المعروف والأكثر تداولاً من رسائل الشاعر الروسي الكبير ألكسندر بوشكين (1799- 1837)، هي رسائله إلى قرينته ناتاليا غونتشاروفا قبل الزواج وبعده. لكن هناك رسائل، كثيرة تظل بعيدة من التداول، وكان بوشكين تبادلها مع عدد من السيدات والفتيات اللاتي كن يرتبطن به بعلاقات "متباينة الأطياف". ولعل ذلك يفسر ما قيل حول أن رسائل بوشكين مع معارفه من سيدات المجتمع المخملي، لم تكن سوى جزء صغير من تراث "رسائله" التي أعارها بوشكين كثيراً من اهتمامه، وعلى نحو لا يقل عن عنايته بما جادت به قريحته من روائع شعرية ونثرية.
ولما كان معروفاً عن بوشكين، تعدد العلاقات الغرامية بما شابها من سلوكيات وتجارب عاطفية ومفردات تتجاوز "المألوف"، ما عكسه الكثير من قصائده، ومنها رائعته "يفغيني أونيغين" التي تضمنت بعضاً مما قد يندرج ضمن "المحظور" تداوله بين من هم دون الثامنة عشرة من العمر، انبرى بعض معارفه، ومنهن السيدات اللاتي أعربن عن مخاوفهن من تبعات قراره حول الزواج، وما قد ينجم عن ذلك من مواقف، للكشف عما خفي في علاقاتهن مع "شمس الشعر الروسي" بحسب ما صاروا يسمونه بعد رحيله.
وكان معاصرو بوشكين قد تناقلوا بعضاً من أخبار مغامراته وعلاقاته، ومنها ما تعلق بالسيدة "أنّا كيرن" سليلة نبلاء ذلك العصر وقرينة يرمولاي كيرن، أحد جنرالات ذلك الزمان. وكانت كيرن فُتنت ببوشكين وأشعاره، وعشقته وعشقها وتبادلا الغرام الذي سرعان ما عكسته أشعاره، لتغدو نموذجاً لعدد من قصائده، ومنها تلك المعروفة بأولى مفرداتها "أتذكر تلك الومضة الرائعة"، تلك التي كتبها في صيف عام 1925، إبان كان محكوماً عليه بالنفي إلى قرية ميخائيلوفسكويه، والتي كان يتسلل منها الى "تيغرسكويه"، وهي ضيعة مجاورة كانت تسكنها عائلة أوسيبوف فولف، وكثيراً ما كانت تتردد عليها معشوقته أنّا كيرن قرينة الجنرال يرمولاي كيرن. وثمة من يذكر أن بوشكين ألقى هناك قصيدته المعروفة "الغجري" التي تذكرتها أنّا كيرن بقولها: "لن أنسى ما حييت تلك البهجة التي احتوتها روحي. لكم سعدت بكل ما تدفق من مفردات تلك القصيدة الرائعة، وكذلك من سحر إلقائها وما كانت تقطر به من موسيقى، كنت أذوب معها من فرط المتعة".
رسالة أنّا كيرن
لم تكن مشاعر أنّا كيرن لتتعدى آنذاك، ما هو أكثر من فرط الإعجاب بشعر ألكسندر بوشكين. أما هو فلم يكن ليستطيع إخفاء عاطفته، ما دفعه إلى أن يطلب منها، حين علم بأنها مدعوة إلى السفر مع قرينها الجنرال كيرن إلى ريغا (عاصمة لاتفيا)، الإذن بالكتابة إليها.
وتدفقت رسائل بوشكين التي لم يحتفظ التاريخ منها سوى ست فقط، وكانت جميعها صادرة عنه، ومن دون أن يعثر أحد على رسالة واحدة وصلته من تلك التي بعثت بها كيرن. وثمة من يقول إن ما كتبه ألكسندر بوشكين، كان أقرب إلى الاعترافات التي كان مضمونها خليطاً ما بين أنصاف الصراحة، وأنصاف التهكم على غرار التالي: "لقد تركت زيارتك إلى" تيغروفسكويه" في نفسي انطباعاً أكثر عمقاً وإيلاماً من ذلك اللقاء الذي جمعنا عند عائلة "أولينين". وداعاً يا معبودتي. ولكم ينتابني الغضب حين أجثو عند قدميك".
وهكذا راح بوشكين يواصل رسالته. كان كلما يتعمق أكثر، كانت كلماته تغدو أكثر مرحاً: "أنت تؤكدين لي أنني لا أعرف طباعك. فمالي أنا وطباعك؟ هل من المفروض أن تتمتع المرأة الجميلة بطباع وشخصية؟ أعتقد أن الأهم فيها يجب أن يكون ما تملكه من عينين وأسنان وذراعين وساقين - ولكم كنت أود أن أضيف كذلك القلب - لكن قريبتك أفسدت هذه الكلمة كثيراً".
"الغانية البابلية"
لم تكن أنّا كيرن بما كانت تتسم به من طباع هوائية، لتمسي غريبة عن بوشكين. وكان وَصَفَهَا في مراسلاته مع أصدقائه بـ "الغانية البابلية". وحدث أن كتب بوشكين إلى براسكوفيا أوسيبوفا عمة آنّا كيرن، يقول إنه سوف "يقطع كل علاقاته معها بشكل حاسم". لكنه لم يستطع، ولم يتيسر له ذلك سريعاً، وإن كانت الرسائل توقفت تدريجاً مع حلول عام 1827، حين شارفت فترة منفاه في ميخائيلوفسكويه على نهايتها. لكن بوشكين عاد والتقى مع أنّا كيرن في بطرسبرغ، ليستأنفا قصة غرامهما بما يتجاوز مجرد تبادل الرسائل، وهو ما تناول بوشكين تفاصيله في عدد من رسائله إلى صديقه سيرغي سوبوليفسكي. "أتذكر تلك الومضة الرائعة:/ أتذكر يوم ظهرت/ كما الرؤية الخاطفة/ كما الإلهام الصافي الجمال/ في ثنايا الحزن اليائس،/ بين قلق الهم الصاخب،/ ترامى طويلاً رقيق صوتك/ وتراءى جميل ملامحك./ وتمضي السنون،/ عاصفة جارفة متمردة،/ تُبَدد سابق الأحلام،/ تُنْسي رقيق الصوت،/ ملامحك السماوية،/كنتُ في البرية، ووراء القضبان/ قضيت أيامي بلا إلهام. وبلا أحلام،/ بلا دموع، وبلا حب، وبلا حياة./ وها هي الروح تصحو/ وها أنت ثانية تظهرين،/ كما الرؤيا العابرة،/ كما الإلهام الصافي الجمال/ وينبض القلب منتشياً،/ وللقلب نُبْعَث من جديد/ للإله والإلهام،/ للحياة والحب، والدموع".
ومن الطريف أيضاً في سيرة بوشكين، ما جرى العثور عليه من رسائل سجلتها بعض معارفه، فور أن علمن بصدق نيته على الاقتران بناتاليا غونتشاروفا التي سقط صريع غرامها.
ومن هؤلاء النسوة: إليزافيتا خيتروفو، ابنة القائد العسكري التاريخي ميخائيل كوتوزوف، وصاحبة أحد الصالونات الأدبية، وكانت افتتحته بعد سنوات من الإقامة الطويلة في أوروبا، ليغدو خلال فترة وجيزة مقصد النخبة المثقفة في سان بطرسبورغ. وكانت خيتروفو إحدى المقربات من صديقات بوشكين، اللاتي طالما حظين بتقديره على اعتبار أنها امرأة متعلمة وذكية ومخلصة له شديد الإخلاص. وننقل عنها ما كتبت إليه: "غداً، يمر أسبوعان منذ غادرتنا، ولست أفهم سبباً يدفعكم إلى عدم الكتابة لنا ولو كلمة واحدة. أنت تعلم جيد المعرفة، أن حبي لك يثير الألم والاضطراب. ليس من طبيعتك النبيلة أن تتركني من دون أية اخبار عنك. امنعني من الحديث عن نفسي، ولكن لا تحرمني من سعادة وجودي معك عبر رسائلك".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وها هي تواصل رسائلها إليه تحذره من مغبة احتمالات ذلك الزواج، تقول فيها: "أخشى عليك من الجانب الرمادي المبتذل من الزواج! لطالما اعتقدت أن العبقري يمكن أن يحافظ على استقلاليته الكاملة، ولا يتطور إلا في حالات الكوارث المستمرة. كنت أعتقد أن السعادة الكاملة والإيجابية والرتيبة إلى حد ما تقتل النشاط، وتتسبب في السمنة وتجعلك رجلاً جيداً أكثر من كونك شاعراً عظيماً".
ومن أنّا كيرن، إلى يليزافيتا خيتروفا، ومنهما إلى: آنا وولف، وهي إحدى المعجبات اللاتي وقعن في حب بوشكين من طرف واحد. قالوا إنها لم تكتب إليه رسائل كثيرة، لكنها كتبت بضعة رسائل كانت كافية للتعبير عن كل ما خالجها من مشاعر متدفقة قوية، وإن لم تجد ما تمس به شغاف قلبه على النحو الذي نجحت فيه أنّا كيرن. معها لم يلتزم ألكسندر بوشكين آداب السلوك واللياقة. فقد كان في ردوده على رسائلها يسمح لنفسه بما لا يليق، ولا يجوز، ومن ذلك ما كتبه على سبيل المثال: "ارْتَدِي فساتين قصيرة، لأن لديك ساقين جميلتين، ولا تتركي شعرك ينساب على وجنتيك، حتى وإن كان ذلك "حسب الموضة"، لأنك وللأسف، تفتقدين بذلك استدارة الوجه". بل ومضى إلى ما هو أبعد حين اعترف لها بحب امرأة أخرى، وكشف عن وقوعه في غرام أنّا كيرن: "كل ليلة أسير في الحديقة وأقول لنفسي: لقد كانت هنا. كما أن الحجر الذي اصطدمت به قدماي، التقطته لأضعه على مكتبي". ومع ذلك فقد أقدم على إهداء أنّا وولف قصيدته التي اختار لها عنوان: "كنت شاهداً على ربيعك الذهبي".
أنّا وولف كانت صريحة ليست فقط في اعترافاتها، ولكنها كان أيضاً كذلك في تقريعها، وفي ما اختارته من مفردات لذلك: "أوه يا بوشكين، إنك لا تستحق الحب. أخشى ألا تكون تحبني كما ينبغي؛ لقد كسرت وأذيت قلباً، لا تعرف قدره... وتظل الفتاة أسيرة العنوسة، تواصل العيش وحيدة حتى نهاية العمر في تريغورسكويه!".
على أن بوشكين كان على ما يبدو قاب قوسين أو أدنى مشغولاً أكثر بقصة الحب التي عجّلت بنهايته. تلك هي قصة زواجه بناتاليا غونتشاروفا التي اقترن بها في 18 فبراير (شباط) 1831 في موسكو التي قضي بين جنباتها "أشهراً من العسل" قبل أن ينتقل مع قرينته في مايو (أيار) من العام نفسه إلى بيتربورغ، ومنها إلى ضاحية "تسارسكويه سيلو". وهناك في "تسارسكويه سيلو" كانت نهايته إثر مبارزة مع ضابط فرنسي تورط في مغازلة زوجته، وتلك قصة أخرى.