Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

حكاية عن سهرة قاهرية نادرة بين سعد زغلول ومنيرة المهدية

يوم كان الفكر والفن والسياسة الوطنية في مركب شعبي واحد

المطربة المصرية الراحلة منيرة المهدية  (رسم علاء رستم - اندبندنت عربية)

كان ذلك عشية اندلاع ثورة 1919 الوطنية الكبرى في مصر، وكانت كل المؤشرات تقول إن تلك الثورة التي يتزعمها سعد زغلول ستندلع لا محالة، وكان ذلك شعور يتغذى بخاصة من الحياة الفنية والأدبية والفكرية، وبالتالي من الحلقات الصاخبة في مسارح شارع محمد علي القاهري الذي كان من مزاياه في ذلك الحين جمعه بين اللهو والفن والفكر والسياسة والوطنية في بوتقة واحدة.

الحديث عن سعد ممنوع

 في ذلك الحين، كان الإنجليز المحتلون مصر والمدركون الشرارة التي يمثلها ذكر اسم سعد زغلول في أي مكان من مصر، كانوا قد منعوا الفنانين والصحافيين وحتى الطلاب والناس العاديين من الإشارة إليه، ومن هنا كانت الفنانة منيرة المهدية، المعتبرة حينها ملكة الفن الاستعراضي غير المتوجة في مصر، تقدم على مخاطرة كبيرة إذ قررت في حفل غنائي حاشد أقامته في صالتها الخاصة واجتمع فيه كالعادة كبار الأدباء والسياسيين وأفراد الطبقات الموسرة وبعض محبي الفن والموسيقى والسهر من أبناء الشعب، قررت أن تختبر قوتها ووطنيتها بخرق القرار الإنجليزي.

شال الحمام حط الحمام

ليلتها إذاً وكما يروي كمال النجمي وغيره من مؤرخي الحياة الفنية المصرية، وقفت منيرة على المسرح بكل دلالها وكبريائها مشيرةً إلى فرقتها الموسيقية (التخت) لينطلق على الفور صوت العود والناي والقانون والكمان على إيقاع الطبل، ولتنطلق تلك التي كانت تلقب بـ "سلطانة الطرب" تغني بأعلى صوت يسمعه كل من في الصالة ومن دون ميكروفون "شال الحمام حط الحمام/ من مصر لما للسودان/ زغلول وقلبي مال إليه/ أندهله لما أحتاج إليه/ يفهم لغاه اللي يناجيه/ ويقول حمحم يا حمام". وكانت تلك العبارات من الأغنية كافية بالطبع لاستثارة الجمهور الذي راح يردد معها كلماتها بصخب يقرب من هتافات الثورة المقبلة، وكانت كلما حاولت الانتقال الى المقطع الثاني يستعيد الجمهور المقطع الأول هاتفاً لذلك "الطائر" الذي تغني له صارخاً "زغلول... زغلول، والله يا ست كمان زغلول وزغلول"، ثم يصرخون من جديد مستعيدين عبارة تقول فيها، "من مصر السعيدة للسودان".

صحيح أن المؤرخين سيبالغون فيقولون إن تلك الليلة كانت البداية العملية لانطلاق ثورة عام 1919، لكن دلالة الحكاية تتجاوز طبعاً اللحظة التاريخية لتقول كم أن الفن، حتى في مستوياته الأقل شأناً، كان يلعب كل ذلك الدور الوطني في الحياة الشعبية، والحال أننا إن استعرضنا نقلاً عن المؤرخين أسماء العدد الكبير من المفكرين والمبدعين وحتى السياسيين المصريين الكبار الذين كانوا حاضرين في تلك الليلة، يمكننا أن نفهم أموراً كثيرة عن علاقة الفن بالوطنية في مصر وبخاصة القاهرة، وربما غيرها من المدن العربية في ذلك الحين.

كلهم في صالة السلطانة

ولكن يمكننا أن نستعيد طبعاً ذكر تلك الفنانة الكبيرة التي جمعت كل أولئك المصريين من حول فنها وغنائها، منيرة المهدية، كما نفهم ورثتها حين احتجوا بعد سنوات طويلة على المخرج حسن الإمام حين اكتفى في فيلم حققه بعنوان "سلطانة الطرب" بالتركيز على الجانب الترفيهي والمغامر في حياة هذه الفنانة، مقللاً من الدور السياسي الذي لعبته، وكان دوراً كبيراً بالتأكيد، يكاد يوازي الدور الفني الذي يمكننا تلمسه من خلال استعراضنا الأعمال الفنية التي أنجزتها، مارّين على أسماء كبيرة أسهمت معها في تلك الأعمال من سيد درويش إلى فرح أنطون، ومن سلامة حجازي إلى عزيز عيد وجورج أبيض ومحمد عبدالوهاب وآخرين، وفي نهاية الأمر لم تكن المهدية مغنية "ارخي الستارة" أو "الحلو في البارانده" فقط، بل كانت سيدة المسرح الغنائي في أدوار لا تقل عن "كليوباترا" و"تاييس" و "سميرأميس" و"عايدة" و"أكسير الحب" و"كارمن" و"البوهيمية"، ويمكن لهذه اللائحة أن تطول.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

تلك العودة الفاشلة

مهما يكن فإن منيرة المهدية كانت اعتزلت الفن طوال 20 عاماً، أي منذ عام 1928، حين خطر لها في عام 1948 أن تعود إلى الغناء وقد أحست، كما يبدو، أن الفورة الاجتماعية التي سادت مصر بعد انقضاء الحرب العالمية الثانية سيكون من شأنها أن تعيد إليها نجاحاً، كانت إخفاقات النصف الثاني من السنوات الـ 20 وضعته بعيداً من منالها. وهكذا استأجرت صالة بديعة مصابني في ميدان الأوبرا، وعادت إلى الغناء، لكن أموراً كثيرة كانت قد تبدلت خلال العقدين الأخيرين، ومن أهم تلك الأمور، ذوق الجمهور، الذي كان اعتاد أنماطاً جديدة من الغناء لا علاقة لمنيرة المهدية بها لا من قريب ولا من بعيد، وهكذا فشلت عودتها الكبرى، وعادت تلك الفنانة الكبيرة تنزوي بعيدة حزينة، وظلت في انزوائها 17 عاماً انتهت برحيلها يوم 11 مارس (آذار) عام 1965، وهي حتى حين رحلت لم تجد من بين الناس من يتذكرها كما يجب فهي كانت قد أضحت نسياً منسياً، إلى درجة أن مجلس الوزراء المصري أيام الثورة، حين قرر أن يكرمها، عجز، كما يُروى عن العثور عن عنوان لها، ما حال من دون تمكنها من أن تتسلم جائزتها من يد رئيس الجمهورية شخصياً.

"جريمة" كوكب الشرق

ومما لا شك فيه أن منيرة المهدية كانت خلال العقود الأخيرة من حياتها، من بين تلك الفنانات المغنيات اللواتي كن يلعنّ أم كلثوم في سرهن، فمنيرة مثل غيرها كانت تعتبر أن النجاح الذي حققته كوكب الشرق إنما كان على حسابها هي شخصياً.

والحال أن مَن يتحرى تاريخ الأغنية المصرية عند نهايات الربع الأول من القرن الـ 20، لن يفوته ملاحظة ذلك التواكب بين صعود أم كلثوم، بكل ما مثلته من أصالة وتجديد، وانهيار عشرات المطربات المنافسات، بينهن منيرة المهدية، من اللواتي كن لا يزلن يتمسكن بأساليب الغناء القديمة، ومع هذا كانت منيرة المهدية شديدة الحداثة في سنوات تألقها، بل إن الفن الذي اشتهرت به، وهو فن المسرح الغنائي كان يعتمد أساساً على تقديم أعمال مقتبسة من شتى أنواع الموسيقى الغربية، فمنيرة كانت، على المسرح كما أشرنا، "كارمن" ثم "تاييس"، كما كانت "إدنا" الشخصية المقتبسة من المسرح الكلاسيكي الغنائي الإيطالي.

في بداياتها كانت منيرة المهدية (واسمها الأصلي زكية حسن) فتاة في منتهى الجمال، زرقاء العينين على الرغم من أصالة انتمائها الشعبي المصري، وكانت بدأت الغناء في الفرق الشعبية في مدن الأرياف، قبل أن تقصد القاهرة حيث سرعان ما حققت شهرة كبيرة كمطربة وراقصة في مقاهي الأزبكية، وهناك، بحسب رواية المؤرخ عبدالحميد زكي، اكتشفها عزيز عيد فجعلها تغني في فصول الاستراحة وسط فصول مسرحياته الكوميدية، وهناك التقت كبار فناني تلك المرحلة من أمثال نجيب الريحاني واستفان روستي وروز اليوسف، وكانت هي الوحيدة بينهم ذات الأصل المصري وكان الجمهور يعرف هذا ويقدره، وهكذا نجحت نجاحاً كبيراً، ولم يعد يرضيها أن تغني بين الفصول، فانفصلت عن الفرقة، وكان انفصالها بداية لانهيار تلك الفرقة، أما هي فقد قررت الانصراف إلى المسرح الغنائي الذي كان سيده في ذلك الحين سلامة حجازي،

الطريف أنها راحت تقلد الشيخ في أول المسرحيات التي قدمتها، وحققت بذلك نجاحاً هائلاً ساعد فيه جمالها الأخّاذ وصوتها الجميل وعنادها في مشوارها الفني، وهكذا راحت أعمالها تتتالى فكانت "كارمن" و "تاييس" وغيرهما من المسرحيات الغنائية التي جعلت من منيرة المهدية، بعيد الحرب العالمية الأولى، سيدة المسرح الغنائي القاهري من دون منازع، وكانت تلك الفترة هي التي لقبت فيها بـ "سلطانة الطرب" وهو اللقب الذي رافقها بقية سنوات حياتها ولا يزال علماً عليها حتى اليوم.

وبالتوازي مع المسرحيات الغنائية راحت تغني في الوقت نفسه، القصائد مستفيدة من انتشار الفوتوغراف والإذاعة، وعلى هذا النحو صارت تعتبر المغنية الرقم واحد في طول مصر وعرضها متفوقة على بعض كبريات المغنيات في عصرها، مثل نادرة وبهيجة حافظ، ولكن ما إن حل النصف الثاني من سنوات الـ 20، حتى بدأ مجدها بالتداعي، خصوصاً بعدما فشلت أمام عبدالوهاب في تأدية دور كليوباترا في المسرحية الغنائية التي أكمل تلحينها بعد أن كان سيد درويش قد بدأ بها، وهكذا راحت منيرة المهدية تحصد فشلاً بعد فشل حتى انتهى بها الأمر الى الاعتزال ابتداء من أواخر العشرينيات، وظلت غائبة طوال الـ 20 عاماً التي وصل فيها فن الغناء المصري إلى قمة ثورته التجديدية، ثم فشلت في عودتها بعد الحرب العالمية الثانية، واقتنعت بأنها انتهت وغابت مرة أخرى، ونسيها الناس حتى كان يوم رحيلها، فرحلت هادئة شبه غائبة عن عالمنا.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة