة ومليلية، المدينتين الإسبانيتين في شمال أفريقيا اللتين تواجهان البحر المتوسط من جهة، والمغرب من الأخرى، وراء سور حدودي ارتفاعه ستة أمتار.  

في السابق قبل الجائحة، كان زهاء 30 ألف شخص يقطعون الحدود يومياً، آتين من المغرب، فترتفع الكثافة السكانية نهاراً في الجيبين اللذين يُقدّر عدد سكانهما الأساسي بـ80 ألف نسمة.  

ومن هؤلاء الأشخاص من كانوا يعملون داخل الجيبين. اشتغل عدد كبير منهم في التهريب، بطريقة أو بأخرى. فيما أتى البعض الآخر لزيارة الأصدقاء والعائلة، أو التبضع وشراء الحاجات الخاصة بهم.

سمح وضع الجيبين الخاص بموجب معاهدة "شينغن" بسهولة تحرّك الأفراد، إذ أتاح انتقال المغاربة من مدينتي تطوان وناظور- المجاورتين لسبتة ومليلية، على التوالي- جيئة وذهاباً بكل حرية خلال النهار من دون الحاجة إلى تأشيرة دخول شريطة ألّا يقضوا الليل هنا أو يسافروا إلى مناطق البرّ الرئيس.

هُرّبت بضائع لا تُعدّ ولا تُحصى عبر الحدود في الاتجاه المعاكس. تقع سبتة ومليلية خارج الاتحاد الجمركي الأوروبي، مما يعني أن الضريبة على الاستيراد أقل بكثير هنا.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

كانت سفن الشحن تصل إلى الجيبين محمّلةً بسلع من أوروبا وآسيا، فيقوم التجار بنقلها بوسائلهم الخاصة عبر الحدود البرية باتجاه المغرب من دون أن يدفعوا رسوماً جمركية. وبحسب تقديرات البعض، بلغت هذه التجارة 25 في المئة من إجمالي الناتج المحلي في الجيبين.

على المقلب الآخر، نشأت مدن مغربية وفق ترتيب شبه تكافلي. قبل الجائحة، قارب عدد سكان بني أنصار، المدينة التوأم لمليلية، الكثافة السكانية للمدينة الإسبانية. فيما تخطّى عدد السكان في كاستييخوس عدد سكان سبتة، مدينتها التوأم.

غالباً ما قطعت العائلات الحدود. فنصف السكان في كل جيب تقريباً من أصول مغربية. ومع أن عائلات عدة تقطن سبتة أو مليلية منذ أجيال، ما زال لديها أقارب في المغرب. في المحصلة، تداخلت الحياة الاجتماعية والاقتصادية لسبتة ومليلية طوال عقود بشكل وثيق مع المدن المغربية الداخلية.

ثم أُغلقت الحدود وقُطعت هذه الصلات. مرّ الوقت وفتحت الحدود مجدداً في أماكن أخرى، ولكن تلك المحيطة بالجيبين ظلّت مقفلة. وفيما حتّمت الجائحة إغلاق الحدود، ربما جعلتها أسباب أخرى تظلّ على هذه الحال.

وتحوّلت هذه النقطة فعلياً إلى أسلوب آخر لكي يفرض المغرب ضغطاً دبلوماسياً على إسبانيا. فقد تدهورت العلاقات بين الطرفين بعد رفض مدريد الصامت الانضمام إلى إدارة الرئيس ترمب في اعترافها بسيادة المغرب على الصحراء الغربية، تلك المستعمرة الإسبانية السابقة.

منذ تخلّي إسبانيا عن هذه الأراضي عام 1975، طالب بها المغرب كما مجموعة صحراوية مسلّحة اسمها جبهة "بوليساريو". واليوم، بعد عقود من الصراعات المتقطعة، يسيطر المغرب على الجزء الأكبر من المنطقة.  

في خطاب ألقاه في أغسطس (آب) 2021، قلّل الملك محمد السادس من أهمية التوتر الحاصل بين البلدين. ونظراً إلى موقع الملك على رأس الحكومة المغربية، قرأ المحللون هذا الكلام باعتباره إشارة تنذر بإعادة ضبط العلاقات. وفي وقت لاحق من الشهر ذاته، عاد السفير المغربي لدى إسبانيا إلى مدريد. لكن لا أحد يعلم بعد متى قد يُعاد فتح الحدود حول سبتة ومليلية.  

يقول المغرب منذ زمن بعيد إن تجارة تهريب البضائع وقفت عائقاً أمام التنمية الاقتصادية في الشمال بسبب تقويضها للصناعات المحلية. ولم  يجرِ التساهل معها سوى لأنها وفّرت وظائف في منطقة مضطربة ومتخلّفة من الناحية الإنمائية. ويعتقد بعض المحللين أن الجائحة وفّرت عذراً للدولة المغربية لكي تدخل تعديلاً مؤلماً على الاقتصاد الإقليمي.

بعد قطع الاتصال بين المناطق، تدهورت حال الاقتصاد على جانبي الحدود. في المغرب، فرغت كاستييخوس وبني أنصار من سكانهما، مع رحيل المهاجرين الاقتصاديين الداخليين بحثاً عن عمل في أماكن أخرى من المملكة. وقمعت الدولة الاحتجاجات ضد إغلاق الحدود. قصّ عليّ أشخاص لديهم عائلات في المدينتين روايات عن فقر وموت: البعض تثقل الديون كاهله ويقدم على الانتحار، بينما يحاول آخرون، معظمهم من الشباب، السباحة ليلاً في محاولة لدخول الجيبين ويختفي كل أثر لهم بعد ذلك. 

أما داخل سبتة ومليلية، فالألم [المعاناة] شديد كذلك. ولكنه متفاوت: يضرب البعض بقوة، فيما يكاد لا يلمس البعض الآخر. سلّط إغلاق الحدود الضوء على التفاوت وغياب المساواة بين المدينتين الحدوديتين.

كان محسن يقف في المطبخ عندما تناهت إليه أصداء الإشاعة عن احتمال إغلاق الحدود. هو يعمل كبير طهاة في أحد المطاعم، وهو واحد من بين 3500 مغربي كانت لديهم عقود عمل في سبتة (وصل عددهم في مليلية إلى 5 آلاف). 

كل صباح، كانوا يقطعون الحدود لدخول المدينة، فيما كانوا كل مساء- نظرياً- يقطعونها مجدداً للعودة إلى المغرب. لم يُعِر محسن الإشاعة أهمية كبيرة في البداية. كما أن ذلك حصل مساء يوم الخميس، وكان المطعم محجوزاً بالكامل طيلة عطلة نهاية الأسبوع. كان صاحب العمل رجلاً جيداً ولم يرغب بالتسبّب بمشكلات له [إزعاجه]. فقرّر دراسة المسألة والنظر فيها يوم الأحد. أغلقت الحدود في اليوم التالي. "بعد ذلك، تبددت الحجوزات".

حصل الإقفال بشكل مفاجئ، فوجد آلاف الأشخاص- عمّال مثل محسن ولكن سيّاح كذلك- أنفسهم فجأة عالقين على أحد جانبي الحدود. اضطر محسن إلى النوم داخل المطعم ريثما يجد مكاناً يستأجره ويدفع نقداً. 

مرّت أشهر طويلة قبل أن تجتمع الحكومة لتساعد هؤلاء العالقين. وفي سبتمبر (أيلول) 2020، فتحت الحدود مؤقتاً لإعادة العمّال المحتجزين داخل الجيبين إلى الوطن. قبِل عدد كبير منهم بهذا العرض. 

ولكن كان على محسن تقييم خياراته ووزنها. فقد أعاد المطعم فتح أبوابه. ولديه في كاستييخوس أسرة عليه إعالتها. لذلك قرّر البقاء. لم يرَ ابنه منذ 19 شهراً وقد بلغ صغيره من العمر الآن خمس سنوات.

ويقول "يصعب عليّ تفسير سبب عدم وجودي هناك".

ألتقي محسن أثناء تظاهرة للعاملين عبر الحدود الذين ظلوا في سبتة، بعد مرور 20  شهراً تقريباً. يحتشد 60 شخصاً تقريباً في المكان، ولكن عندما أسأل الناطقة باسمهم رشيدة جريفي عن الموضوع، تخبرني بأنه ما زال في المدينة نحو 400 شخص منهم.

يطالب العمال الحكومة بإعطائهم تصريح دخول مؤقت يسمح لهم بزيارة المغرب حتى أثناء إغلاق الحدود، إما عبر فتح ممر خاص لهم أو السماح لهم بالسفر عبر البر الرئيس. ما يريدونه هو تجنّب الاضطرار إلى الاختيار بين العائلة والعمل.

في سبتمبر، قرّر بعضهم العودة إلى المغرب وباتوا يعيشون الآن في وضع بائس، كما تقول لي رشيدة. وقرر آخرون البقاء، فمرض أفراد عائلاتهم في المغرب. 

"هذا الوضع هو الأصعب: حين يتوفّى أحد أفراد الأسرة ولا يمكنك أن تكون موجوداً هناك. فقدت إحدى السيدات زوجها ووالدتها في الأسبوع ذاته. وهي أم لولدين ما عاد لديهما أحد. هي هنا وهما هناك".

كانت الحدود بين الجيبين والمناطق الداخلية تسير بالاتجاهين. تدخل اليد العاملة الرخيصة إلى سبتة ومليلية، من خلال العاملين عبر الحدود على غرار رشيدة ومحسن وكثر غيرهم يعملون بشكل غير قانوني. ثم تنتقل البضائع الرخيصة بالاتجاه المعاكس على شكل سلع مهرّبة، تمثّل جزءًا مما يُسمّى رسمياً بـ"التجارة غير النمطية".

اعتمد الجزء الأكبر من نشاط القطاع الخاص في الجيبين على هذا النوع من التجارة، التي حدثت على مستويات عدة. في قمة الهرم، تجد رجال أعمال نافذين يملكون مستودعات قريبة من الحدود وأساطيل من المركبات رهن إشارتهم. ثم يأتي رواد الأعمال الأصغر حجماً الذين يعملون من داخل المتاجر في وسط المدينة. 

ولكن هناك كثيرون كذلك، تتركّز غالبيتهم في الأحياء الفقيرة المنتشرة على طول السور، أمّنوا معيشتهم عن طريق نقل البضائع عبر الحدود إما داخل السيارات أو على ظهورهم.

ينتمي بيبي، وهو تاجر من الجالية الهندية الصغيرة في سبتة، إلى الفئة المتوسطة [الطبقة المتوسطة]. أثناء سيري على طول الواجهة البحرية في وسط المدينة، بكل عظمتها الباهتة، يستوقفني اسم متجره: متجر كوسموس (Магазин Космос (Cosmos Store. أدخل. يرفع بيبي ناظريه ويسألني "روسي؟". 

كُتب اسم المتجر كحيلةِ تسويق صغيرة. في ثمانينيات القرن الماضي، حين فتح بيبي متجره، كانت السفن الروسية تأتي وتخزّن البضائع المعفاة من الرسوم الجمركية لكي تنقلها معها إلى الوطن. وأراد أن يجذب انتباه الروس فتعلّم الروسية كذلك. وكان يأمل أن يتدرّب قليلاً على الكلام عندما دخلت.

لم يأتِ الروس وحدهم إلى هنا، بل أتى البلغاريون والرومانيون والبرتغاليون كذلك. وقبلها، كانوا الإسبان بأنفسهم يأتون. في سبعينيات القرن الماضي، كان آلاف الأشخاص يستقلّون القوارب كل يوم للتبضع ليس إلّا. ثم أتى كل أولئك الشباب من البر الرئيس لقضاء خدمتهم العسكرية الإلزامية.

في أواخر ثمانينيات القرن الماضي، بدأ التحوّل باتجاه السوق المغربية.

كانت تلك الحقبة الذهبية وفقاً لرواية بيبي. يريني صوراً له برفقة إخوته داخل المحل مع نجوم رياضيين عدة لا أعرف أيّاً منهم، تحيط بهم صناديق زجاجية لامعة مليئة بالمجوهرات والساعات والأجهزة الإلكترونية.

لا يختلف شكل المتجر الذي أقف فيه حالياً تقريباً- الفارق الوحيد هو أنه يبدو الآن وكأن شخصاً لديه هوس بتجميع الأشياء قد انتقل إلى العيش فيه. المجال ضيّق بين الصناديق المكدسة فوق بعضها البعض وتكاد المساحة لا تسمح بالحركة. فيما أبدأ بالتقاط الصور، يظهر الإحراج على وجه بيبي "المكان فوضوي بعض الشيء".

عندما أغلقت الحدود، تورّط تجار سبتة فجأة بما لديهم من بضائع مخزّنة [لا يستطيعون تصريفها]. ويقول لي بيبي إن حجم المبيعات تراجع بنسبة 90 في المئة.   

أسأل بيبي عن القيمة التقريبية لمخزون البضائع الموجودة لديه. ويقول بتواضع. "قيمته كبيرة. كنّا نبيع البضائع للمغرب بأكمله". بدأت المؤسسات الشبيهة بمؤسسة بيبي في أرجاء المدينة كافة بإغلاق أبوابها. "ألقِ نظرة على الشارع الرئيس- لم أرَ يوماً أيّاً من هذه المتاجر مغلقاً. والآن كثرت الأبواب الموصدة. والمتاجر التي تتمكن من الاستمرار هي المؤسسات الكبيرة التي أتت من الخارج- زارا وستراديفيريوس. ولكن حتى هذه المحال بدأت بالإغلاق".

مع أن قيمة الإيجارات في تراجع، لا أحد يبقى هنا. فمهما كان الإيجار قليلاً، لا يمكن أن يكون قليلاً بما يكفي حين تتوقف المؤسسة عن البيع.

"تخطّى عدد المتاجر في سبعينيات القرن الماضي 400 متجر. والآن لم يتبقَّ منا غير عشرة على أكثر تقدير".

لا ينوي بيبي البقاء لفترة طويلة بعد. فهو يعتزم الانتقال إلى كوستا ديل صول وتأسيس شركة تصدير هناك: سلسلة الإمداد ذاتها ولكن من دون سبتة. سوف تكون هوامش الربح أقل والأسعار أكثر ارتفاعاً بالنسبة إلى المستهلك ولكنه سيتدبّر أمره.

لديه أسرة في البر الإسباني الرئيس ولكنه غير مرتاح. بلغ الـ65 من عمره  وما عاد من السهل بالنسبة إليه أن يبدأ من جديد في هذه السنّ. من المفترض به أن يفكر بالتقاعد الآن. ولكنه مقتنع بأن التجارة لن تعود كما كانت هنا.

ويغرق في ذكريات الماضي، فيقول "عندما كان الوضع جيداً، كانت سبتة منجماً للأعمال. ولكن ذلك انتهى الآن. عندما يعاودون فتح الحدود، لن تعود الأمور إلى سابق عهدها".

يتشارك كثيرون هذا الشعور: أنه لا بدّ من فتح الحدود من جديد أمام الناس في وقت من الأوقات ولكن التهريب الذي طبع اقتصاد المنطقة يوماً ما، لن يعود. لم تقرر سبتة أو مليلية وضع حدّ للتجارة غير النمطية. ولكن بعد أن فُرض عليهما ذلك، باتت أصوات من داخل الجيبين ومن البر الرئيس تقول إنها تعتبر ذلك فرصة طال انتظارها لتصحيح طريقة إدارة المدينتين. 

ويرى من يهمّهم الأمن القومي أن الجيبين اعتمدا على المغرب بشكل مفرط، مما أضعفهما وجعلهما معرّضين للخطر. كما أن بعض رجال الأعمال لا يعجبه تخصيص مكان أكبر للتجارة النمطية في اقتصادات الجيبين على بقية النشاطات.

يُعدّ خايمي بوستيلو، السياسي الذي يعمل لدى سلطة المرفأ في مليلية، من بين الأشخاص الذين يأملون في القضاء على تجارة تهريب السلع للأبد. عندما ألتقيه، أجده يفيض بالأفكار من أجل إعادة تشكيل المدينة. فكما يقول، ظلّ الجيبان في قبضة تجارة تهريب السلع والشخصيات المشبوهة التي تقف وراءها سنوات طويلة.

"في الواقع، خُلق الجو المثالي في مليلية من أجل تسهيل التهريب. فقد تكيّفت كل العوامل والظروف المتعلقة بضبط الاقتصاد في المدينة لكي تقوم به بأفضل طريقة ممكنة".

ويضيف أن كل ما كان مفيداً للتهريب كان سيئاً بالنسبة إلى الانخراط في الاتحاد الأوروبي، باختصار. ومن الأمثلة على ذلك عدم الانضمام إلى الاتحاد الجمركي الأوروبي. فقد عزل الجيبان أنفسهما.

ويتابع "ولكن الآن، تعطّلت كل النشاطات الاقتصادية والأعمال المرتبطة بعملية نقل البضائع هذه. وأهم ما في هذه الفترة من الأزمة هو أن السلطات والجهات الاقتصادية بدأت تسمح لنفسها بالتفكير في نشاطات اقتصادية أخرى".

يأخذني بوستيلو في جولة حول منطقة المرفأ في مليلية، حيث يرسم في الأفق أشكال الصناعات الجديدة، فيما نسير في الطريق. وهو يرى مستودعات مخصصة لتجهيز السلع في طريقها من أفريقيا إلى أوروبا. كما يرى مباني مليئة بأشخاص موهوبين يعملون في الاقتصاد الرقمي- لا سيما عمل المقامرة الإلكتروني. أما في ما خص السفن السياحية، فقبل الجائحة، جاء أحد من شركة "كارنيفال هولدينغ"، وهو تكتل شركات يعمل في مجال السفن السياحية، ليستطلع وضع مليلية ويستكشفها وكان مهتماً جداً بالاحتمالات التي تنطوي عليها المنطقة، كما يؤكد لي بوستيلو. 

خلال حديثي مع بوستيلو، أتى مرات عدة على ذكر جبل طارق باعتباره مصدر إلهام. قبل عام 1969، كانت العلاقة بين جبل طارق والمناطق الإسبانية الداخلية شبيهة بتلك التي تربط سبتة ومليلية بالمناطق المجاورة في المغرب. ثم أغلقت إسبانيا الحدود حول جبل طارق واستمرّ الوضع على هذه الحال 13 عاماً.

يخبرني بوستيلو خبراً مذهلاً، إذ يقول إن حماه هو من أوصد البوابة عند الحدود. كان شرطياً قد وصل للتوّ من منطقة نَبَرة وكانت وظيفة لم يرغب أي من السكان المحليين بتأديتها ولذلك آلت مهمة تأديتها إليه.

وأثناء هذه الأزمة، تأسّس جبل طارق بالشكل الذي هو عليه اليوم. لم يكُن الطريق سهلاً كما يقول بوستيلو. حظي جبل طارق ببعض الحظ في مجال السياسات الدولية وانضمام المملكة المتحدة إلى الاتحاد الأوروبي. واستغلّ [استفاد] إلى أقصى الحدود نقاط القوة البريطانية في حقل المالية والقطاع البحري. 

مع الدعم المناسب من شبه الجزيرة والقيادة الداخلية، يأمل بوستيلو في أن تتمكّن مليلية من شق طريق مماثل، والاندماج في الاقتصاد العالمي وتنويع اقتصادها وفكّ ارتهانها بالمغرب.

لكن المقارنة مع جبل طارق لافتة لسبب آخر. حين أتحدّث مع الدكتورة جنيفر بالانتاين بيريرا، من مكتبة غاريسون في جبل طارق عن تلك الأعوام في المدينة، تصف مجتمعاً منقسماً ولكن ربما ليس بالطريقة ذاتها مثل سبتة ومليلية اليوم. 

حاولت بعض المصالح التجارية في جبل طارق الدفع باتجاه تقارب مع إسبانيا. وجّهت مجموعة "الحمامات" كما كانت تُعرف رسالة إلى مدريد تطالبها فيها بإعادة فتح الحدود، أقلّه لأهداف اقتصادية.

ولكن داخل جبل طارق، وعلى الرغم من الحرمان الذي تسبب به إغلاق الحدود، ساد رفض شعبي واسع النطاق لإعادة فتحها. وعندما نشرت الصحافة رسالة "الحمامات"، اندلعت أعمال شغب. واستبدل جبل طارق اليد العاملة الإسبانية بعمّال من المغرب. وقدّمت بريطانيا العظمى دعماً قوياً في هذا المجال. وبدأت عملية تنويع الاقتصاد وفتحه على السياحة والخدمات المالية. وثبت الوضع على حاله.

استحالت تلك الأعوام الـ13 جزءًا من أسطورة جبل طارق. وتقول الدكتورة بالانتاين بيريرا "ساعدت سكان جبل طارق على بناء هوية سياسية، وقومية وثقافية كذلك: فكرة أنهم بريطانيون لأنهم ليسوا إسباناً. وأن الطابع الإنجليزي موجود في كل شيء مع أنك عندما تأتي إلى منطقة جبل طارق تلحظ طابعها الهجين وغير المحدد بوضوح تام".

من الصعب معرفة الشعور الحقيقي الذي ساد خلال تلك الأعوام في جبل طارق. ربما كان المجتمع أقل وحدة مما يبدو عليه الآن ونحن نراجع تلك الفترة. لكن الرواية التي تُحكى تتعارض مع واقع سبتة ومليلية اليوم، حيث فاقم إغلاق الحدود عدم المساواة وزاد من حدة التوترات داخل المدينتين.

نصف سكان الجيبين تقريباً يعملون لدى الحكومة: وظائفهم مضمونة وثابتة وليست لديهم حاجة اقتصادية كبيرة لكي يُعاد فتح الحدود. لكن النصف الآخر، لا سيما الأشخاص العاملين في التجارة بشكل مباشر مثل بيبي، هم الذين تحمّلوا آثار الإغلاق. 

ومن ناحية أخرى، نحو نصف سكان كل جيب من الجيبين أصله من شبه الجزيرة، فيما النصف الثاني  من أصول مغربية. لا يرتبط النصف الأول اجتماعياً بالمغرب إجمالاً. أما النصف الثاني من السكان، ومع أن جزءًا كبيراً منهم يسكنون الجيبين منذ أجيال، فلديهم أُسَرٌ في المغرب في غالبية الأحيان.

ونظراً إلى أن معظم الوظائف في القطاع العام يشغلها أشخاص أصولهم من شبه الجزيرة، يعني ذلك أن إغلاق الحدود خلّف آثاراً خفيفة في قسم من المجتمع، فيما كان صعباً للغاية في القسم الآخر، سواء لأسباب اقتصادية أو اجتماعية.

بالتالي، فيما قرّب إغلاق الحدود البرية حول جبل طارق أفراد المجتمع المنعزلين، فرّق إقفال الحدود حول سبتة ومليلية أفراد المجتمع هنا.

وكان الاختلاف بارزاً بشكل خاص في سبتة، حيث تحدّث حزب اليمين المتطرف "فوكس" عن المجتمع المسلم في المدينة، باعتباره "طابوراً خامساً" يعمل لصالح المغرب، وأشار إلى ضرورة إبقاء الحدود مغلقة إلى أجل غير مسمّى.

ويقول محمد مصطفى، زعيم "سبتة يا!"، أجدد حزب سياسي في المدينة "ما كان يجب اعتباره اعتداءً على سبتة بأكملها... وما كان يجب أن يقرّبنا ويجعلنا نعثر على طريقة لكي تتقدم المدينة [تمضي قدماً]، تحوّل بدل ذلك إلى مشهد تجاهُل القسم المرفّه من المجتمع للوضع كاملاً. لا يعتبرون مشكلة إغلاق الحدود مشكلة خارجية مسلّطة على سبتة، بل مشكلة داخلية". 

ربما، عندما ننظر إلى الماضي، ستُعدّ هذه الأعوام في سبتة ومليلية كما الفترة الممتدة بين 1969 و1982 في جبل طارق. وربما يجد الجيبان، بدعم من مدريد، وجهتهما الصحيحة وينوّعان اقتصادهما ويصبحان أقل عرضة للأذى بسبب نزوات العلاقات الإسبانية - المغربية.

ولكن بعد مرور عامين تقريباً، يعلم سكان الجيبين ما الذي خسروه وما الذي قد يخسروه بعد، إنما لا فكرة لديهم عن المقبل. يواجه الجانب الإيجابي لإغلاق الحدود- أي فرصة إعادة تشكيل اقتصادَي الجيبين- خطر التبديد. هذا ما يخشاه خايمي بوستيلو في مليلية. ويقول "ينقص الوضوح في الأفكار، كما تنقص الرغبة بتنفيذها".

© The Independent

المزيد من تحقيقات ومطولات