Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

رحلة إلى الشرق تعبر نصف العالم وتروي ظمأ الناس لشغف لا يخبو

عيون أوروبية تغوص في حلم ينهل من تطورات السياسة وتفاقم أحداثها

مصر في نظرة استشراقية متعاطفة (غيتي)

إذا أحصينا عدد الكتاب والرسامين والمفكرين والمهندسين والمنقبين عن الآثار الذين "وقعوا في غرام الشرق بشكل أو بآخر"، لاحتجنا إلى العديد من الصفحات التي قد لا تكفي، طالما أن سحر "الشرق"، حتى وإن بهت أحياناً أمام وقائع العالم الجديدة، ومتطلبات الجغرافيا السياسية والاستراتيجية، سيظل ماثلاً في أذهان الغرب بوصفه، أي الشرق، أرض الشمس واللون وحرية الأفق المعيوش.

سياسة وسحر وتجوال

وخلال النصف الثاني من القرن العشرين كان في الإمكان ربط المفهوم المستعاد لمصطلح "الشرق" بجملة من التطورات السياسية التي طرأت على ساحة العالم منذ بزوغ فكرة العالم الثالث وصعود الاستقلالات، ثم تأكيد دول الشرق لذاتها على الساحة العالمية، وأتت بعد ذلك حروب الشرق الأوسط وأزمة النفط و"الثورة الإسلامية" في إيران وحرب لبنان ومن بعد ذلك فورات الربيع العربي التي سرعان ما خبت، ليقفز الشرق إلى الواجهة مجدداً ويصعد معه "الشرق" القديم الذي نبع من قلب ذكرى كانت أحداث العالم خلال النصف الأول من ذلك القرن قد دفعتها بعض الشيء إلى وهدة النسيان. ومع عودة "الشرق" القديم عادت كتب الرحالة تنشر من جديد، وصار للوحات المستشرقين أسعار مرتفعة في أسواق الفن.

صحيح أن هذه الظاهرة قد لا تدوم طويلاً أمام واقع عنف اليومي في الشرق على امتداد آسيا عموماً وفي المنطقة الممتدة من أفغانستان حتى الساحل اللبناني على وجه الخصوص، لكن الاهتمام بدرجاته المتفاوتة قد لا يخبو أبداً، ولقد جاء صدور كتاب ديواني جامع عن "رحلة الشرق" والتعليقات التي نشرت حوله ليؤكد أن الظاهرة لا تزال في ذروتها، والكتاب هو "الرحلة إلى الشرق: ديوان أنطولوجي للرحالة الفرنسيين في الشرق خلال القرن التاسع عشر"، ويقع في 1100 صفحة تضم كل منها أكثر من 750 كلمة، أي أن مجموع كلمات الكتاب يزيد على 800 ألف كلمة، مما يجعله أكبر "سفر" جامع في هذا الموضوع صدر حتى الآن.

أيديولوجية الاستيطان

ينطلق الكتاب من فكرة تقول إن كلمة "الشرق" كانت تحدد في القرن الـ 19حيزاً مشرقياً ينتشر من حول السواحل الشرقية للبحر الأبيض المتوسط: اليونان وتركيا وسوريا وفلسطين ومصر مع عاصمتها جميعاً، إن لم تكن مركزها، إسطنبول، ويقول الكتاب إن ذلك الحيز المكاني كان مختلطاً إسلامياً – مسيحياً يحفل بالإمارات المتناقضة، وظل حتى نهاية الحرب العالمية الأولى موضوع فتنة دائمة، ومن هنا يقول الكتاب إن الرحلة إلى الشرق كانت تمثل بالنسبة إلى الفرنسيين طقس عبور بورجوازي يتم عبره الوصول إلى حقيقة مزدوجة: حقيقة المعرفة وحقيقة الرغبة.

"صحيح أن الرحلة كانت منظومة سياحية في المقام الأول، لكنها كانت في الوقت نفسه أشبه بسفر رمزي سينتج بذريعة استيعاب إرث ما أيديولوجية حقيقية هي أيديولوجية الاستيطان الاستعماري الهادئ".

الرحلة في مسار منطقي

الكتاب فريد من نوعه فهو ليس دراسة ولا كتاب رحلات بالمعنى الخالص للكلمة، بل هو أنطولوجيا، فتماماً كما أن هناك أنطولوجيات للشعر وللمقالة وللقصة، شاء منسق الكتاب جان كلود برشيه أن يجعل من كتابه أنطولوجيا تضم مختارات معينة من كتابات الرحالة الفرنسيين الذين زاروا الشرق خلال القرن الـ 19، ومن هنا كان من الطبيعي أن نلتقي على صفحات هذا الكتاب بأصحاب كل تلك الأسماء التي اشتهرت بسفرها إلى الشرق وكتابتها عنه، من أمثال موريس باريس وغوستاف فلوبير وأوجين فرومنتين والكونتيسة دي غاسبارين وتيوفيل غوتييه وشارل مورا وجيرار دي نرفال وفولني وعشرات غيرهم.

تقسيم بحسب الأمكنة

ولقد كان اختيار واضع الكتاب صائباً حين جعل ديوانه هذا ينقسم إلى فصول مكانية، فهو يبدأ بفصل عنوانه "اقترابات" هو أشبه بكلام حول عموميات السفر إلى الشرق والأماكن المعبورة في أوروبا، ويليه فصل ثان عنوانه "اليونان" يشكل مدخلاً حقيقياً وينقسم بدوره إلى أجزاء تضم مقتطفات لعدد من الكتاب عن اليونان النيوكلاسيكية ومثلها عن اليونان المحررة، ثم عن مملكة اليونان وأخيراً عن اليونان نهاية القرن.

بعد اليونان تأتي آسيا الصغرى (جزر وسواحل بحر إيجه والجزء الشرقي من البحر الأبيض المتوسط وأزمير في داخل آسيا الصغرى وبروسا) ومع قراءة أجزاء هذا الفصل نحس بعمق اختيار واضع الكتاب الذي شاء أن يقود قارئه في رحلة تعليمية يدخله عبرها إلى الشرق عبر بوابته الغربية، دخولاً متعدد الأصوات يتبع مسار الكتاب الذين قاموا بالرحلة نفسها.

طقوس الحياة اليومية

مع إبحارنا في الكتاب متعدد الأصوات لعبور آسيا الوسطى نكون قد وصلنا إلى الآستانة (إسطنبول)، ويكاد القسم المتعلق بعاصمة السلطنة العثمانية آنذاك يشكل الفصل الأكبر من الكتاب: ففي إسطنبول يتكثف الشرق ويتخذ كل مداه، وتجتمع هنا أو تكاد كل تلك العناصر التي تم التوافق الرومانسي على أنها تشكل سمات الشرق، مثل الأعياد والناس في الشوارع والنساء المحجبات والتوابل والأسواق الصاخبة والأولاد اللاهين في حرية مطلقة والسحرة وصانعي الأحجبة ونوافير المياه في الشوارع والساحات وصيام رمضان  والمسرح ومسرح خيال الظل ومسرح الكراكوز.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

في إسطنبول نتجول مع الطبيعة برفقة بوتوسكي وشاتوبريان، ثم نزور المشاهد الرومانطيقية بأعين فوربان ولامارتين الذي تنشر له الأنطولوجية بعض أجمل الصفحات، مثل ضوء القمر، بانوراما، المساجد، نزهة على البوسفور، زيارة السراي، وعيد الليل، ومن هناك ننتقل إلى حياة الطبقات البورجوازية مع شارل رينو ومارسيل دو كام، أما ليلة رمضان فنسهرها مع دي نرفال على وجه الخصوص، وأما الكونتيسا دي فاسبارين فتعطينا وصفاً حياً لإسطنبول في عهد السلطان عبد العزيز، أما "عاصمة السلطان الأحمر" فنزورها ثلاث مرات: مرة رفقة الرحالة آبوت، وثانية رفقة برتران، أما الثالثة وهي الأجمل والأهم والأبقى أثراً، فهي الزيارة التي نقوم بها مع بيار لوتي صاحب "آزيادة".

مسيح غير الذي يعرفونه

من إسطنبول يكون الانتقال طبيعياً إلى فلسطين مهد المسيحية، حيث يتوقف الرحالة مطولاً في مدينة القدس وبيت لحم، فهم نصارى وبوصفهم نصارى في زمن صار فيه الدين، لأنه شرقي، يشكل جزءاً أساساً من مسار المعرفة، كان لا بد لهم من الحج إلى القدس، وإذ يحجون يكتشفون أن المسيح في القدس هو مسيح نوراني لا يعرفونه، مسيح آخر غير مسيحهم، مسيح ديكارت ومارتن لوثر وبابا روما. هنا يرتدي المسيح جلباباً شرقياً ويعتمر كوفية وعقالاً، فيقفون وقد خيل إليهم أن القدس نهاية العالم، ويروح كل واحد منهم متفنناً في وصف هذه الصدمة أمام "بابل المسيحية" كما تسميها الكونتيسة دي غاسباران، ولكن بقدر ما تكون الصدمة كبيرة بقدر ما يكون كتّاب مثل فوغي وبرتران قادرين على الإفلات منها، فالقدس بالنسبة إلى هؤلاء هي مدينة مثل أي مدينة أخرى، لكن لبنان الذي يكتشفه مارسيلوس (صيدا) ولامارتين (الذي يجول في كل نواحيه كما نعرف مسبقاً) ودي نرفال، هو أشبه بأسطورة رومانطيقية كبرى، ولكن على الرغم من رومانطيقيته لا ينسى بعض الرحالة من الكاثوليك الفرنسيين أن علاقات خاصة يجب أن تربط بلدهم بلبنان الذي هو "فردوس مسيحي" بدوره.

ومن لبنان إلى دمشق التي يزورها في الكتاب ثلاثة، لامارتين وموريس باريس وشارل رينو.

مصر شيء آخر

ومن دمشق إلى مصر، ومصر للرحالة هي شيء آخر، هي الشرق لكنها أفريقيا أيضاً، لكنها عراقة التاريخ الموصل إلى الفراعنة أيضاً. في مصر يرى فولني وبوتوسكي وسافاري أن نهاية ألف ليلة وليلة إنما تبدأ ها هنا، أي من الإسكندرية ومن الطريق الموصلة من رشيد إلى القاهرة، ومن حدائق رشيد والملاحة على نهر النيل وحمامات القاهرة، لكن هناك رحالة آخرين يفضلون أن يتجاوزوا حكاية ألف ليلة وليلة هذه لينظروا إلى مصر نظرة أكثر واقعية في عهد محمد علي، فتوصف لنا المدن تباعاً: رشيد، القاهرة والأهرامات، الإسكندرية، دمياط، المنصورة، ثم يحدثنا فوربان عن مشاهد على ضفاف النيل وعن وادي الملوك، فيما يحدثنا ميشو بين آخرين عن قرى الدلتا وعن شتى أنواع الترفيه في القاهرة.

وهبط الليل

غير أن هذه النظرة السياحية أحياناً والحلمية أحياناً والأدبية الرومانسية في أحيان أخرى، سرعان ما تترك المكان لحديث عن التفتيت الذي تمارسه الكولونيالية، فيحدثنا ر. دي فلير عما حل بالأسواق الشعبية القاهرية على يد الإنجليز، فيما يتحدث بيار لوتي عن موت القاهرة ومساجدها ثم عن الضواحي في الليل، "حيث النور الكهربائي في كل مكان، والمخازن تغلق أبوابها ولا بد من أن الوقت قد أضحى متأخراً وحان وقت النوم أو الرحيل.

المزيد من ثقافة