المتجوّل في أرجاء الفضاءات التجارية الكبرى المنتشرة في المدن التونسية وكذلك مختلف المحلات، بخاصة بيع الملابس والأحذية، يلاحظ عشرات الأنواع والأصناف من السلع والبضائع الأجنبية التي اكتسحت المشهد التجاري التونسي.
وعلى امتداد العقد الأخير غزت المنتوجات الاستهلاكية الأجنبية، بخاصة التركية والصينية، تونس، بأسعار لا تقبل المنافسة من نظيرتها المحلية، ما جعل المواطن البسيط يُقبل على هذه السلع ذات الجودة المتدنية.
ويمثل إغراق السوق التونسية بمنتوجات أجنبية لها مثيل محلي خطراً داهماً يهدد النسيج الصناعي والتجاري، إذ يؤدي ذلك إلى تدمير مواطن الشغل بطريقة غير مباشرة، ويقضي على نسيج صناعي أضحى هشاً، تأسس منذ سبعينيات القرن الماضي، وأسهم في بناء الدولة الحديثة.
ولئن يجد المواطنون مبرراً معقولاً لاقتنائهم وتفضيلهم الأجنبي على التونسي المنحصر في الجودة والسعر المناسب فإن المسألة أصبحت وعلى لسان العديد من المحللين والمختصين التونسيين تنذر بخطر كبير تجسّد في "تفاقم العجز التجاري جراء توريد منتوجات، تونس في غنى عنها".
وانتشرت أخيراً دعوات من طرف عدّة محللين ومختصين ومنظمات اقتصادية إلى الإقبال على استهلاك البضائع التونسية، كحلّ للحد من العجز التجاري والتوريد، بالتالي الدفاع عن الدينار الذي يشهد انهياراً متواصلاً منذ سنوات.
ووفق هؤلاء المحللين فإن تونس بإمكانها التقليص بما قيمته 2.5 مليار دولار من عجز الميزان التجاري بوقف توريد منتوجات ومواد، أكدوا أنها "غير ضرورية، ويمكن الاستغناء عنها".
مطالبة بمراجعة الاتفاقيات التجارية
ووفق بيانات المعهد الوطني للإحصاء (حكومي)، بلغ عجز تونس التجاري مع تركيا 900 مليون دولار في 2021، وهو ثالث أكبر عجز للبلاد بعد الصين وإيطاليا.
وتشكو تونس من تفاقم غير مسبوق للعجز التجاري، بسبب تراجع الصادرات وتوسع واردات المواد الأولية، ما يسبب ضغطاً متواصلاً على رصيد البنك المركزي من العملة الصعبة، ويهدد الدينار بالانزلاق أمام اليورو والدولار، في ظل أزمة اقتصادية وسياسية تتخبط فيها البلاد.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وتفاقم العجز التجاري في تونس نهاية يوليو (تموز) 2021، ليبلغ 3.09 مليار دولار مقابل 2.6 مليار دولار خلال الفترة نفسها من 2020، وفق بيانات المعهد الوطني للإحصاء.
ويطالب مهتمون بالشأن الاقتصادي بمراجعة الاتفاقيات التجارية، التي تتسبب في توسع العجز التجاري أو فرض رسوم جمركية على سلعها، من أجل تحسين الشراكة التجارية بين البلدين التي لها تعامل تجاري واسع وغير متكافئ مع تونس، ومن أهمها تركيا والصين.
وأمام تنامي العجز التجاري، لا سيما في عدد من المواد الاستهلاكية غير الضرورية، شرعت وزارة التجارة وتنمية الصادرات في ظل تردي الأوضاع الاقتصادية والمالية للبلاد ومطالبة المحللين الاقتصاديين وأحزاب سياسية بوقف العمل بهذه الاتفاقيات التجارية التي وصفوها بـ "المسمومة"، في الاشتغال على مراجعة بعض الاتفاقيات التجارية، منها مع تركيا.
وفي هذا الصدد قالت سعيدة حشيشية، المديرة العامة للتعاون التجاري والاقتصادي في وزارة التجارة، إن تونس بدأت منذ 2018 فرض رسوم جمركية على نحو 90 في المئة من المنتجات التركية، في إطار ما تسمح به الاتفاقيات التجارية المبرمة بين البلدين.
وبيّنت حشيشية، أنّ بلادها تُجري مباحثات مع شركائها، للنظر في مراجعة اتفاقيات تجارية وفقاً للسياسات العامة للدولة. مرجحة عقد اجتماع مع الجانب التركي في الفترة المقبلة، لبحث سبل تخفيض العجز التجاري.
التشجيع على الإقبال على المنتج التونسي
وأقر مراد بن حسين، المدير العام للمعهد الوطني للاستهلاك (حكومي)، بأن هناك تبايناً بين التونسيين في الإقبال على المنتوج المحلي، ملاحظاً أن الغالبية يقبلون على المنتوجات الغذائية المصنوعة في البلاد من منطلق الوعي بالمسائل الصحية، مقتنعين بأنها تحمل نوعاً من الأمن الصحي والمراقبة الصحية الصارمة على عكس المستوردة، وما يرافقها من لغط حول مصدرها واحترام المعايير الصحية، مشدداً في الوقت نفسه على أن الرقابة الصحية في تونس، لا سيما على المواد الغذائية تعد صارمة.
وبالمقابل اعتبر أن عدداً هاماً من التونسيين يحبذون اقتناء الملابس الأجنبية، نظراً لأنها تمثل العلامات التجارية العالمية الذائعة الصيت، بخاصة أن أسعارها لا تختلف كثيراً عن المصنوعة محلياً.
وعن تغذية الحس الوطني بوجوب تشجيع التونسيين على استهلاك منتوجات بلدهم، قال مراد إن المعهد وقع يوم 6 أبريل (نيسان) اتفاقية شراكة مع المنظمة التونسية للدفاع عن المستهلك (مستقلة) تتضمن العديد من الأنشطة، من ضمنها تنظيم حملات للتشجيع على استهلاك المنتوج التونسي، لا سيما في ظل الظروف الاقتصادية الصعبة التي تمر بها البلاد.
وأبرزت نتائج آخر بحث ميداني أنجزه المعهد الوطني للاستهلاك عام 2017 أن 29.5 في المئة فقط من التونسيين يفضّلون المنتوج التونسي على نظيره الأجنبي.
وبمقارنة مع المجتمع الفرنسي، فإن 76 في المئة من الفرنسيين يفضلون المحلّي على المورّد، وأن 8 في المئة فقط من التونسيين يعرفون الترقيم الخاص بالمنتوج الوطني (الترقيم بالأعمدة) وفق ذات البحث.
وبالنسبة للأفضليّة للمنتوج التونسي على الأجنبي (29.5 في المئة)، فإنّ هذا النزوع يوجد بنسبة 43 في المئة لدى لفئة العمرية 60 سنة وأكثر، وبنسبة 18.7 في المئة لدى البالغين 20 - 29 سنة.
أمّا بالنسبة إلى الفئة التي تختار المنتوج الأجنبي، فإنّ ذلك يعود لاقتناعهم بأنه أفضل بنسبة 31.8 في المئة، ولعدم ثقتهم في جودة وسلامة المحلي بنسبة 27.9 في المئة.
كما أنّ 45.9 في المئة من التونسيين غير مستعدين للدفع أكثر لشراء منتوج أجنبي بداعي أنّ المستورد أفضل. ويوجد 30.7 في المئة من التونسيين مستعدون لشراء المحلي أغلى من الأجنبي فقط لأنّه تونسي.
وخلصت نتائج البحث إلى ضرورة التركيز على فئة الشباب من أجل دعم إقبالها على المنتوج الوطني، ومواصلة العمل من خلال حملة وطنية تنخرط فيها الهياكل والجمعيات.
مزيد من تطويق العجز التجاري
ويرى محسن حسن، وزير التجارة الأسبق، أن تونس تعيش أزمة اقتصادية ومالية غير مسبوقة، وأنه من بين أسباب هذه الأزمة الكارثية هو "توسع العجز التجاري مع عدد من البلدان، بخاصة مع تركيا والصين".
وقال إن الحل لتلافي هذا العجز هو "حماية النسيج الاقتصادي الوطني ومراجعة بعض الاتفاقيات على غرار اتفاقية التبادل الحر مع تركيا، التي وقعت مراجعتها السنة الماضية، جزئياً"، مبرزاً أنه يجب "تعديل الفصل 17 من الاتفاقية التجارية مع تركيا، إذ يمكن الدولة التونسية من اتخاذ إجراءات حمائية والحد من توريد بعض المواد الاستهلاكية".
من جانبه شدد محسن بن ساسي، رئيس الجامعة المهنية لتجار الأقمشة والملابس الجاهزة بمنظمة الأعراف التونسية، على أن التشجيع على استهلاك المنتوج التونسي يمثل في الظرف الراهن "ضرورة وليس خياراً"، وهو مرتبط بدرجة وعي التونسي اليوم وأكثر من أيّ وقت مضى، مطالباً بالتضامن الاقتصادي الحقيقي بالإقبال على شراء منتوج بلاده.
ولفت بن ساسي إلى العديد من الدول التي خرجت من تداعيات الحروب والأزمات الاقتصادية بتكاتف شعوبها والتحامها في ما بينها واقتصرت على اقتناء منتوج بلادها من أجل أن تنهض صناعتها وتزدهر أكثر، مستدلاً على ذلك بألمانيا واليابان على أثر الحرب العالمية الثانية.
وعبّر عن تذمره من اكتساح العديد من العلامات التجارية الأجنبية لتونس، لا سيما في قطاع الملابس الجاهزة، التي أثرت بشكل لافت في النسيج الصناعي والتجاري لصناعة النسيج في البلاد، كاشفاً أن العديد من التجار ومصانع النسيج قد أشهروا إفلاسهم.
وأكد بن ساسي أن الوضع الاقتصادي للبلاد في غاية من الدقة والحساسية، ويتطلّب مضاعفة الجهود من أجل إنقاذه الذي قد يكون الترفيع من نسق استهلاك المنتوج المحلي من بين الحلول العملية والهامة لتنشيط الحركة التجارية، وإحداث حلقة اقتصادية متكاملة العناصر، انطلاقاً من تعزيز نشاط الوحدات المختصة في المواد الأولية، وتشغيل الوحدات الإنتاجية، ومروراً بإعادة الحياة إلى التجار، بخاصة الصغار منهم، الذين يعيشون حالة كساد مهمة في هذه الفترة، ووصولاً إلى المستهلك الذي سيكون المُنشّط الرئيسي للدورة الاقتصادية.