Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

بطل عزت القمحاوي… فرد في براثن الخوف المتعدد الوجوه

"ما رآه سامي يعقوب" رواية المواجهة بين السلطتين

الروائي المصري عزت القمحاوي (يوتيوب)

يتواجه مفهوم الحقيقة في رواية "ما رآه سامي يعقوب" (المصرية اللبنانية 2019)  للروائي المصري عزّت قمحاوي، مع مفهوم السلطة. ويمكن القول إن هذين المفهومين يحكمان مسار العمل، وإن كان أحدهما يتقدم على الآخر  اي الحقيقة التي تأخذ القارئ إلى عالم سامي يعقوب في كل تفاصيله، ثم السلطة التي تقلب هذا العالم رأساً على عقب. ومن منظور فلسفي إلى حياة سامي- بطل العمل الروائي الذي حمل اسمه، يمكن رؤية لحظة حدوث التحول في حياة البشر كيف تطاول الفرد، وتنزعه من عالمه الآمن لتلقيه في براثن خوف لا طائل منه. الخوف من المراقبة، من ظلال أغصان الشجر، من رنين الهاتف، من سائق تاكسي، من شخص عابر.

بين لحظة تصوير حالة شبق لقطين وما بعدها، لن تعود حياة سامي يعقوب كما كانت من قبل. منذ الصفحات الأولى في هذه الرواية الرائقة ظاهرياً مثل بحيرة -لا يمكن التنبؤ بما تخفيه- يبدأ ترميز الكاتب بعبارات لا تنكشف دلالتها إلا بعد انتهاء النص. المقارنة بين حي جاردن سيتي وإمبابة حين يقول: "لا تغامر العصافير بالدخول إلى إمبابة بينما يمكن ملاحظة الطيور الكبيرة تنبش الفضلات على الشاطئ"، هذه المقارنة بين المنطقتين، وبين العصافير والطيور الكبيرة، وكذلكً مقارنة الفراشات بالتماسيح، يمكن اعتبارها ضمن الدلالات المهمة في تركيب النص.

لحظتان او زمنان

تنفتح الرواية على سامي يعقوب الذي لا يمكن الغافل أن يمرّ من جانبه من دون أن تستوقفه ابتسامته الواسعة. يبني الكاتب روايته وفق تكنيك دقيق، بحيث تنتقل بين زمنين هما: اللحظة الآنية (صيغة الفعل المضارع) وتتضمن عبور سامي في أحد الشوارع الجانبية في جاردن سيتي، ثم رؤيته من خلف أحد الأسوار قطّين شبقين يؤديان عرضهما المثير أمامه، وبزوغ رغبته المفاجئة في تصويرهما من أجل فريدة حبيبته؛ فقد منحه انهماك زوج القطط في الحب سعادة، جعلت يده تمتد إلى هاتفه ليلتقط صوراً تغويها.

أما الزمن الآخر فينبثق من الماضي وينقسم إلى خطين، يمضي أحدهما في استعادة بداية علاقته مع الأرملة فريدة واشتعال وهج الحب عقب رؤيتها في عزاء زوجها زميله في العمل. الخط الثاني يمضي نحو الماضي العائلي لأسرة سامي يعقوب، ذلك الماضي العريق الممتد الذي يتسع ليشمل باشوات زمان، ويشتبك مع حكاية أليس الطبيبة القادمة من ألمانيا التي تقع في غرام صبري يعقوب، المهندس المعماري الذي تجرأ ورفع دعوى رد اعتبار لوالده، حيث يمتد حبل الظلم في هذه الأسرة إلى تاريخ الجد سالم الذي كان خطيباً وكاتباً جريئاً ووزيراً ناجحاً لدورات عدة، لكنه تعرض للإهانة في آخر أيامه وألصقت به تهمة الفساد.

من باب الحب الواسع تدخل أليس في حياة صبري يعقوب الذي رأت فيه حارس مقبرة مقتنيات أبيه وذكرياته، وساهراً على محاولة رد اعتباره. ترى في هذا النموذج الفريد زوجاً مخلصاً، تنجب منه ابنها الأكبر يوسف، ثم سامي. ضمن هذه الذاكرة الممتدة يسترجع سامي علاقته مع أفراد أسرته، واختياره البقاء مع أبيه حين تقرر أمه العودة إلى ألمانيا واصطحاب يوسف معها.

الجسد الاجتماعي

تتكون شخصية سامي من مجموعة صفات غير مألوفة، هو غير مرتبط بأمه الموسومة ببرود متأصل في شخصيتها، بل ربما أصبح أكثر ارتياحاً لسفرها. سامي متفائل ومقبل على الحياة في تفاصيلها البسيطة، علاقته بالطهو، المشي في الشوارع، شراء الورد لنفسه، تأمل الشجر والعصافير والناس. موت أبيه في الاعتقال نزع ابتسامته لكنه لم يعبث بجوهر روحه، وموت أخيه يوسف خلال اعتصامات التحرير جعل قلبه يتهاوى من الحزن. لكن ظهور فريدة أعاد إليه الأمل والرغبة في الحياة من جديد. يمكن وصف سامي بأنه يمتلك تلك الهشاشة المختزلة في داخله، التي تجعل علاقته مع العالم مؤطرة برؤيته الخاصة للحياة، للجسد، للمجتمع، للثورة، التي ينضم إليها، ويشارك أبناءها في بناء حلم بالتغيير، كأن يصنع خوذة له ولأخيه من ورق الكارتون وعلب الكشري الفارغة، حيث يبدو المشهد عبثياً جداً، مع الإيمان بنبل الغاية، ثم الحضور الفجائعي للموت المجاني، الذي يؤكد لا تعثر الخطوات فقط، أو تخبط  المسير، بل حالة العبث واللاجدوى. يقول: "تذكر حيوات يوسف المخترعة، لا تقتصر قدرتهم على بتر المستقبل فحسب، بوسعهم تغيير الماضي… أدرك أن يوسف ليس مقصوداً لذاته، لكن حيواته المخترعة تخدم رواية يجري بناؤها كل ليلة، أبطالها شباب لم يعودوا قادرين على الدفاع عن أنفسهم، بعضهم مات وبعضهم في الحبس والبعض هاجر".

تطرح الرواية إشكالية السلطة في العلاقة مع الفرد من منطلق التخويف، ربما هذا الفعل لا يبدو مريعاً مثل أفعال أخرى عانى منها أبطال آخرون في هذا النص: الجد سالم يعقوب الذي شُوِّهت سمعته في أيام حكم الملك، ثم الأب صبري الذي مات في المعتقل، الأخ يوسف الذي أردته قتيلاً رصاصة قناص. لكن سامي يعقوب تُشوّه روحه، هنا يبدو الخوف أكثر إيذاء مع شخصية مثل سامي، الذي ظل يحاول جهده التملص من سلطة المجتمع على جسده، يعيش وحيداً ويلتقي مع فريدة في بيته، يتقبل برضى زياراتها له، ولا يطلب أكثر، مدركاً أنها أم لطفلتين ولن تتمكن من الزواج منه لأن سلطة القانون والمجتمع ستتمكن من انتزاع طفلتيها.

اليد الثقيلة التي تقبض على خيط العلاقة بين سامي والأرملة فريدة، هي اليد ذاتها التي تسقط بثقلها على كتف سامي، لنقرأ: "لم يمنعه من سماع خطوات الرجل خلف ظهره إلا صخب القلب. التفت بدهشة إلى الأصابع المغروسة في كتفه كمخالب نسر". يُمثل هذا المشهد اللحظة الفارقة في حياة سامي، حيث سيُأخذ إلى الداخل، في ماوراء السور، هو الذي كان يكتفي بمراقبة قطّين والتلهي بتصويرهما، يُنتزع هاتفه منه والتحقيق معه، سؤاله: "لماذا أنت سعيد؟"؛ هكذا تصير فكرة السعادة أيضاً في مرمى التحقيق، ثم يتبدل كل ما رأته عينا سامي قبل هذا السؤال.

 لحظة إطلاق سراحه بعد احتجازه زمناً قصيراً وتقليب هاتفه ومحو الصور، سوف تنعكس على علاقته بالعالم ككل، مع فريدة التي لم يقوَ على الاتصال بها، مع هاتفه الذي راح يقلب ما فيه من معلومات ويرى ما تنطوي عليه من خطورة، مع الخوف الذي نبت في نفسه فجأة كشجرة عملاقة بلا جذور.

اعتمدت الرواية على المشهدية، بخاصة في الجزء الذي ينتمي إلى الحاضر، يبدو الوصف دقيقاً ومكثفاً، يسترسل في تتّبع حركة القطّين، وتحليل أفعالهما وما فيها من دلالات. ويشارك في الحضور الفعال للمشهدية اختيار الكاتب وضع زمن صيغة المضارع باللون الأسود، لتكون مختلفة عن بقية السرد الذي يرجع في الذاكرة إلى الماضي الأبعد، لنقرأ: "بعكس الوحوش الأقوى كالأسود والنمور، لا تصطاد القطط لمجرد أن تأكل، لكن يمكنها أن تفعل ذلك لمجرد التلذذ بذعر الفريسة، تغرس أنيابها في حبلها الشوكي وتشل أعصابها، ثم تشرع في التلاعب بها بتأنٍ. وقد بدأ سامي يحسّ أنه فأر مسلوب الإرادة، تعاني كتفه من ألم مخلب الممشوق الذي يتخيّر بعض الصور ويكبّرها ليفحصها بعناية".

المزيد من ثقافة