Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

بلاد المغرب عرفت نخبة من المتصوفات يضاهين المشرقيات

كتاب جديد يلقي ضوءا على تجارب فريدة بدءا من القرن الخامس الهجري

لوحة للرسام السوري عايش طحيمر (صفخة الرسام على فيسبوك)

لئن اهتمت المدونة الصوفية في بلاد المغرب بتدوين سيرة المتصوفة من الرجال وعنيت بتراجمهم، وجمعت نصوصهم، فإنها أهملت، أو تكاد، ذكر التجربة النسائية الصوفية على أهميتها وحضورها وإشعاعها. واللافت أن هذا الإهمال لا يقتصر على أدب المناقب وإنما يشمل مختلف الروافد الأخرى، وأهمها أدب التراجم الذي لم يولَ عناية كبيرة بالتجربة النسائية مقارنة بالعناية الكبرى التي أولاها لتجارب المتصوفة من الرجال.

وهذا ما حاول تداركه كتاب علاء الأسود "النساء الصالحات في المدونة المنقبية لبلاد المغرب من بداية القرن الـ5 ه/11م إلى نهاية القرن الـ9ه/15م" الذي يدور حول التجربة الصوفية للمرأة المغاربية وكيفية تمثلها لهذه الثقافة الروحية، متطرقاً، في الوقت ذاته، إلى أماكن التعبد، كالرباطات والمساجد، ومستعرضاً أنواع العبادات الروحية الجماعية والفردية التي كانت تنجزها المرأة المتصوفة من أجل الارتقاء في معارج المكابدات الروحية.

في بلاد المشرق

يستهل الكاتب مؤلفه بالحديث عن ظاهرة التصوف النسائي في بلاد المشرق، لا سيما وأنه مثل النموذج والمعيار الذي اقتفت أثره المتصوفات المغربيات، فأشار إلى أنه منذ المئة الثالثة هجرية تحدث الجاحظ في كتاب "الحيوان" عن فئة من "الناسكات المتزهدات من النساء المذكورات في الزهد والرياسة"، وقد ذكر أسماء بعضهن.

نجد في أوائل المئة الرابعة هجرية في "كتاب التعرف لمذهب أهل التصوف" إشارة إلى رابعة العدوية. ثم توالت المصنفات التي تحدثت عن ظاهرة التصوف النسائي بدءاً من القرن الخامس لعل أهمها كتاب "ذكر النسوة المتعبدات الصوفيات" لصاحبه عبد الرحمن السلمي.

أما في بلاد المغرب، فنجد إشارات في بعض المصنفات الصوفية إلى تجارب صوفية مبكرة لدى المرأة المغاربية. ويبدو أن الظاهرة تعود إلى القرن الثالث حين تأثرت الأميرة الأغلبية مهرية أخت الأمير الأغلبي أبي عقال، بمبادئ التصوف فتركت حياة القصور والتحقت بأخيها في مكة المكرمة.

في كتاب "معالم الإيمان" نعثر على أسماء نساء صوفيات مغربيات عديدات كابدن تباريح هذه التجربة وتشربن مبادئها ويؤكد عددهن المرتفع أن هذه الظاهرة باتت منتشرة في كل بلاد المغرب.

 المتصوفات والحياة السياسية

تبدو علاقة المتصوفات بأصحاب النفوذ علاقة "مصالح"، فقد سعى السلاطين إلى كسب ودهن بعد أن أدركوا مكانتهن داخل المجتمع، وهو ما فتح لهن الطريق للمشاركة في الحياة السياسية بالاستشارة وإطفاء الفتن تارة، ولعب دور الواسطة تارة أخرى. فهذا السلطان الحفصي يصف عائشة المنوبية بأنها "شمعة بلادنا"، مما يدل على اعترافه بمكانتها وولايتها، وهذا حاكم البلاد التونسية يبتدئ حملاته بزيارتها. بل ربما وجدنا من المتصوفات من تتدخل في قرار السلم والحرب، فهذه عزيزة السكسوية التي أمرت صاحب مراكش عامر محمد الهنتاتي، وهو من العظماء ورؤساء الدنيا، على حد عبارة ابن قنفذ، بالرجوع عن محاربة أحد الخارجين عن طاعته في ستة آلاف جندي، واعدة إياه بأنها ستتدخل عند هذا العدو ليدخل من جديد تحت طاعة حكمه. فعاد الجيش القهقرى وأعلن العدو الصلح واستجاب لشروط صاحب مراكش.

لكن قد يشوب أحياناً العلاقة القائمة بين السلطة والنسوة المتصوفات بعض التوتر. فقد نسب المؤرخون إلى المنوبية انتقامها من أحد الخلفاء الجائرين آذى أحد علماء إفريقية بالحبس، كما عمدت إلى عزل بعض العمال الظالمين.

علاقة المتصوفات بالحياة الاجتماعية

تذكر المصادر عدداً من النساء المتصوفات قد وقفن تجربتهن الصوفية على التعبد والخشوع والتورع عن امتلاك الأموال والانقباض عن السلطان، وربما اعتزال الناس في كثير من الحالات، لكن عدداً منهن أسهم مساهمة فاعلة في الحياة الاجتماعية فساعد الفقراء، وفك رقاب الأسرى وفتح الكتاتيب لتعليم الناشئة.

إن نشاط المرأة الصوفية في المدينة لم يكن ليختلف عن نشاطها في البادية. فرغم اختلاف البنى والهياكل، ورغم أن القرب من سدة الحكم من شأنه أن يحدد حجم العلاقات، فإن النساء الصوفيات قد قمن بالدور نفسه مع مجتمعهن فخدمن الغريب والمريض، وأطعمن المساكين، وفرقن الصدقات وأخذن حق المظلومين. وفي الكتاب أمثلة كثيرة ضربها المؤلف تؤكد هذه العلاقة المتميزة التي جمعت المتصوفات بمجتمعهن.

الحياة العلمية

ينسب المؤرخون إلى عدد من المتصوفات حضور مجالس العلم وارتياد حلقات الدرس. فهذه أم ماطوس من المواظبين على مجلس العلماء تحضره باستمرار ولم يثنها عن ذلك حملها ولا ظلمة الليل. ووردت الإشارة إلى إقبال المتصوفات المكثف على مجالس العلماء، فنجد بعضهن يأتين بأولادهن وأخريات يغزلن الصوف في المجلس. ولئن أقبلت بعض المتصوفات على العلم وحظين بنصيب منه يتفاوت من واحدة إلى أخرى، فإنهن لم يقدمن، في الأغلب الأعم، على الكتابة والتأليف. فكل ما لدينا جملة من المرويات أو الأقوال تنسب إليهن. وهذه المرويات والأقوال التي اجتازت القرون حتى وصلتنا، تعد على ندرتها، مصدراً ثميناً لدراسة تجربة النساء المتصوفات.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

احتفظت لنا كتب التصوف ببعض الشذرات التي تنسب للنسوة المتصوفات، وهذه الشذرات تذكر القارئ بشذرات الحلاج والنفري وابن عربي. إنها اللغة نفسها، الفردوسية المفعمة بالرموز والصور والإيقاع، وفيها يمتزج المعجم الغزلي العربي القديم بالمعجم العشقي الصوفي، امتزاج تداخل وتواشج. ولعل أجمل الشذرات تلك التي نسبت إلى عائشة المنوبية التي عرفت بأنها من أهل الجذب، وهي التي كانت تردد أنها "شربت من بحر الحب ودخلت باب القرب... وتجلى لي المحبوب فحصلت من حيني على المقصود وظفرت بالمطلوب". وكانت تردد "أنا قلبي غائب منذ سبعين عاماً".

هذه الحال من الانجذاب التي ألمت بعائشة المنوبية هي ما اصطلح عليه عند المتصوفة بـ"جذب الأرواح"، وهو "ما يكون عليه العبد من سمو القلب والمناجاة والمخاطبة والمشاهدة وما يشاكل ذلك مما يبدو عليه من أنوار مما يدل على مقدار قربه وبعده وصدقه في وجده".

ورغم أهمية هذا الكتاب الذي التزم منهجاً علمياً واضحاً يبقى تاريخ التصوف النسائي في بلاد المغرب، مجالاً بكراً ينتظر من يقتحم صعابه ويسبر أغواره، ونأمل كما قال المؤلف، أن تشكل هذه الدراسة لبنة أولى من لبنات عمل كبير يهتم بالدور الذي نهضت به المرأة المسلمة في تأسيس هذه التجربة الروحية وترسيخها في العقول والأذهان.

                                                                                                                                    

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة