في أواخر عام 1965 وبعد أن شاهد فيلم "بيارو المجنون" أكثر من مرة، نشر الشاعر الفرنسي لوي آراغون مقالاً في الصفحة الأولى من مجلته "الآداب الفرنسية" انفجر كالقنبلة وسط الحياة الثقافية، معلناً نوعاً من تبني الشاعر الشيوعي، بل الستاليني حتى بالنسبة إلى عدد كبير من مناوئيه، لذلك الذي كان واحداً من الأفلام المبكرة التي حققها الفرنسي – السويسري جان لوك غودار في ذلك الحين. ولقد بدا المقال مشاكساً ومفاجئاً منذ عنوانه الذي يقول في "مانشيت" على عرض الصفحة "ما الفن، جان لوك غودار؟"، متبعاً ذلك بتحليل تقريظي لن يحظى غودار بما يماثله بالنسبة إلى أي من أفلامه التالية. والطريف أن هذا الموقف من شاعر كبير أثار غيظ بطل الفيلم جان بول بلموندو، الذي كان قد استاء أصلاً من كون التركيز قد انحصر بالنسبة إلى النقاد وكذلك الأمر بالنسبة إلى الجمهور الأكثر ذكاء الذي أسرع لمشاهدة الفيلم، على المخرج الذي كان زعيماً للموجة الجديدة في ذلك الحين، وليس عليه كنجم شعبي صاعد. ومن هنا فضل بلموندو، الراحل عن عالمنا قبل أيام، ألا يذكر هذا الفيلم في أحاديثه الصحفية طوال سنوات.
الموت يعيده إلى الواجهة
ومع ذلك، حين جرى الحديث بوفرة عن بلموندو خلال الأيام الأخيرة لمناسبة رحيله، تذكر كثر هذا الفيلم بالتحديد إلى جانب نصف دزينة أخرى من أفلام مثلها بلموندو تحت إدارة غودار وزملائه من كبار المخرجين – المؤلفين في السينما الفرنسية، من أمثال لوي مال وآلان رينيه وكلود شابرول، متناسين مئات من أفلام أخرى شعبية له. ومن المؤكد أن هذا الأمر ما كان من شأنه أن يرضيه، هو الذي كان يغيظه دائماً أن تعزى "أفلامه" إلى أولئك المخرجين الذين تحولوا نجوماً مع الزمن. والحقيقة أن "بيارو المجنون" يبقى في مقدمة تلك الأفلام على الرغم من أنف "بطله". بل يمكننا أن نقول اليوم بكل بساطة إنه كان ويبقى واحداً من الأفلام الفرنسية الأكثر حداثة ودينامية، وربما أيضاً الفيلم الذي تمكن من تصوير ذهنية أواسط سنوات الستين في فرنسا، على الرغم من أنه مقتبس في الأصل من رواية أميركية للكاتب ليونيل وايت، الذي كان قد رفض بيع حقوقها السينمائية لأي مخرج، ما اضطر غودار إلى "الاستيلاء" عليها، محوراً أسماء شخصياتها وأماكن أحداثها، زاعماً في طريقه أنه ارتجل السيناريو يوماً بعد يوم وبدّل معظم الحوارات في عمل ارتجالي مع ممثليه وحتى مع مصوره راؤول كوتار... بيد أن تاريخ الفيلم سيقول لنا إن هذا كله لم يكن صحيحاً، ذلك أن غودار كتب وقبل بدء التصوير بأشهر، سيناريو محكماً وحوارات تضج بالحيوية، مبتكراً لمشروعه حكايات جانبية وتفاصيل ثقافية لا علاقة لها بالكاتب الأميركي الأصلي، الذي لن نعرف أبداً كيف نظر إلى فيلمه في نهاية الأمر.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
هل فهم آراغون الفيلم؟
غير أن هذا كله لا يبدو فائق الأهمية اليوم بل لم يبد كذلك منذ فجّر آراغون قنبلته التقريظية في ذلك الزمن المبكر، رابطاً منذ عنوان مقالته بين الفيلم والفن وغودار بشكل فاجأ الجميع بمن فيهم غودار نفسه، الذي لم يكن يتوقع لفيلمه "الفوضوي من ألفه إلى يائه" أن يحظى بمثل ذلك التقدير. ولسوف يقول غودار بشيء من المزاح حينها إنه يشك "في أن الشاعر الكبير قد فهم الفيلم!". ومهما يكن من الأمر الآن، ها هو ذا "بيارو المجنون" حاضر بقوة وكما كان دأبه على الدوام في تاريخ السينما الفرنسية، لا سيما منذ أعيد ترميم نسخته السالبة قبل سنوات قليلة، ليعرض في إحدى دورات مهرجان "كان" الأخيرة كمَعلم من معالم السينما الفرنسية والعالمية، وليطفو على سطح الأحداث قبل أيام لمناسبة رحيل بلموندو، الذي لقب لفترة بـ"بيارو المجنون" تيمناً بالفيلم و"دوره" فيه، على الرغم من أن اسمه في الفيلم فردينان وليس "بيارو" الذي لا وجود له أصلاً في الفيلم. وكل ما في الأمر حينها أن غودار استعار لقباً كان يطلق على هارب فرنسي حقيقي من وجه العدالة لمجرد تشبيه فردينان به.
سينما تتنقل على الطرقات
ما لدينا هنا على أية حال شريط ينتمي إلى "سينما الطريق" يقوم على تنقل يقوم به فردينان المذكور بعد أن حدث له ذات أمسية أن يكتشف وهو يحضر حفل استقبال مع زوجته، أنه قد طرد من عمله في التلفزيون وبات عاطلاً عن العمل. وهكذا إذ يرجع إلى بيته آخر الليل يكتشف أن جليسة الأطفال التي عهد بطفله إليها ليست سوى صديقة قديمة له. وعند مرآها يكتشف خواء حياته الخاملة والفراغ الذي يهدده الآن إذ فقد وظيفته، فيقرر أن يهرب برفقة الجليسة متنقلاً من منطقة فرنسية إلى أخرى ليحاول أن يعيش كما يحلو له في فوضى عارمة يجدها صنواً لحرية كان يحلم بها. وعلى هذا النحو، تبدأ تلك المغامرة التي تتنوع فيها الأماكن طوال نحو ساعتين، وتتبدل خلالها الوجوه وسط مطاردات تتسم بالطرافة حيناً وبالعنف في أحيان كثيرة، إلى جانب حوارات صاخبة تزداد غرابتها لحظة إثر أخرى بين فردينان ورفيقته القديمة الجديدة، التي قامت بدورها آنا كارينا زوجة غودار الأولى المشاركة له على أية حال في بطولة ستة من أجمل أفلامه.
ولسوف يقول غودار لاحقاً في نصّ كتبه بعنوان "بيارو المجنون الخاص بي"، إن الفيلم "يختلف جذرياً عن الرواية، ومع ذلك قصدت الولايات المتحدة كي أفاوض المؤلف على شراء حقوق الرواية ودفعت له بالفعل". والحقيقة أن الفيلم أتى غودارياً خالصاً في نهاية الأمر، بل مؤسساً لتطور بديع حدث في مجرى السينما الغودارية. لكنه احتاج إلى الانتظار سنوات طويلة قبل أن يُفهم بشكل جيد من قبل النقاد بمن فيهم أكثرهم تعصباً في العادة للسينما الغودارية. والطريف أن كثراً من هؤلاء اكتشفوا في النهاية أن "بيارو المجنون" أبسط كثيراً وأجمل كثيراً مما اعتقدوا. بل كان من بينهم من اعترف بعد عقود بأن مقال آراغون كان هو ما "ضللهم" وجعلهم يعتقدون أنفسهم في حضرة سينما سوريالية، لدرجة أن الصحافية فرانسواز جيرو التي تعزى إليها على أية حال تسمية كل ذلك التيار بـ"الموجة الجديدة"، كتبت في مقال لها تقول "ما الحكاية في فيلم (بيارو المجنون)؟ لست أدري ما إذا كانت هناك أصلاً حكاية. لا شك أن ثمة حكاية ولكنها لا تهم كثيراً". ما يهم هو ما يعيشه هذان الهاربان من شغف ومغامرات ولقاءات تشمل عدداً من مشاهير يقدمون في الفيلم بأسمائهم الحقيقية مثل المخرج الأميركي صمويل فولر، إلى ذلك التماهي الذي يعيشه البطل فردينان مع الشاعر ريمبو، وصولاً إلى استخدامه العديد من عباراته المأثورة في حواراته و"ديالوغاته" طوال الفيلم. والمهم أن ذلك الشغف الذي يقوم بينهما يدفعها ذات لحظة إلى الضجر فتنتقل إلى رفقة رجل آخر ما يغضبه فيقتلها. وهذا كله يجري في الفيلم ببساطة متناهية. بساطة تكاد تشبه بساطة الدخول إلى مقهى لتناول فنجان من القهوة.
بيارو... الفن وغودار
ومن المؤكد أن هذه البساطة هي التي أثارت إعجاب لوي آراغون بالفيلم وجعلته يعتبره قمة في التعبير الفني فيقول "ما الفن؟ إنني عالق عند هذا السؤال منذ شاهدت فيلم (بيارو المجنون) لجان لوك، حيث يطرح بلموندو الصامت صمت أبي الهول على منتج أميركي سؤالاً بسيطاً هو: ما السينما؟". أما الجواب الذي توصل إليه آراغون على سؤاله فلا يقل بساطة "الفن اليوم اسمه جان لوك غودار، وربما يكون هذا هو السبب الذي يجعل أفلامه وهذا الفيلم بصورة خاصة يطلق سيل الشتائم والإهانات ضده من قبل أناس يجرؤون على مجابهته بما لا يجرؤون على أن يجابهوا به تلك الأفلام التجارية الرائجة"