Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"الهدف الرهيب" كشف "الكتالوغ" السري لسعادة المصريين

حلاوة الحياة في العرف الشعبي أبعد ما تكون عن المبالغة والتعقيد وفي الوقت ذاته بعيدة تماماً عن البساطة في التفسير

مشاهدة مباريات كرة القدم إحدى وسائل السعادة لدى المصريين  (أ ف ب) 

كان الهدف مذهلاً، وفي أقوال أخرى كان خرافياً، وفي ثالثة كان تاريخياً أو رهيباً أو ساحراً. روعة الهدف الرائع الذي سجله اللاعب المصري المحترف في نادي ليفربول الإنجليزي في مرمى مانشستر يونايتد في الدوري الإنجليزي قبل أيام لم يكشف عن روعة أداء اللاعب الذي يعشقه المصريون فقط، أو روعة الاستقبال الذي يحظى به من قبل جماهير المشجعين في بريطانيا والعالم فقط، بل كشف الستار والغطاء والحجاب عن روعة مفهوم السعادة في عرف ملايين المصريين.

المصريون حيروا العالم. نصف العالم يقول إنهم أكثر شعوب الأرض سعادة لأنهم ملوك النكتة والضحك حتى على أنفسهم، ونصف العالم يؤكد أنهم أكثر شعوب الأرض بؤساً، لأنهم ملوك الشكوى والتضرر والتبرم، إن لم يكن على حالهم فعلى حال آخرين لا يعرفونهم من الأصل.

الحزينة إذ تفرح

أصل الأمثال الشعبية المتعلقة بمزاج المصريين ومدى سعادتهم بدءاً بـ"شايل طاجن سته" (لفرط الهم والكدر)، مروراً بـ"جت الحزينة تفرح مالقتلهاش مطرح" (لم تجد الحزينة مكاناً بين الفرحين)، وانتهاء بـ"فشته عايمة" (يضحك بشكل مفرط) غير محدد أو مؤكد، لكن المؤكد أن مفهوم السعادة والوجه الآخر له حيث البؤس والحزن والهم يشغل بالهم، إن لم يكن فكراً أو قولاً فعبر ملامح الوجه ومكنون النفس.

وملامح الوجه ومكنون النفس في الشارع المصري منذ هدف محمد صلاح طرأ عليها تغيير وتحديث. خليط من السعادة والزهو بادٍ على الوجوه. والزهو، وهو مكون من مكونات السعادة، عظيم. إنه علاج المنهكين، وفيتامين المستضعفين، وبلسم المحبطين، وبهجة المطحونين.

سعادة مفاجئة

إيمان (عاملة النظافة) استهلت عملها في بيت "مدام نيهال" في اليوم التالي للهدف بابتسامة نادرة ودعابة عابرة لم تعبر طيلة سنوات عملها. علي (موظف البنك) استقبل العملاء بود بالغ وترحيب واضح وكلاهما على غير عادته. تامر ورفاق أفراد الأمن في المجمع السكني أقاموا وليمة فول وفلافل عظيمة تخللها ضحك كثير وفرح كبير على الرغم من هموم الدنيا التي يحملها كل منهم. جموع المنظرين والمنظرات الجالسين أمام شاشات "فيسبوك" و"تويتر" خطوا التدوينات وكتبوا التغريدات التي تعلن أن "الشعب المصري سعيد" وكل منهم يشرح الأسباب ويفند العوامل في ضوء هدف محمد صلاح الرهيب!

رهبة السعادة وستر ربنا

الرهبة التي يشعر المصري إذا تسربت إليه مشاعر السعادة هي جزء من المعادلة الغامضة. وخير ما يبرهن على ذلك هي الجملة الدستور في عقيدة كل مصري ومصرية في نهاية كل موجة ضحك من القلب "خير اللهم اجعله خير. استر يا رب". ستر الرب المطلوب والمبتغى، الذي يعكس شعوراً بالقلق جراء السعادة يفتح أبواب السؤال عما يسعد المصريين على مصاريعها.

مصاريع أبواب السعادة تقول إنها من أكثر المفاهيم التباساً واختلافاً في العالم. فبينما أفنى فلاسفة ومنظرون وعلماء نفس واجتماع واقتصاد وسياسة وروحانيات أعمارهم في الكتابة عن السعادة، تارة لشرحها وأخرى لخلطها بالرضا، وثالثة للتخفيف من وطأة عدم الشعور بها، سار المصريون في طريق مغاير تماما،ً معالمه مجهولة وملامحه مطموسة وشفرته تبقى سرية لا يعلمها إلا الله وأهل البلد.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

بلدان العالم وشعوبها تتفق على وجود مفهوم اسمه "السعادة"، لكن المكونات تختلف من شعب لآخر ومن جيل لغيره. ولذلك فإن مؤشرات السعادة السنوية التي تصدرها جهات عدة تقول إنها تقيس السعادة لدى شعوب الأرض وتخرج بقوائم تحوي "أسعد الشعوب" و"أكثرها بؤساً" عادة تفتقد مكون الخصوصية الذي لا تعيه المعايير العامة والقياسات الموحدة والمعممة.

مؤشرات جامدة

تعميم يوم 20 مارس (آذار) من كل عام يوماً عالمياً للسعادة والمعتمد من قبل منظمة الأمم المتحدة منذ عام 2012 بات يصحبه في كل عام تقرير لقياس مؤشرات السعادة في العالم. وهو ليس التقرير الوحيد، ومؤشرات الأمم المتحدة أيضاً ليست الوحيدة، لكن أغلب المؤشرات الموحدة المعتمدة للقياس في بلدان الكوكب لا تخرج عن الإطارات الأممية الستة: نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي، ومتوسط العمر، وحرية اتخاذ القرارات، وجودة الخدمات الصحية والتعليمية، وانعدام الفساد، وانتشار العدل.

وبحسب أغلب تقارير السعادة العالمية، يأتي المصريون في الثلث الأخير من القائمة. إلا أن واقع حال السعادة في الشارع المصري يشي بمؤشرات مختلفة وبالتالي نتائج مغايرة لوضع المصريين من حيث السعادة.

ما الذي يسعدك؟

"ما الذي يسعدك؟" سؤال توجهت به "اندبندنت عربية" لعدد من المصريين وجاءت الإجابات متوقعة لمن يعرف التركيبة المصرية، ومفاجئة لمن لا يعرفها. "كوب شاي ساعة عصاري"، و"ستر البنات" (زواجهن)، و"سيجارة حشيش"، و"شقة أكبر لي وللأولاد"، و"بيت بحديقة"، و"أنتهي من دراستي"، و"مليون جنيه"، و"أتعرف إلى فتاة جميلة"، و"ضحكة أبنائي"، و"فنجان كابتشينو بدون إزعاج"، و"فيلم عربي أبيض وأسود"، و"نزهة مع الصديقات بدون الأزواج"، و"فيلا في الساحل الشمالي"، و"أطلق زوجتي وأتزوج هيفاء وهبي"، و"كيلو كباب وكفتة" كانت أبرز مكونات السعادة.

كباب وكفتة

"الكباب والكفتة" وما يمثلانه من فكرة "الأكلة الحلوة" التي تتسبب في السعادة ليست مبالغة مصرية بل حقيقة خالصة. فيلم "الإرهاب والكباب" لمؤلفه وحيد حامد وبطولة عادل إمام لخص مكانة "الكباب والكفتة" من منظومة السعادة المصرية. الفيلم لخص التباس السعادة وصعوبة فهمها من قبل غير المصريين. فحين وصلت الأحداث في الفيلم إلى الذروة، وطلبت وزارة الداخلية من جموع المواطنين داخل مبنى المجمع الشهير ظناً منها أنهم احتلوا المبنى ويهددون بتفجيره أن يحددوا مطالبهم، وعلى الرغم من أن كلاً منهم أتى إلى "المجمع" لحل معضلة ضمن عشرات المعضلات التي تعكنن عليه حياته الغارقة في المشكلات، فإنهم حين سئلوا عن طلباتهم، وقعوا في حيرة بالغة. وأمام تراوح الطلبات بين نقل الأبناء من مدرسة بعيدة عن البيت إلى أخرى قريبة، إلى الحصول على دواء مرتفع الثمن، إلى حبس الزوجات اللاتي يشكين أزواجهن في أقسام الشرطة، إلى العدل على منصات القضاء، اتفق الجميع على أكلة كباب وكفتة مع كثير من السلاطات والطحينة. فالمصري يسعد كثيراً بأشياء لحظية: أكلة حلوة، قعدة حلوة، كوب شاي، نكتة حلوة، حلوة، ملابس جديدة حلوة، إلى آخر قائمة الأشياء الصغيرة الحلوة.

صانع السعادة

حلاوة الحياة وسعادتها في العرف المصري أبعد ما تكون عن المبالغة والتعقيد، لكنها في الوقت نفسه بعيدة تماماً عن البساطة في التفسير. أغلب من سألناهم عن السعادة ذكروا "الهدف الرهيب". والمفاجأة أن السعادة التي ظهرت على الوجوه في الشارع المصري منذ تسديد الهدف تشير إلى مشاعر الزهو والفخر والاعتزاز بأن "المصري" محمد صلاح هو من أحرزه.

كثيرون يسمون محمد صلاح "صانع السعادة"، وهو بالفعل كذلك. لكن كثيرين أيضاً يحتارون بل يشعرون بتوتر حين تسألهم عما يجعلهم سعداء. وبعيداً عن "الهدف الرهيب" الذي حقق سعادة قصيرة العمل لملايين، فإن المجتمع المصري عامر بخلط كبير بين مفهومي الرضا والسعادة. وفي العقود القليلة الماضية، تمت إضافة مكون ديني للرضا حتى تحول عدم الشعور به إلى ما يشبه الذنب الذي يحمله صاحبه. لذلك حين يُسأل أحدهم إن كان سعيداً في حياته، يبادر عادة بالقول، "رضا، الحمد لله" ثم يسرد قائمة هموم وغموم لا حصر لها.

التضحية والأنانية

من جهة أخرى، جرى العرف في مصر على ربط مفهوم السعادة بالتضحية في سبيل الآخرين لا سيما الأبناء. أما مفهوم السعادة الفردي فليس من الأمور الشائعة، بل يعتبره كثيرون أنانية عظمى وخطأ كبيراً، لا سيما في حال كان أباً أو أماً، إذ السعادة في سعادة الأبناء.

لذلك، جمع "الهدف الرهيب" الأبناء والأهل في خانة سعادة واحدة من دون شعور بالذنب أو التقصير. لكن يظل هذا الهدف وغيره من الأهداف السابقة واللاحقة نقاط سعادة لحظية في ظل غياب مفاهيم السعادة المستدامة.

في تقرير السعادة السنوي الصادر عن الأمم المتحدة هذا العام، جاءت فنلندا ثم الدنمارك وبعدها سويسرا وأيسلندا وهولندا على رأس قائمة أسعد دول العالم، وتبوأت أفغانستان مكانة أتعسها. ولاحظ معدو التقرير أن شعوب أكثر من ثلث دول العالم عبرت عن مشاعر سلبية بقدر أكبر بكثير عن الأعوام السابقة، وهو ما تم تفسيره في ضوء آثار الوباء. وجاءت مصر في المرتبة الـ132 من بين 149 دولة، وهي المعلومة التي أدهشت كثيرين نظراً إلى سرية كتالوغ السعادة المصري وتشابك مكوناته والخلطة السحرية لسعادة أهداف الكرة بالأكلة الحلوة بسعادة الأبناء.

اقرأ المزيد

المزيد من تحقيقات ومطولات