Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

دوافع ووقائع انتفاضة المصريين ضد "مومس سارتر"

اختلط الاسم على البعض فظنه كارتر والغالبية يعتقدون أن "العمل إباحي" وتحرك برلماني لمنعها

تحوّل الفيلسوف جان بول سارتر إلى تريند لدى المصريين بسبب مسرحيته "المومس الفاضلة" (أ ف ب)

يقول بعضهم إن جان بول سارتر على الأرجح يتململ في قبره مستاء مما لحق بعاهرته وفضيلتها من أذى، وما أصاب سمعتهما من ضرر، ويرجح بعضهم الآخر أن سارتر سامح من قلبه وغفر من صميم فؤاده ما بدر من قطاع الشعب الذي أحبه وزاره في عقر داره، ليجد ترحيباً كبيراً واستقبالاً حافلاً بدءاً من رئيس الجمهورية مروراً برموز القلم والأدب والصحافة والثقافة في قلب الصحافة الرسمية المملوكة للدولة، وانتهاء بالمصريين العاديين الذين فرحوا حين عرفوا أن رمزاً من رموز الأدب والفلسفة في العالم أتى خصيصاً ليطلع على ثورتهم، ويعرف المزيد عن اشتراكيتهم الوليدة.

الفيلسوف المعاصر الذي رحل عن عالمنا الملتبس قبل ما يزيد على أربعة عقود، رائد الفلسفة الوجودية والجدلية في القرن الـ20 جان بول سارتر، تحول إلى "تريند" على قوائم المصريين و"الخبر الأكثر قراءة" على مواقعهم الخبرية، وموضوع لانتفاضة البرلمان الذي يعيب عليه كثيرون السكون والسكوت والخمود منذ خرج إلى نور الانعقاد.

كارتر وسارتر

أصبحت سيرة سارتر على كل لسان، وأضحى الفيلسوف المرحوم حديث القاصي والداني حتى في حال لم يسمع كلاهما عنه أو يعرف علاقة "كارتر" بـ"سارتر" بـ"المومس الفاضلة".

فمنذ أعلنت الممثلة المصرية إلهام شاهين عن استعدادها للعودة إلى المسرح بـ"المومس الفاضلة"، حتى انقلبت أحوال الواقعين الافتراضي والحقيقي رأساً على عقب.

دخلت الملايين بكل ما أوتيت من قوة تغريداً وتدويناً على المنصات أو شجباً وتنديداً على المقاهي ووسائل المواصلات العامة والتجمعات الأسرية، لتدافع عن أخلاق المصريين وفضيلة النساء وشرف الرجال والقيم التي من شأنها أن تتبدد في هواء "المومس" وفضيلتها.

انتفاضة هادرة

الانتفاضة الهادرة كشفت كثيراً كعادة الانتفاضات الشعبية والفقاعات السجالية. الغالبية المطلقة من المنتفضين ضد "المومس الفاضلة" (العاهرة أو الساقطة) اعتبرت أن الاسم يعني بالضرورة أن العمل إباحي من ألفه إلى يائه. الغالبية المطلقة أيضاً لم تكن تعرف أن "المومس الفاضلة" هو اسم أحد أعمال الفيلسوف والكاتب والناشط السياسي الفرنسي الراحل جان بول سارتر.

والأدهى من ذلك أن النسبة الكبرى التي عرفت أن القصة لسارتر لم تكن على يقين من هويته. أحدهم اندلف بكل قوة وحماسة ودفاع عن فضيلة المجتمع المصري مغرداً "كارتر ما كارتر، لا يصح ولا يجوز تقديم عمل إباحي على الملأ في مجتمع مسلم محافظ".

والملاحظ أن القلة القليلة التي صححت الخطأ المعرفي بأنه سارتر وليس كارتر لم تغير المسار، أو تهدئ من روع من شعروا أن فضيلة المجتمع في خطر.

 

خطر من نوع آخر لاح في الأفق، وذلك بدخول مجلسي النواب والشيوخ المصريين على خط المصدومين من "المومس الفاضلة" والمطالبين ليس فقط بمنعها، بل بفرض رقابة صارمة على الفن حماية لأخلاق المصريين "من دون المساس بحريته".

عضو مجلس النواب، أيمن محسب، تقدم على الفور بطلب إحاطة إلى رئيس مجلس النوب وموجه إلى رئيس مجلس الوزراء مصطفى مدبولي ووزيرة الثقافة المصرية إيناس عبد الدايم في شأن "المومس الفاضلة" ونية الممثلة إلهام شاهين إعادة تقديمها على المسرح.

وقال محسب في طلبه، "طريقة التناول والمعالجة للمسرحية التي كتبها المفكر الفرنسي جان بول سارتر قبل أكثر من 75 عاماً غير مناسبة للمجتمع المصري، بل ومن الممكن أن يطلق عليها فن إباحي".

القصة وما فيها

يشار إلى أن القصة بُنيت على واقعة حقيقية حدثت في الولايات المتحدة الأميركية وعرفت باسم "فتية سكوتسبورو" في عام 1931. وقتها اتهمت سيدتان أميركيتان تسعة مراهقين أميركيين سود بالاغتصاب، وحكمت المحكمة سريعاً على ثمانية منهم بأحكام تتراوح بين الإعدام والسجن 75 عاماً، وذلك من دون حتى توقيع الكشف الطبي على السيدتين.

أما المسرحية فتدور أحداثها حول فتاة ليل تُدعى "ليزي" تجد نفسها شاهدة على حادثة تعدي رجل أبيض على فتاة ليل في قطار، لكن الاتهام يوجه إلى راكب أسود، ويضغط والد الراكب الأبيض وهو سناتور في مجلس النواب الأميركي على "ليزي" لتشهد ضد الراكب الأسود، فترفض وتصر على الإدلاء بشهادة صادقة وأمينة، فتواجه تهديدات بالسجن والاتهام بممارسة الدعارة.

المثير هو أن عشرات الأفلام والروايات المصرية التي يتعامل معها المصريون باعتبارها إرثاً حضارياً وفنياً يفخرون به تحفل بقصص وأدوار لنساء يعملن في مهنة الاتجار بالجنس. وطيلة عقود طويلة، لم يجد المصريون داعياً إلى الانتفاض ضد هذه الأدوار والشخصيات التي أسعدتهم مشاهدتها ضمن العمل الدرامي.

"نور" (الراحلة شادية) في "اللص والكلاب" و"ريري" (الراحلة نادية لطفي) في "السمان والخريف" وغيرهما كثيرات في السينما المصرية التي قدمت أعمالاً تحوي شخصية تعمل في الاتجار بالجنس، وهو النشاط الموجود منذ فجر التاريخ وفي شتى المجتمعات الملتزمة ونصف الملتزمة والبعيدة تماماً من الالتزام.

لا تقربوا الصلاة

"سيدة المسرح" الفنانة سميحة أيوب والبعيدة من الأضواء منذ سنوات، وجدت في الانتفاضة الأخلاقية الدائرة رحاها بسبب اسم "المومس الفاضلة" ما يدعو إلى الحزن، وقالت في حديث تلفزيوني إنها مندهشة وحزينة لما يدور من جدل وغضب حول اسم المسرحية من دون معرفة محتواها.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وأضافت، "محتوى المسرحية نبيل للغاية، والذين يهاجمونها يطبقون قاعدة (لا تقربوا الصلاة). هناك مسرحيات تحمل أسماء عادية لكن محتواها حقير". وعبرت أيوب عن أملها بأن "الهيجان (كثرة الحديث) يكون لشيء نافع للبلد".

يشار إلى أن أيوب قدمت المسرحية نفسها على خشبة المسرح القومي عام 1958 من دون أن يثور المصريون، أو يخشى العلماء على أخلاق العباد ومصائر البلاد، أو ينتفض برلمان بغرفتيه من نواب وشيوخ.

عضو مجلس الشيوخ ومساعد رئيس حزب الوفد، حازم الجندي، أصدر بياناً قال فيه إنه يتابع الاستعدادات لعمل فني جديد يحمل اسم "المومس الفاضلة"، وعلى الرغم من أن العمل لم يخرج إلى النور بعد، فإن "الاسم الفاضح" يتنافى مع كل القيم والتقاليد المصرية، فهذا اللفظ الخادش نرفض أن يتنقل بين مسامع أطفالنا ويدخل بيوتنا، بل ويتنافى تماماً مع الرسالة السامية للفن المصري.

وأعلن الجندي تضامنه مع "التحرك البرلماني" في هذا الصدد إيماناً من النواب بـ"ضرورة الحفاظ على هُوية الفن المصري وعدم الانسياق وراء عناوين مبتذلة بدافع الترويج لعمل مسرحي بعنوان مبتذل يحقق ربحاً تجارياً لأصحابه على حساب قيم المجتمع".

الجن الحرامي

وبينما يسخر بعضهم من أن "قيم المجتمع" التي استنفرت أرجاء مجلسي النواب والشيوخ للدفاع والذود عنها لم تمتد إلى مشكلات التعليم المتراكمة وأسعار السلع المتفاقمة وقوانين المرور الميتة إكلينيكياً، يقول بعضهم الآخر إنه لا ينبغي الخلط بين تقصير البرلمان في الاهتمام بقضايا حياتية مهمة وترك الأعمال الدرامية التي تروج أفكاراً شاذة بيننا من شأنها أن تُسهم في مزيد من تغييب العقول وتسطيح المفاهيم.

لكن، العقول المغيبة والمفاهيم المسطحة تأبى إلا أن تكون في بؤرة الأحداث والحوادث اليومية. "المومس الفاضلة" سحبت بساط الأضواء من تحت أقدام الجن سارق المال والذهب، وهو الجن الذي قلب أوساط القيل والقال في مصر رأساً على عقب، ولولا "المومس الفاضلة" لظل "التريند" الأكبر والشغل الشاغل للملايين.

فقبل ساعات من تفجر "المومس الفاضلة" انشغل الرأي العام والخاص المصري بما جاء على لسان شيخ أزهري، هو محمد أبو بكر، من أن الجن يسرق المال والذهب من كثير من البيوت، وأنه شخصياً يواجه هذه المشكلة في بيته. وقال على صفحته مذيلاً رأيه "الشرعي" في مسألة الجن الحرامي إنه "إذا اختفت الأموال من منزلك أو الذهب، وتأكدت أن أهل بيتك لم يقوموا بالأمر، وتساءلت ما إذا كان الجن سرقها فهذا صحيح، لأنه يسرق من الأموال والذهب والأطعمة".

وانتشر هاشتاغ "الجن حرامي اللحمة" بين بعض من وجد في أحاديث الجن المرتدية عباءة الدين إصراراً من قبل بعضهم على استمرار إغراق عموم المصريين في غياهب بعيدة كل البعد من العلم والبحث وإعمال العقل مع كثير من التشدد الديني.

 

في المقابل، انتفض بعضهم الآخر مدافعاً عن حديث الجن، لا سيما أنه "ورد ذكره في القرآن"، ومتهماً الفريق الأول بـ"محاولة ادعاء الاستنارة على حساب الدين والمتدينين".

اللافت في الأمر أن فريقي مباراة "الجن حرامي اللحمة" احتفظا بالتشكيل نفسه تقريباً في مباراة "المومس الفاضلة". فمن أعجبه أو في الأقل لم يزعجه الجن الحرامي انتفض ضد "المومس الفاضلة" وإلهام شاهين وسارتر وكل من معهم، في حين رأى الفريق المناهض للجن الحرامي أن كون رواية أو عمل درامي يحمل اسماً أو يجسد شخصية يراها المجتمع خارجة عن قواعده الأخلاقية وقيمه السلوكية لا يعني أن العمل يمجد الشخصية.

كما أن تجاهل هذه الشخصيات في الأعمال الدرامية لا يعني محو وجودها من الشارع، وأن مهمة القوى الناعمة وبينها الفن والثقافة عرض كل الأفكار وتناول جميع القضايا من دون المرور على "فلتر" الأخلاق الحميدة.

لكن أصواتاً عدة في مجلسي النواب والشيوخ تطالب بـ"فلتر" أخلاقيٍّ واقٍ حامٍ. النائب أيمن محسب يقول إن "القوى الناعمة المصرية أمن قومي يدافع عن أبنائنا ويغذي أفكارهم بما يتفق مع الأخلاق والقيم السائدة في المجتمع".

وطالب محسب بضرورة تشديد الرقابة على الأعمال الفنية بشكل يضمن التوازن بين ما يُقدم من جرعة فنية وثقافة المجتمع، نافياً "شبهة" وضع قيود على الفن، فقط "وضع نقطة نظام لصالح تنشئة أجيال جديدة لديها وعي وثقافة، مع ضرورة إحياء الفن المصري والهوية والثقافة المصرية".

ووافقه الرأي والتوجه نائب مجلس الشيوخ حازم الجندي، الذي قال إن حرية الفن وعدم وضع قيود عليه أمر مهم، لكن في الوقت نفسه يجب أن يتم تناول مواضيع هادفة.

رقابة من دون رقابة

الرقابة التي لا تخل بمبدأ حرية الفنون والسيطرة على الأفكار والمواضيع بشكل لا يتعارض وحرية الإبداع معادلة متشابكة من شأنها إثارة الهمز واللمز. الكاتب الصحافي يسري حسين يشكك في معرفة النواب المعترضين على العمل المسرحي شيئاً عن سارتر أو غيره من فلاسفة الوجودية "الذين كانت كتبهم منتشرة في القاهرة حتى ستينيات القرن الماضي، وقت كانت مصر منشغلة بالمسرح والفن، وقبل عصر يزدهر فيه الحديث عن الجن الذي يسرق الطعام والذهب. نحن لا نهتم بمومس سارتر حتى لو كان من فلاسفة العصر الحديث، وحتى لو استقبله جمال عبد الناصر واستجاب لطلبه بالإفراج عن عبد الرحمن الأبنودي وجمال الغيطاني وصلاح عيسى".

ويشير حسين إلى أن الغريب أن "مومس سارتر تتحدث عن قضايا أخرى بعيدة عن العنوان الذي استفز واستوقف نواباً في البرلمان لم تستوقفهم قضايا أخرى تخص التعليم والصحة وارتفاع الأسعار".

ارتفاع أسعار باقات الإنترنت على الهواتف المحمولة يحول من دون تمتع بعضهم بالترفيه العنكبوتي، وعلى رأسه تطبيقات مثل "نتفليكس". لكن إتاحة الـ"واي فاي" في بعض المنشآت بلا مقابل تمنح كثيرين فرصة العمر الترفيهية، وتقدم لهم متعة المشاهدة.

وعلى سبيل المثال لا الحصر، فإن حلقات "التربية الجنسية" البريطانية الكوميدية التي تتناول مشكلات وقضايا الطلاب المراهقين الجنسية ظلت الأعلى مشاهدة في مصر على "نتفليكس" لأسابيع. كذلك الحال لحلقات "بريدجرتون" الحافلة بمشاهد جنسية صريحة وغيرها كثير.

كثيرون يدافعون عن عرض مسرحية لسارتر بغض النظر عن اسمها، وآخرون يستهجنون الفكرة إما من ألفها إلى يائها، أو يطالبون إما بتغيير الاسم أو بتناول قضية الاضطهاد العنصري بأي عمل آخر حتى لا يخدش حياء المجتمع.

الفن والإباحية

كتب الناقد السينمائي طارق الشناوي أنه "من السهل جداً أن تُدرك أن داخل المجتمع تزداد مساحات التحفظ، ومهما قلنا إن الفن لا ينتعش سوى بالحرية، ولا توجد بالمناسبة أبداً وشائج قربى أو نسب بين الحرية والإباحية، بل إن الفن بطبعه يعادي الإباحية، وإن الفن يقيم بمقياس علم الجمال، فلن نجد سوى الاستهجان، لأنه الأعلى صوتاً. قطاع من المجتمع لديه يقين أن أي انحراف على الشاشة يعتبر بمثابة دعوة صريحة لممارسة الضرب والنهب والقتل والرذيلة في الشارع".

وتطرق الشناوي إلى "ميل في المجتمع إلى فرض مزيد من القيود، رغم أن العالم يمنح العصمة للمواطن في اختيار ما يريد مشاهدته". وتطرق إلى تصنيف الأعمال الفنية بحسب السن وهو النظام الذي جرى إقراره في مصر قبل ما يزيد على ستة عقود.

ويرى الشناوي أن عقلية المصادرة والمنع التي تتدثر دائماً بالأخلاق الحميدة سوف تنتهي لا محالة. مشيراً إلى "غدة المنع التي نشطت من قبل وطالت فيلماً مثل (شفرة دافنشي) من الأزهر والكنيسة، وكذلك فيلم (نوح) لكن المنصات مثل (نتفليكس) عرضت كليهما والملايين شاهدوهما".

وعلى الضفة المقابلة، ترى الكاتبة الصحافية عزيزة فؤاد أن "الأفكار كثيرة والعناوين أيضاً كثيرة، وأن الذوق المصري وعادات المجتمع وتقاليده تحول من دون اسم بهذا القبح، حتى لو كان عملاً عالمياً".

العالمية والمسرح وإلهام شاهين وسارتر و"نتفليكس" والرقابة والمنع والجن والجميع يدور في دوائر "المومس الفاضلة" هذه الآونة، وهي دوائر تقول كثيراً عن حراك المجتمع وصراعاته ومعاركه الكبيرة والصغيرة.

اقرأ المزيد

المزيد من تحقيقات ومطولات