على الرغم من أن وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن سارع إلى زيارة باريس عقب الخلاف المتفجر مع إدارة جو بايدن بسبب صفقة الغواصات الأميركية مع أستراليا، إلا أن زيارته لم تطفئ نيران الغضب الفرنسية، واحتاج الأمر أسابيع عدة كي تهدأ ثورة أقدم حلفاء الولايات المتحدة مع زيارة الرئيس بايدن التصالحية مقر سفارة فرنسا في روما من أجل تلطيف الأجواء مع الرئيس إيمانويل ماكرون على الرغم من عدم اعتذاره علناً، لكن زيارة نائبة الرئيس الأميركي كامالا هاريس إلى باريس، والتي تنتهي خلال ساعات، استهدفت بالأساس طي صفحة الخلاف تماماً والتطلع بدلاً من ذلك إلى الأمام، فهل نجحت هاريس كأرفع مسؤول أميركي يزور باريس منذ رحيل دونالد ترمب عن البيت الأبيض في تحقيق ذاك الهدف؟
تاريخ من التقدير
تدين الولايات المتحدة لفرنسا بالفضل في مساعدتها لنيل الاستقلال من البريطانيين، ومن دون الأموال والعتاد العسكري والقوات التي قدمتها فرنسا للثوار الأميركيين، لما استطاعت أميركا أن تنال استقلالها عن بريطانيا العظمى، وتعترف بها فرنسا عام 1778 بل، وتعقد أول تحالف عسكري معها ضد البريطانيين، وبالمثل تدين فرنسا للولايات المتحدة التي حررتها من الاحتلال النازي في الحرب العالمية الثانية وحاربت معها ضد الألمان أيضاً في الحرب العالمية الأولى.
لكن العلاقات الأميركية - الفرنسية مرت أيضاً باختبارات عسيرة طوال تاريخها الممتد لأكثر من 240 عاماً وإن لم تصل أبداً إلى العداء المباشر أو الاقتتال، ولهذا يعتبر كثيرون من المحللين السياسيين أن موجات الصعود والهبوط في العلاقات بين الطرفين والتي تحددها مصلحة كل منهما، كانت على الدوام تضع العلاقة التاريخية في الاعتبار، وهو أحد الأسباب التي تفسر مشاعر الغضب والإحباط، حينما شعر الفرنسيون بخيانة إدارة الرئيس جو بايدن لهم بإبرام صفقة من دون إخطار باريس، لتصنيع غواصات نووية أميركية بريطانية لأستراليا ضمن اتفاق تحالفي جديد، أطاح بصفقة كانت فرنسا قد أبرمتها بالفعل مع كانبيرا بعشرات المليارات من الدولارات.
بايدن ثم هاريس
ولأن زيارة بلينكن الذي يتحدث الفرنسية بطلاقة وتعيش والدته في باريس، لم تفلح في تهدئة الأجواء حينها، اقتضى الأمر أسابيع عدة كي يزور بايدن الرئيس ماكرون، ليس على أرض محايدة وإنما في مقر السفارة الفرنسية في روما على هامش اجتماعات قمة العشرين، الشهر الماضي، كنوع من الاعتذار الضمني المصحوب بالدبلوماسية، لكن من دون اعتذار رسمي يضرّ بهيبة ومكانة الولايات المتحدة السياسية حول العالم.
وعلى الرغم من أن زيارة كامالا هاريس باريس كانت مقررة سلفاً قبل أن ينشب الخلاف بين الطرفين، إلا أنه وقع على عاتقها إنهاء إحساس الندم الأميركي واسترضاء فرنسا من دون الاضطرار إلى دفع فواتير ضخمة للرئيس ماكرون، وهو ما عكسه تجنب هاريس وماكرون أسئلة الصحافيين حول الخلاف بشأن صفقة الغواصات، وتركيزهما على التطلع نحو المستقبل، وهو أيضاً ما أوضحه ماكرون حول تشارك الجانبين الرأي بأنهما في بداية حقبة جديدة، وأن تعاونهما أمر بالغ الأهمية في هذا العصر. وعلاوة على ذلك، بدت رحلة هاريس مليئة بالرمزية التي تسعى إلى تعزيز النضالات المشتركة التي يحملها كلا البلدين، والقيم المشتركة التي يأملان بأن تساعد في تشكيل القرن الـ 21.
مكاسب ماكرون
ويبدو أن الحكومة الفرنسية والرئيس ماكرون يقدران الإيماءات التصالحية على مستوى كبار مسؤولي البيت الأبيض، حيث أن ترحيب ماكرون بهاريس والحفاوة التي استقبلها بها في قصر الإليزيه وتجولهما في كل أركانه التاريخية، لم يأت من فراغ، إذ كان لا بدّ للأميركيين أن يقدموا كثيراً لرئيس سيخوض معركة انتخابية صعبة بعد ستة أشهر لإعادة انتخابه لدورة رئاسية ثانية بينما يواجه انتقادات واسعة من اليمين المتطرف الذي يبدي عداء واضحاً لإدارة الرئيس بايدن الديمقراطية، ويعتبر أن تصرفها في صفقة الغواصات الأخيرة، أهان فرنسا وكرامتها وأن ماكرون يتحمل مسؤولية كل ذلك.
ومن الواضح أن الحملة الانتخابية الفرنسية انقلبت في الأسابيع الأخيرة بسبب صعود المعلق اليميني المتطرف إريك زمور، الذي لم يعلن حتى الآن عن ترشيحه، لكنه يحتل المركز الثاني أو الثالث في العديد من استطلاعات الرأي، إذ استخدم زمور مراراً صفقة الغواصات الفرنسية الخاسرة، للمطالبة بأن تصبح فرنسا أقل اعتماداً على الولايات المتحدة، بينما قدم ماكرون في مخاطبته الجماهير المحلية، مطالب مماثلة بمزيد من الاستقلال، لكنه سعى في الممارسة العملية إلى إقامة علاقات وثيقة مع الولايات المتحدة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وفي المقابل، سارعت هاريس إلى الإعلان عن فوائد ومزايا العلاقة بين الجانبين حين أعلنت عن انضمام الولايات المتحدة إلى مبادرة دولية بقيادة فرنسا لحماية المدنيين من الهجمات الإلكترونية وتثبيط التدخل عبر الإنترنت في الانتخابات بعد ثلاث سنوات من رفض إدارة ترمب التوقيع على اتفاق مماثل، كما أعلن ماكرون وهاريس المشاركة في تعاون موسع في مجال الفضاء عبر انضمام فرنسا إلى برنامج "أرتميس"، وهو اتفاقية دولية بين الحكومات المشاركة بقيادة الولايات المتحدة لإعادة البشر إلى القمر بحلول عام 2024، بهدف توسيع استكشاف الفضاء في حقبة جديدة مع الشركاء التجاريين والدوليين، تؤسس لوجود مستدام على القمر للتحضير لمهام إلى المريخ، فضلاً عن جهود أخرى مشتركة بين باريس وواشنطن في محاولة لتحسين الحماية ضد تغير المناخ.
ولا شك أن زيارة هاريس وفرت فرصة لماكرون لإقناع الناخبين بنجاعة سياساته الدولية المتوازنة من خلال الإصرار على توثيق التعاون مع أميركا في مجموعة واسعة من القضايا مع الاستمرار في التأكيد على أولوية الحكم الذاتي الاستراتيجي والسيادة الأوروبية، وهو بذلك يزيد من نفوذ فرنسا في واشنطن ويعزز العلاقات عبر الأطلسي في وقت واحد.
ومع ذلك، قد لا يكون فوز ماكرون بهذه الصيغة على المستوى المحلي أمراً سهلاً، بالنظر إلى استطلاعات الرأي التي تشير إلى أن التشكك في السياسة الخارجية للولايات المتحدة منتشر في فرنسا أكثر منه في ألمانيا أو المملكة المتحدة.
جوانب غامضة
غير أن جدول أعمال هاريس في باريس لم يشمل البنود البارزة التي طلبها ماكرون من الأميركيين قبل زيارة بايدن إيطاليا، والتي تضمنت التزامات أعمق من الولايات المتحدة بشأن تدابير مكافحة الإرهاب، إذ تعهدت الولايات المتحدة بعد اجتماع ماكرون مع بايدن في روما، بمساعدة عمليات مكافحة الإرهاب الفرنسية في منطقة جنوب الصحراء المعروفة باسم منطقة الساحل، كما أكدت أنها ستزيد من دعمها عمليات انتشار قواتها عبر المحيطين الهندي والهادئ.
ويعتقد محللون سياسيون أن الغموض الذي أحاط برحلة هاريس هو علامة على أن ماكرون حصل بالفعل على كثير مما طالب به من حيث الجوهر والأسلوب الدبلوماسي، فمنذ وصولها إلى فرنسا، حاولت هاريس التركيز على مستقبل بلدين يواجهان التهديدات نفسها، وعلى رأسها تغير المناخ ووباء "كوفيد-19"، كما أبلغت الفرنسيين ببراعة بأن وجودها في باريس لا يمكن أن يكون أكثر اختلافاً عن الزيارة الأخيرة على مستوى رأس الدولة الأميركية، في إشارة إلى الجدل الصاخب الذي ظهر به الرئيس السابق دونالد ترمب عام 2018.
مكاسب أميركا وهاريس
في الوقت نفسه، سوف تستفيد الولايات المتحدة من إنهاء الغضب الفرنسي بخاصة وأنه بعد خروج المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل من السلطة خلال أسابيع، سيصبح ماكرون هو الزعيم الأوروبي الأكثر تأثيراً في أوروبا بعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وهو ما تراهن عليه واشنطن نسبياً مع تحسن العلاقة وفرنسا، على الرغم من أن باريس لا تشارك الولايات المتحدة خطها المتشدد في مواجهة الصين.
وسيمنح تحسن العلاقات بين باريس وواشنطن تحسين سمعة إدارة بايدن التي تضررت من الخلاف بشأن صفقة الغواصات وأساءت لخبراتها في السياسة الخارجية، والتي كانت قد تضررت بالفعل بسبب انسحابها الفوضوي من أفغانستان.
أما بالنسبة لكامالا هاريس، فإن رحلتها تعد فرصة لتلميع صورتها وأوراق اعتمادها في السياسة الخارجية كمرشح رئاسي محتمل في المستقبل وبخاصة أنها تأتي بعد رحلتين سابقتين إلى الخارج، كانت الأولى إلى غواتيمالا والمكسيك، والتي طغت عليها إجابة خاطئة على سؤال حول الحدود بين الولايات المتحدة والمكسيك، والأخرى إلى فيتنام وسنغافورة، وطغت عليها أفغانستان والمشكلات التي واجهت انسحاب القوات الأميركية منها.
وبينما أتاحت رحلة باريس لهاريس فرصة مناسبة لتقديم نفسها على المسرح العالمي، وتسليط الضوء على مكانتها كأول امرأة، وأول امرأة ملونة، تشغل هذا المنصب الرفيع، فإن البعض اعتبر أن الشعب الفرنسي والمسؤولين الفرنسيين تعاملوا معها كزائرة رفيعة المستوى وليس كرئيسة بديلة أو محتملة في المستقبل، بخاصة أنها تعاني من تراجع شعبية كبير في الولايات المتحدة مع الرئيس بايدن وفقاً لآخر استطلاع أجرته صحيفة "يو أس أي توداي".