لا تزال حملة محاربة الفساد في الجزائر تصنع الحدث، وعلى الرغم من أنها آتت أكلها وزجت بعديد المسؤولين على اختلاف مناصبهم ومستوياتهم ومجالاتهم في السجون، فإن المخاوف من تحول الأمر إلى تصفية حسابات، دفع الرئيس عبد المجيد تبون إلى المسارعة في رفع التجريم عن فعل التسيير.
إصرار رئاسي
بعد مخاطبته المحافظين العام الماضي، ثم مطالبته برفض "الرسائل المجهولة" التي قال إنها كانت وراء تحطيم مستقبل عدد من الإطارات، عاد الرئيس تبون في آخر اجتماع لمجلس الوزراء ليوجه بمنع الملاحقات والمتابعات والتحقيقات ضد المسؤولين إلا بقرار من وزير الداخلية، بهدف تخفيف الضغط على المسيرين وتحرير الأفكار وتشجيع المبادرات، وأبرز أن "السجن لمن يأخذ المال ويضعه في جيبه وليس لمن يخطئ التقدير".
وتنص التعليمات على أن مصالح الأمن والدرك المكلفة بالتحقيق في أخطاء التسيير ملزمة بالحصول على الموافقة القبلية لوزير الداخلية، وأشارت إلى أنه في "انتظار تكييف الأحكام القانونية ذات الصلة من واقعنا الاقتصادي لا سيما رفع التجريم عن فعل التسيير، فإن وزير العدل ومسؤولي المصالح الأمنية كل فيما يعنيه، مطالبون بعدم المبادرة بأي تحريات أو متابعات قضائية ضد المسؤولين المحليين دون الأخذ برأي وزير الداخلية والجماعات المحلية".
ونبهت الوثيقة أن عديد المشاريع تظل اليوم عالقة في ما يتعذر استغلال أخرى رغم استكمال إنجازها بسبب عوامل عدة مرتبطة أساساً بإجراءات المطابقة أو رخص الاستغلال التي ينص عليها القانون، ما جعل التباطؤ في معالجة الملفات سيد الموقف والذي يعود غالباً إلى نقص التحفيز الذي يبديه المسؤولون المحليون نتيجة الخوف من الوقوع تحت طائلة المتابعات القضائية.
مبدأ ملاءمة المتابعة القضائية؟
وتعليقاً على القضية، يرى الحقوقي والسياسي، حسين خلدون، في تصريح لـ"اندبندنت عربية"، أن جوهر المسألة ليس رفع التجريم عن فعل التسيير كما يتوهم البعض وإنما إخضاع المتابعات القضائية إلى موافقة جهة معينة، ويسمى هذا في فقه الإجراءات الجزائية مبدأ ملاءمة المتابعة القضائية الذي من الناحية النظرية تتمتع به النيابة العامة دون سواها عند تحريكها الدعوى العمومية، مضيفاً أن هذا القيد على تحريك الدعوى العمومية يأتي بخلفية حماية المسيرين الاقتصاديين من تبعات تصرفاتهم باعتبارهم "مناجير" مؤسسات اقتصادية تخضع لقواعد الربح والخسارة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ويتساءل خلدون: هل يجوز لرئيس الجمهورية بموجب تعليمة موجهة لبعض المسؤولين في الجهاز التنفيذي تعطيل أو تقييد تحريك الدعاوى العمومية دون مراجعة قانون الإجراءات الجزائية؟ مبرزاً أن القواعد التي تحكم الدعوى العمومية هي ذات صبغة قانونية محضة يتضمنها قانون الإجراءات الجزائية، وطبقاً لمبدأ توازي الأشكال، ولإحداث أي تغيير في تلك القواعد، يجب مراجعة النص ذاته، وأشار إلى أنه من الناحية السياسية فالأمر يمكن أن يكون محل ريبة بالنظر إلى عزم الدولة على محاربة الفساد، موضحاً أن المبررات جاءت لتضع المسيرين في مأمن عن الحملات القضائية الهادفة إلى تطهير المناخ الاقتصادي والاستثمار، والتي أربكت كثيراً من المسؤولين وشلت النشاط الاقتصادي عموماً بفعل الخوف من الوقوع تحت طائلة العقاب الجنائي.
إجراءات أخرى
وتتوقع عدة أطراف أن رفع التجريم عن فعل التسيير هو إجراء أولي، سيكون متبوعاً بإجراءات أخرى تصب في نفس الاتجاه، من خلال تأسيس منظومة اقتصادية فعالة ووضع حد للتسيير البيروقراطي للاقتصاد وتعميم الأدوات الرقمية في أعقاب استحداث وزارة قائمة بذاتها للرقمنة، فضلاً عن وضع الأسس الصحيحة لدولة القانون، كما صنفت جهات الخطوة في خانة تشجيع الاستثمار وتحسين مناخ الأعمال عبر تحرير المبادرات وتكريس لا مركزية القرارات، بعد الجمود الذي ميز الوضع الاقتصادي.
التمييز بين الخطأ والجنحة
وأكد أستاذ قانون الأعمال، علي مبروكين، في تصريحات للإذاعة الجزائرية، أنه "يمكن لخطأ التسيير أن يكون خطأ مدنياً أو خطأ تأديبياً، ولكن ليس خطأ من شأنه أن يكون ذا طبيعة جزائية"، مشدداً أنه من الضروري التمييز بين الخطأ والجنحة في فعل التسيير، وأضاف أنه سيكون من الضروري تحديد الأخطاء التي تصنف على أنها جنح، وبالتالي فإن مرتكبيها سيخضعون للمحاكم الجزائية، وينطبق الأمر نفسه على أخطاء التسيير التي يمكن أن تندرج تحت طائلة الإهمال، وقال إن "تحديد الأخطاء بموجب القانون ستسمح لنا بمعرفة مجال تطبيق رفع التجريم عن فعل التسيير الذي ينبغي أن يستبعد الفساد أو إساءة استخدام الأملاك الاجتماعية أو عدد معين من الأفعال التي تقوم بها المصالح المتعاقدة في انتهاك لقوانين الصفقات العمومية".
الضبابية في تفسير النصوص القانونية
من جانبه، يعتبر الحقوقي حسان براهمي أن استعجال الخطوة يرجع إلى ورشة فتحت منذ عامين لمراجعة قوانين مكافحة الفساد وللأسف الشديد لم تظهر النتائج حتى الآن وقال إنه "لا نزال نعمل بقانون 2006 المتضمن لكثير من الغموض في العديد من المسائل الجوهرية ومنها التفريق بين خطأ المسير المجرّم قانوناً بسوء نية لتبديد واختلاس الأموال العامة، وبين خطأ المسير غير العمدي الناتج عن سوء تقدير أو تسرع أو عدم احتياط في اتخاذ القرار"، مشيراً إلى أن هذه الضبابية في تفسير النصوص القانونية الحالية أدت إلى متابعة كثير من المسيرين بأفعال تدخل في صميم عملهم رغم أنهم لم يتربحوا منها ولم يختلسوا أي أموال لصالحهم، وختم أنه "يجب مراجعة شاملة للمنظومة القانونية لمكافحة الفساد حتى نستطيع القول إننا بصدد بناء تسيير حكومي من دون فساد".
رفض رسائل التبليغ مجهولة المصدر
وألزم الرئيس تبون في وقت سابق، العدالة بعدم الأخذ بعين الاعتبار رسائل التبليغ مجهولة المصدر، مؤكداً أن كل رسالة مجهولة المصدر سيكون مصيرها سلة المهملات، داعياً الأشخاص الذين يحوزون على معلومات حول جريمة اقتصادية ويملكون الشجاعة لفضحها أمام الجميع، بالتوجه إلى الصحافة، وشدد على أن العدالة لديها الإمكانيات والوسائل اللازمة للتحقيق في الجرائم، موضحاً أن رفع التجريم عن فعل التسيير يشجع روح المبادرة، ويسمح للمستثمرين القيام بمشاريعهم بكل أريحية.