في الرواية الثامنة له، والصادرة حديثاً (2021) عن دار نوفل، بعنوان "أحفاد نوح" يواصل الروائي والإعلامي اللبناني أحمد علي الزين تجربته الروائية، وصوغ حساسيته الدالة على عالمه، وموضوعاته الأثيرة، وشخوصه، ورحلاتهم في ديار الله الواسعة.
يستهل الكاتب روايته بمقدمة موجزة (ص:7-8)، بعنوان "الكتابة قارب نجاة" يعرض فيها لماحاً حكاية الرواية التي ينوي سرد تفاصيلها على القراء، فيما يأتي، ومفادها أن امرأة شابة تدعى "درة" قصدت السفر، "مطلع عشرينيات القرن الماضي" ناجية بنفسها وبجنينها، وباحثة عن حبيبها الغائب، على متن السفينة جنوى، حيث تلد ابنها، وسط الإعصار والنو. ويحدث أن ينتشر وباء قاتل على متن تلك السفينة، فيهلك من يهلك، وتتابع مسارها إلى جزر الكاريبي، وتحط رحالها في كوبا. وهناك تستقر المرأة، ومعها وليدها "شمس" الذي يتدرج في موهبة الرسم إلى أن يصير رساماً مشهوراً، فيعاود ترحاله، على غرار أمه، إلى موطنه الأول، ويستعيد حكاية النجاة الأولى بكل تفاصيلها المتاحة.
في الجزء الأول، بعنوان "الجرح السري"، يرسم الروائي للقراء إطار الحكاية العام المكاني والزماني؛ فيتضح أن الشخصية الرئيسة هي المرأة الشابة "درة" التي يتولى ابنها "شمس" رواية حكاية مغامراتها التي تبدأ زمن العشرينيات من القرن الماضي، وفي مدينة بيروت، وتحديداً من أحد أحيائها الملاصقة للبحر، عنيت به "الجميزة". ويفهم من سياق الوصف أن هذه الفتاة الشابة كانت سليلة عائلات روسية، استقدمت إلى لبنان لتعليم أبناء الطائفة الأرثوذكسية، في جبل لبنان، وأن عائلة "درة" كانت تقيم في قرية "مشتى الجوز"، وأن أفرادها كانوا يعلمون في المدارس الموسكوبية، أي تلك التي أنشأها الأرثوذكس وغلب عليها الطابع الروسي، في مقابل طغيان الطابع الأميركي البروتستانتي على الكلية الإنجيلية السورية في بيروت (الجامعة الأميركية اليوم).
المدن لا تفنى
بيد أن هذا الجزء، بخلاف ما يتوقع القارئ -وهذا ما بات تكتيكاً روائياً باعثاً على الفضول- يبسط الكاتب فيه حال مدينة بيروت، اليوم؛ إذ يعاود رسم صورتها بعيني الراوي "شمس" وقد بات عجوزاً، فاقداً إحدى يديه جراء أحد الانفجارات قرب كلية الفنون، حيث كان يتابع دروساً في الفنون، وناجياً من الموت مثل من بقي من أهلها حياً، ومتكئاً على عصاه. فبانت له المدينة مستلبة في روحها وأصالتها، وقد صار أبناؤها وبناتها يتكلمون خليطاً من لغات ثلاث، في مقابل أجيال عانت التهجير والخطف والقهر، نظير سيلفيا أم عامر، ونظير العراقيين المهجرين من مدينة الموصل، إثر دخول داعش إليها. يقول لهما الراوي "المدن لا تفنى، إنما تحرق وتنهب وتسبى وتتحول إلى ركام" (ص:43) ويسود أجواءها الحزن، حسب أبناء المدن هؤلاء أنهم "أحفاد نوح" والناجون من الكوارث والحروب الأهلية وجرائم القتل، والثأر أنَّى كان. و"شمس" هذا إن هو إلا فرد منهم. ولا يزال حتى يباشر جولة بانورامية لبعض تلك الجرائم، مثل تهجير عائلة سيلفيا أم عامر، واختطاف وحيدها من قبل مخابرات القوى التي كانت مسيطرة على المدينة، حتى قبيل مغادرتها البلاد، بعد اغتيال رئيس الحكومة الأسبق رفيق الحريري.
في الجزء الثاني من الرواية، وهو بعنوان "الرحيل إلى الجزر النائية"، يستعيد الراوي، أي شمس نفسه، سيرة أمه "درة"، منذ تكونه جنيناً في أحشائها، بفعل علاقة غرام خاطفة، في قرية مشتى الجوز، ونزولها إلى مدينة بيروت، في العشرينيات الأولى من القرن الماضي (1926) بعيد إعلان دولة لبنان الكبير، واشتغالها نادلة في أحد المطاعم بحي الجميزة، الملاصق لمرفأ بيروت، حيث التقت بأحد البحارة يدعى جومار، وكان الأخير رباناً لسفينة جنوى. ولكن قبل انصرافه إلى سرد تفاصيل رحلتها البحرية، يعمد الراوي أو الكاتب -أو كلاهما- إلى تبيان نقاط الشبه بين جدة "درة" إيلينا الروسية، وكيف أن الأخيرة وقعت في حب رجل من قرية مشتى الجوز، كان يلقب "بنسر صنين"، وكان مقاتلاً عنيداً مناهضاً للأتراك وظلم الإقطاع، إذ كان يقتنص المال من الأغنياء ويوزعه على الفقراء، على غرار روبن هود.
على متن السفينة
إذاً، تتحين درة الفرصة للصعود على متن السفينة "جنوى"، بل تنجح في التسلل إليها من دون علم ربانها الذي أحبها. وتتوالى الأيام والليالي، على متن السفينة، وتصادق درة امرأة اسمها ونسة بصحبة ابن لها. ولما كانت تخشى الملاحقة والإيقاع بها، وهي حامل حملاً ظاهراً، تزيَّت بزي راهبة لدى وصول السفينة إلى مارسيليا.
وفي الجزء الثالث، والأخير، يقص علينا الراوي -وهو وليد درة- الأهوال التي كابدها ركاب السفينة جنوى، ولا سيما الوباء الذي فتك بركاب السفينة، فهلك منهم من هلك، حتى ونسة هذه، صديقة درة، بعد أن كانت لها خير معين في توليدها، وسط العواصف والأنواء. وفي آخر المطاف، تبلغ السفينة جزيرة كوبا، وتمضي درة بوحيدها إلى مدينة هافانا، حيث يتعلم "شمس" ويكون زميله بالدراسة من سوف يصير زعيماً للبلاد، أعني فيديل كاسترو. ولكن العائلة الصغيرة، بحسب الراوي، لا تلبث أن تعاود الفرار من وجه العنف الذي يتوسله كاسترو للوصول إلى السلطة. وإذ تعود هذه العائلة إلى بيروت، تلاحقها سهام الفجيعة حيثما حلت، فتصاب "درة" برصاصة طائشة "أطلقها أحد في البعيد لا لغرض قتل أمي، بل كان يلعب مع آلة الموت، أو كان يطلق رصاصه ابتهاجاً بحادثة ولادة أو موت". (ص:213).
رواية "أحفاد نوح"، وهي التاسعة في عداد الروايات التي صدرت للروائي أحمد علي الزين (بعد: الطيون، وخربة النواح، ومعبر الندم، وحافة النسيان، وصحبة الطير، وبريد الغروب، والعرافة، وغيرها)، تحمل العديد من السمات الجديدة، تضاف إلى القديمة في رواياته السابقة، أوردها على توالي أهميتها وبروزها.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ومن تلك السمات الواقعية النسبية التي تبدت في تعيينه الإطار الزماني لحكاية الرواية أو حبكتها الرئيسة، والمحددة بما بين عامي (1926-2020)، وبما لا يمنع الروائي من العودة إلى أواسط القرن التاسع عشر متتبعاً جذور عائلة شخصية الرواية الرئيسة "درة"، من أصول روسية، استوطنت جبل لبنان لتعليم أجيال الأرثوذكس فيه، من خلال المدارس الموسكوبية. ولكن هذا التعيين لم يكن ليحجب الغموض المقصود، ربما، فيما خص التفاصيل، والأثاث، والأدوات الدالة على العصر، سوى أسماء أنواع من المشروبات لدى المعلم وديع، كانت النادلة "درة" تسعى إلى التعرف إليها، لتحسن سكبها في أكواب زبائن المحل. كذلك، يمكن لحظ هذا التظليل في ما خص الأماكن، ودلالتها المصاقبة على مرجعها المادي، في مدينة بيروت وغيرها. حسب الكاتب أنه يورد ما يوفي به شرط الصدقية، لا الواقعية.
ومن السمات الآنفة أيضاً توشيح أساليب السرد لديه بما يرد تلميحاً في الكتابات السردية المعاصرة، عنيت به التعليق. ولكن الكاتب، إذ يعي مقدار ما يحدثه التعليق من إعاقة لجريان القص، يعمد إلى بث أفكاره، بل وقفاته التأملية السريعة، في النجاة والناجين، وقاعدة الفجيعة التي تلاحق بني البشر وسكان المدن بالأخص، وكوزموبوليتية بيروت وتعدد منابت الوافدين إليها، وفي وباء العصبية والتخلف والعنف الثوري الأهوج الناجم بدوره عن نزعة إلى السلطة والاستبداد لا مسوغ إنسانياً لهما. وهذه كلها لا تعرف زمناً، وتخلف شعوباً من المنفيين والمهاجرين والمهجرين، أنَّى كان وحيثما حل "شمس"، الراوي وأمه. حسب هؤلاء جميعاً أنهم "أحفاد نوح" الذين، وإن ضمتهم سفينة يوماً، "من كل حي من كل ذي جسد اثنين من كل" (سفر التكوين 9/9 ت)، فإنهم كناية عن شعوب الأرض، وكل المتضايقين منهم، والمستضعفين، وضحايا الأنظمة، والقهر الجماعي، وكل أنانية فردية وجماعية.
أما الحب، في ما تتبعت الرواية وأحداثها ودلالاتها، فإن هو إلا الفلك، أو السفينة المخلصة من الموت في كل مظاهره.