Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

رحلة معاصرة على "درب اللبان" العُماني

ظلت مدينة ظفار مركزاً لتصدير النبتة العطرية إلى الحضارات الكبرى التي توالت على العالم

تعد عُمان تاريخياً مصدراً رئيساً للأشجار العطرية في العالم (غيتي)

حين تروم الوصول إلى ظفار أو "أرض اللبان" في صلالة كما يعرفها العالم القديم، عليك أن تقطع مسافة شاسعة تمثل ثلث البلاد لتصل إلى وجهتك التي تنزوي بعيداً عند الجزء الجنوبي من السلطنة، وتفخر بأنها أقدم ممالك العرب.

تحدك سلسلة جبلية طويلة في ظفار قبالة البحر بكل رمزيتها وتاريخها الذي يشهد لها بحر العرب بأمواجه المتلاطمة، وهي تنحت في الصخر القريب، لكنها تمتد بعيداً منه من الجهة الشمالية حيث صحراء الربع الخالي، تلك البيئة صعبة الولوج التي تمتد بين اليمن والسعودية وتسمى "بادية نجد - ظفار" وهي بادية شاسعة تحتل أجزاء واسعة من الجزيرة العربية.

ظلت ظفار على مدى التاريخ "أرض البخور" المنبعث من شجرة تبدو صلدة ولكنها معطاءة، وهي توجد في المناطق الواقعة خلف الجبال التي يطلق عليها العمانيون "ظل المطر" في المنحدرات التي وصلنا إليها بصعوبة بالغة بين بطون الأودية العريضة.

مكمن اللبان

تنمو في أرض جيرية من الكلس مكمن زراعة شجرة اللبان، العصية على أقدام الرعاة والقاسية في مظهرها، لكنك حين تجرحها كما فعل مرافقنا حامد العماني الذي قضى سنوات عمره تحت ظلالها يندلق سائل أبيض يسمونه اللبان برائحتة المميزة، وسرعان ما يتحول إلى قطع كلسية عند ملامسة الهواء كمادة صمغية.

يقول حامد العماني وهو يتلمس شجرة لبان فرغت الجمال من التهام سيقانها، "ما يهدد هذه الشجرة هي الإبل التي تصل إلى سيقانها وتعتاش عليها، كم تمنينا أن تسيج مزارع الرعي"، ويشتكي من أفول اهتمام الجيل الجديد بزراعة ورعاية أشجار اللبان المتناثرة على هضاب ووديان الجبال والتي تحتاج إلى صبر ورعاية مستدامة.

أجود أنواع اللبان في العالم

تنتج في ظفار أجود أنواع اللبان في العالم، حتى غدت هذه المنطقة مركز تصديره إلى الحضارات الكبرى التي توالت على بلاد الشرق والغرب معاً مثل الفرعونية والآشورية والبابلية والفارسية حتى بلاد الرومان والإغريق، وصارت عمان في حقبة موغلة بوابة الهند وحلقة موصلة بين الحضارات والقارات.

واللبان بأنواعه الأربعة التي اشتهرت في وديانها التي تقاس نوعيتها باللون النقي الصافي الخالي من الشوائب، ويرتفع ثمنه من خلال هذه الخاصية، بحسب المناطق الجغرافية والعوامل المناخية إضافة إلى مهارة الجاني له.

ويتراوح سعره بين 5 - 40 ريالاً عمانياً (13 - 104 دولار أميركي)، وأهمه "الحوجري" الأبيض أو المائل للاخضرار.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

قال لي مرافقي العماني "يبدأ إنتاج وجني المنتج خلال شهري مارس (آذار) حتى نهاية يونيو (حزيران) من كل عام باستخدام الوسائل التقليدية المؤلفة من شفرات حادة لجرح وكشط سيقان وفروع الشجرة، وآنية يجمع فيها السائل الأبيض الذي يستخدم كدواء للمعدة ويدخل في صناعات العطور والبخور والصناعات التجميلية والزيوت والمساحيق الطبية، ولايخلو بيت عماني من بخور اللبان الذي تشتهر به السلطنة".

مراحل استخراج اللبان

وتتم عملية استخراجه على مراحل ثلاث بدءاً من كشط اللحاء "المنقف" ينتج منها إفراز مادة لزجة قابلة للتجمد، يتم التخلص منها، وبعد أسبوعين يتم تجريحها في عملية تسمى "السعفة" وبعدها يتم جمع المحصول، ثم يتكرر جرح المنطقة وتسمى "الكشمة" وفيها يجري انتزاع المحصول بمعدل ثلاث إلى ثمانية كيلوغرامات، وتترك لتعود لطبيعتها كما يقول أحمد بن عامر الباحث في حقل زراعة اللبان الذي يصنفها من فصيلة "البخوريات" التي تضم 26 نوعاً يشتهر بها جبل سمحان، حيث تكثر أشجار اللبان.

 

من جهتها، عملت الدولة العمانية على جعل الجبال مناطق آمنة للرعاة، وحالت من دون أن تمتد إليها يد البشر للسكنى بأوامر سلطانية، إلا بضعة بيوت تؤمن للرعاة ما يعينهم على التواصل مع الجبل وبضعة محميات للإبل واللبان والسلاحف بالإضافة إلى النمور العربية وسواها من النوادر التي لا يمكن أن تعيش في أماكن أخرى، تجدها مبثوثة في سفوح جبال ظفار الشاهقة.

"سمهرم" ميناء حماية اللبان

وحين قطعنا الطريق المؤدي بين الحبال وصلنا جبل سمحان، وهناك وجدنا قلعة نائية يطلق عليها "سمهرم" يُرجح أن يكون اسماً ظفارياً قديماً، القلعة اعتلت ميناء يسمى "قلب أرض اللبان" يصل بين البحر الأبيض والهند لتأمين تجارة اللبان العربية ذات الجودة العالية.

حرصت أن أصل إليه متأملاً ذلك البناء الحجري الشامخ وسط تلال نائية تؤدي إليه، يقول سعد مسعود المقيم فيها والمشرف على القلعة التاريخية "لغاية 2000 عام مضت كانت سمهرم أكبر مجمع لبان في العالم، يصفها الرحالة الإغريقي زمن الإسكندر الأكبر بميناء اللبان"، إذ يقول المؤرخ الإغريقي الذي وطأ الميناء "تنتشر على رصيف الميناء أكوام من اللبان من دون حراسة، لكن لا يمكن أخذ حبة واحدة من اللبان ونقلها إلى السفن من دون إذن، ولن تتمكن السفن من الإبحار إذا ما حدث ذلك لأنها مخالفة لإرادة الرب"، إذ اعتقدت الديانات القديمة أن الميناء يخضع لحماية الإله، لأنه يحتوي على سلعة ثمينة هي مصدر البخور الذي يعطر المعابد ويمنح الأرواح الخيرة البركة في حقبة طويلة مر بها العالم القديم قبل ظهور الديانات التوحيدية.

تجارة ثمينة وكنز البخوريات

لكن المنطقة شهدت حروباً طاحنة للوصول إلى قلاعها الشامخة التي شيدت لتحمي تجارة البخور المستخرج من أرض عُمان وجبالها العصية على الغزاة، حتى جهزت حملات عسكرية صنعت تاريخ أمم وهي تهم بالهيمنة على "بلاد البخور"، كما فعلت الملكة الفرعونية "حتشبسوت" في الألف الثاني الميلادي.

ويقال إن الإسكندر الأكبر مات وعينه على الحد الجنوبي من جزيرة العرب آملاً في الحصول إلى مرتبة إلهية بعد الاستيلاء على بلاد البخور أرض اللبان، وقد ازدادت أهمية عُمان ومينائها "سمهرم" في عصر الإمبراطورية الرومانية حين ازدادت عدد السفن القادمة من روما إلى ميناء اللبان، مما زاد ثراء المدينة التي لا يقطنها سوى (200 - 300) شخص عادة من صيادي الأسماك المهرة قبالة الميناء المحصن.

وقد وصفوا بالمهرة لكونهم يصطادون الحيتان التي تدفع قواربهم الصغيرة نحو صخور الشاطئ بواسطة الرماح، لكنهم يؤثرون الاستراحة بعدها في المدينة الصغيرة، وتجلبهم رائحة عبير اللبان الفريدة، كما قال لي سعد مسعود المقيم هناك والمهتم بتاريخها.

وأضاف "الحاكم الروماني نيرون قام بجمع أطنان اللبان في روما وإصدار أمر بإحراقها ليرى توقدها ويشم رائحة البخور المنبعث منها لرثاء حبيبته التي ماتت، ليغطي روما كلها ببخور لبان عُمان الفريد، والذي اتهم بالجنون لكمية البخور الذي أحرقه في المدينة حينها".

إن سر العناية باللبان العُماني نابع من المادة العطرية الزكية التي كانت تملأ المعابد، والتي تمنح أجواء خاصة لزوارها الذين يظنون أنهم حصلوا على بركات المعابد من عذر الآلهة التي هي سر استمرار تأمين قطع اللبان.

وحين ظهرت ديانات التوحيد هجرت المعابد واختفى الكهنة، وقل استخدام اللبان في المباخر لكنه ظل مادة محببة في تجارة البخور والعطور والأدوية والمساحيق التي تزيد عُمان سحراً وخصوصية.

وتصف ميساء الهوتي التي تدير مشروع "عُمان تحت المجهر" لبان عُمان بأنه "مثار إعجاب وإقبال السائحين، يجدون فيه ما يبعث على السرور، وفيه خصوصية بيئية جعلت مناطق زراعته مراكز تجتذب للسائحين، وملأت المتاجر والأسواق بروائحها الزكية التي يحملها الزوار لبلدانهم".

ويؤكد العمانيون أن اللبان أهم السلع التجارية ذات القيمة العالية التي تعادل الذهب والنفط في العصر الحالي، وهي شجرة تتحمل ظروف بيئية صعبة، ولا تتأثر بالجفاف لتكون قوت الشعب وملاذ اقتصاده الناهض.

اقرأ المزيد

المزيد من منوعات