لا تبدو الأجواء السياسية التي تلت الانتخابات التشريعية المبكرة الأخيرة في العراق، مشابهة لما جرى خلال الانتخابات السابقة، خصوصاً مع المتغيرات الكبيرة التي طرأت على الأوزان البرلمانية للكتل الشيعية الرئيسة، وهو ما يعزز الترجيحات حول احتمالية كسر التوافق والمحاصصة في تشكيل سابع حكومات ما بعد سقوط النظام السابق في عام 2003.
ورافق تلبد الأجواء السياسية سقوط ثلاثة صواريخ من نوع "كاتيوشا"، فجر الأحد، بالقرب من المنطقة الخضراء التي تضم السفارة الأميركية ومقرات حكومية في بغداد، اقتصرت أضرارها على الماديات ولم توقع إصابات.
وقال مصدر أمني عراقي، إن "ثلاثة صواريخ كاتيوشا سقطت على منطقة المنصور في بغداد"، وقع أحدها "قرب مستشفى الهلال الأحمر"، والآخر "في شارع الأميرات قرب السياج الخارجي للمصرف الاقتصادي"، موضحاً أن "البناية (المصرف) مهجورة". أما الثالث فقد "سقط في بداية مدخل شارع الزيتون داخل محطة دائرة مياه إسالة المنصور".
حكومة لا تخضع لشكل النماذج السابقة
ولعل الفارق الكبير في المقاعد البرلمانية بين الكتلة الصدرية والأطراف الشيعية الأخرى، وخسارة التيارات الموالية لإيران وعلى رأسها تحالف "الفتح" قسماً كبيراً من كتلتها، سيحفز احتمالات نشوء حكومة لا تخضع لشكل التوافقات السابقة داخل البيت الشيعي.
ويطرح متابعون للشأن السياسي سيناريوهات عدة بشأن مآلات تشكيل الحكومة المقبلة، فيما يبرز سيناريو إمكانية رسم التوافقات بصياغة جديدة، خصوصاً في حال نجاح التيار الصدري في استقطاب القوى الكردية والسنية إلى جانبه.
— مقتدى السيد محمد الصدر (@Mu_AlSadr) October 30, 2021
التيار الصدري و"الإطار التنسيقي"
واستمر تصعيد اللهجة المتبادل بين التيار الصدري وبقية الأطراف الشيعية المنضوية تحت لواء ما بات يطلق عليه اسم "الإطار التنسيقي للقوى الشيعية" والذي يضم معظم التيارات الموالية لإيران.
ورأى مراقبون أن ما يجري من قبل "الإطار التنسيقي" يمثل محاولات للضغط على التيار الصدري للعودة إلى سياق التوافق داخل "البيت الشيعي"، خصوصاً وأن كل الحكومات السابقة تم تشكيلها بعد توافق غالبية الأطراف الشيعية الرئيسة.
ويبدو أن الموقف الأكثر وضوحاً من قبل الصدريين ظهر على لسان القيادي في التيار الصدري، أمير الكناني، الذي رفض الاعتراف بكيان سياسي اسمه "الإطار التنسيقي"، معتبراً إياه عنواناً "وهمياً"، فيما صعد لهجته ضد التوافق الشامل، متسائلاً في تصريحات متلفزة عن جدوى الانتخابات إذا كانت كل الأطراف ستتفق وتجمع الخاسرين والرابحين. وأضاف الكناني بلهجة متحدية، "لن نحيد عن مشروع الإصلاح على مستوى السلطتين التشريعية والتنفيذية".
في المقابل، دعا رئيس ائتلاف "دولة القانون" نوري المالكي، التيار الصدري للعودة إلى "الإطار التنسيقي". وقال في مقابلة متلفزة في 28 أكتوبر (تشرين الأول) الحالي، إن الإطار التنسيقي هو "الأقدر على تشكيل الكتلة الأكبر في البرلمان".
وكان المالكي من أوائل الداعين إلى تجاوز التوافق والذهاب نحو الأغلبية السياسية في سنوات حكمه بين أعوام 2006 و2014، إلا أنه برر تراجعه بالقول، إن "التجربة الديمقراطية لم تبلغ مرحلة النضج بعد".
وكان عضو ائتلاف "دولة القانون"، كاطع الركابي، قال إنه "من غير الممكن أن يتم اختيار رئيس وزراء لتشكيل الحكومة الجديدة من دون اتفاق الإطار التنسيقي والكتلة الصدرية"، مؤكداً أن الواقع الحالي "يفرض أن تكون هناك حكومة توافقية".
توافق بصياغة جديدة
ويبدو أن تفاوت الأوزان الانتخابية هذه المرة هو الذي سيكسر التوافقات بصيغتها السابقة، حيث يرى مراقبون أن الكتل التي حصدت الأغلبية داخل كل المكونات هي التي ستتحكم بمسار التوافقات المرتبطة بتشكيل السلطتين التشريعية والتنفيذية.
وربما لن يتمكن زعيم التيار الصدري مقتدى الصدر من القفز من التوافق الشيعي إلى الأغلبية الوطنية، وهو ما يدفع مراقبين إلى القول، إن الصدر يسعى إلى تغيير شكل التوافقات هذه المرة بطريقة الغالبية داخل المكون الشيعي، شريطة الرضوخ لاشتراطات تياره، وليس من خلال "الإطار التنسيقي" أو "البيت الشيعي".
وتؤكد تصريحات القيادي في التيار الصدري أمير الكناني عدم قبول الصدريين بتشكيل حكومة فيها حصص لكل الكتل الشيعية، ما يحفز إمكانية أن يستقطب التيار كتلاً شيعية والذهاب بها نحو بقية المكونات العراقية لتشكيل الحكومة المقبلة.
وتسود حالة من الرفض للتوافق والمحاصصة الأجواء العراقية منذ فترة، الأمر الذي يعقد إمكانية لجوء الصدر لفكرة التوافق وخذلان جمهوره من خلال إعطاء تمثيل لكل الأحزاب الشيعية.
وقال الباحث في الشأن السياسي أحمد الشريفي، إن التيار الصدري "لن يقبل مرة أخرى بسيناريو التوافق داخل البيت الشيعي أو تحت لواء الإطار التنسيقي، بل من خلال عنوان الأغلبية الصدرية واستقطاب جزء من التيارات الشيعية إليها".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وأشار الشريفي إلى أن "هذا السيناريو تم تطبيقه في البيتين الكردي والسني، حيث إن التوافق هناك تحول من تقاسم الحصص داخل المكونات إلى إطاعة الكتل الفائزة فيها"، مبيناً أن ما جرى في البيتين السني والكردي "سيحفز الصدر إلى اتباع ذات السيناريو من خلال أن يكون قائد الأغلبية الشيعية، ويصبح هو من يرسم ملامح الحكومة المقبلة".
وختم قائلاً، إن التوافقات السياسية هذه المرة ستكون على أساس "القبول بالفائز الأعلى داخل كل مكون".
كسر التوافق
وعلى الرغم من وجود ترجيحات باستمرار التوافق تحديداً داخل "البيت الشيعي"، الذي جرت العادة أن يكون هو من يختار رئيس الحكومة بعد كل انتخابات، فإن التحالفات داخل المكونات الأخرى ربما تتيح للصدر، صاحب الـ73 مقعداً، إمكانية عدم انتظار التوافق داخل الأجواء الشيعية والتحالف مع الأطراف الكردية والسنية، وفق مراقبين.
ويبدو أن تماسك البيتين الكردي والسني هذه المرة "سيشجع على كسر التوافق داخل البيت الشيعي"، كما يعبر مدير منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في مؤسسة "غالوب" الدولية، منقذ داغر، مشيراً إلى أن هذا الأمر، "سيزيد من قدرة التيار الصدري على التحالف لوحده مع الكتل الكردية والسنية ويكسر قاعدة ضرورة ذهاب الشيعة بكتلة واحدة". ورأى داغر أن هناك فرصة كبيرة في العراق لـ"كسر التوافقات التي تتشكل على أساسها الحكومات في البلاد"، مستبعداً احتمال رضوخ الصدر لاشتراطات "الإطار التنسيقي"، ومبيناً أن "ما بين الطرفين أكبر من إمكانية جمعهما في تحالف واحد".
تماسك غير حقيقي
في المقابل، اعتبر رئيس مركز "كلواذا" للدراسات، باسل حسين، أن الانتخابات الأخيرة "رسخت كل ما انتفض عليه شباب تشرين، إذ إن ما يجري حالياً يعيد الأجواء السياسية إلى تفاهمات ما بعد انتخابات عام 2005 ويرسخ الطائفية السياسية إلى حد بعيد".
وبشأن الحديث عن إعادة تكوين البيوتات الطائفية بين الكتل السنية والكردية، لفت حسين إلى أن "الحديث عن تماسك في البيتين السياسيين الكردي والسني غير ممكن، إذ إن هناك حوارات لم تصل إلى اتفاق نهائي مع وجود قدر كبير من عدم الثقة بين الأطراف السياسية في تلك المكونات". وأضاف أن "أغلب تلك التفاهمات حتى وإن عقدت فإنها ستنفرط بعد تشكيل الحكومة المقبلة وتوزيع الحصص فيها".
وذكر حسين إلى أن "أبرز العقبات التي ستواجه الكتلة الصدرية الساعية لتشكيل حكومة أغلبية سياسية هي تفسير المحكمة الاتحادية للكتلة النيابية الأكثر عدداً، فضلاً عن إمكانية الوصول إلى عتبة 165 صوتاً في البرلمان للحصول على الثقة خصوصاً مع رفض الأحزاب السنية والكردية الانضمام إلى طرف شيعي على حساب الآخر حتى الآن". وختم حسين بالقول، إن "ما يمنع الأطراف الكردية والسنية من الدخول في تحالفات مع الأطراف الشيعية، هي الخشية من الدخول في آتون صراع شيعي- شيعي سيكلفهم الكثير".