بعد غزو "طالبان" معظم ولايات أفغانستان، والسيطرة على كابول بالكامل، انقلب الوضع رأساً على عقب في هذه البلاد المنكوبة بالحروب اللامتناهية، "فالإمارة الاسلامية" التي أُسقطت في 2001 تم إعلانها من جديد، بينما تسعى الميليشيات "الإسلاموية" لإعادة فرض نظام روع المواطنين، بخاصة النساء والأقليات في التسعينات، وفي مقدم الانقلاب الطالباني أزمة مفتوحة متفاقمة مسرحها مطار كابول الدولي حيث لجأ آلاف المواطنين، إضافة الى مدنيين أميركيين وأجانب، يسعى جميعهم إلى الخروج من أفغانستان في خضم فوضى عارمة وسقوط ضحايا وتمزق عائلات تحاول إنقاذ أطفالها من الخطر الميليشياوي المحيط بالمطار.
كل هذه المشاهد الدراماتيكية وصلت عبر شاشات التلفزة والسوشيال ميديا إلى العمق الأميركي وباتت تشكل ضغطاً متصاعداً على إدارة جو بايدن ومادة استهلاكية سياسية للمعارضة الجمهورية.
وقد انقلبت بعض الأصوات الليبرالية على بايدن على إثر هذه المشاهد، ولا سيما الرسائل القاسية التي وجهتها شخصيات نسائية بارزة في أفغانستان للرئيس الأميركي محملته مسؤولية الانقلاب الميليشياوي، وأمام هذه التداعيات المتتالية تقف إدارة بايدن أمام خيارات صعبة ذات وقع ثقيل على السياسات الداخلية، وربما على الانتخابات المقبلة، فلنستعرض هذه التحديات الكبرى.
كارثة المطار
مما لا شك فيه أن المشاهد الآتية من مطار كابول إلى شاشات أميركا وهواتفها النقالة بات لها أثر نفسي كبير لدى الرأي العام، بخاصة تلك الصور والفيديوهات حول سقوط اللاجئين من الطائرة، وبكاء النساء والرجال الهاربين من "طالبان" باتجاه المدارج، وتراكض الناس حول الطائرات المقلعة، ومن أكثر المشاهد تأثيراً مشهد جنود الأطلسي يتسلمون أطفالاً أفغانيين من أهلهم ليسلموا من الإرهابيين. هذه الشرائط ستدخل التاريخ، لكنها الآن تدمغ صورة إدارة بايدن عميقاً وفي بلد كبير ومنقسم، هكذا تلوين سيء للبيت الأبيض لن يخلو من نتائج قاسية في الانتخابات الآتية التشريعية والرئاسية.
مصير المدنيين الأميركيين
الأزمة الأكثر حدة وخطورة بالنسبة لإدارة بايدن تتعلق بالمواطنين الأميركيين ليس في المطار، بل المنتشرين والمختبئين في مختلف أنحاء أفغانستان، إذ إن من يدخل منهم إلى الحلقة الأمنية للمطار سيتمكن من الخروج من أفغانستان، بينما الأميركيون الموزعون في البلاد، وعددهم ليس معروفاً بدقة، فمصيرهم مجهول وأصعب، وإن حصل أي مكروه لهم ستلتهب الساحة السياسية في الولايات المتحدة وستواجه إدارة بايدن عاصفة قد تهدد أكثريتها في الكونغرس في الانتخابات النصفية العام المقبل أو ربما انتخابات الرئاسة في 2024.
المشكلة عند فريق بايدن هي محدودية وخطورة الخيارات، فإذا نشر الرئيس قوات جديدة خارج المطار وأمر قواته بالسعي إلى التخليص المواطنين من أحياء مختلفة من العاصمة أم من مدن أخرى، قد تحصل اشتباكات مع "طالبان"، وإن حصلت قد ينهار "اتفاق الدوحة"، البيت الأبيض بين نارين، إنقاذ كل المواطنين الأميركيين في أفغانستان كي لا يصابوا بأذى أو يصبحوا رهائن أو أن تعود القوات الأميركية لتسيطر على بعض المحاور مع احتمال حصول اشتباكات مع المجموعات الإرهابية، فقرار بايدن من أخطر الخيارات.
قطر وباكستان
هذا إلا إذا نجح البيت الأبيض في الاستعانة بشركاء بإمكانهم المساعدة الفعلية على الأرض، سياسياً أو ميدانياً، وهما اثنان في المرحلة الحالية. اللاعب الميداني الإقليمي الأول الذي بإمكانه أن يتدخل في أفغانستان هو باكستان، فهذه الأخيرة لها قدرات عسكرية كبيرة بإمكانها أن تنتشر في أفغانستان لكي تفرض بعض الاستقرار، وإسلام آباد لها تواصل قديم مع "البشتون" و"طالبان" أيضاً، ولها ثقل معهم، ولكن هكذا استعانة فيها مخاطر، فالقيادة الباكستانية ستطلب ثمناً معيناً من واشنطن، ربما قد يغضب الهند ويرفع سقف التوتر بين القوتين النوويتين، إضافة إلى ذلك، أن التدخل الباكستاني قد يصطدم بحركة "طالبان" نفسها وينتقل الصدام إلى الداخل الباكستاني، وفي كل تلك السيناريوات صداعات للبيت الأبيض الذي يريد التخلص من الكابوس الأفغاني من دون تعقيدات.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
تبقى قطر التي رعت المفاوضات تحت عهد دونالد ترمب وعهد بايدن، وكانت قد عرضت تلك الأفكار منذ فترة باراك أوباما، فالدوحة استقبلت قيادة "طالبان" وغرفة عملياتهم السياسية، ودعمت وفودهم منذ 20 عاماً، وهي الأقرب إلى مشاريع "طالبان" من غيرها، وهي شريكة للولايات المتحدة ولها لوبي مؤثر في واشنطن، لذا قد تكون هذه الدولة نقطة الوصل بين "طالبان" وإدارة بايدن، وبالتالي قادرة على صنع موقف طالباني ببراغماتية "الإخوان"، أي أن تؤمن الدوحة ما تريده إدارة بايدن على أرض الواقع في أفغانستان، أي حل مسالة خروج الأميركيين وحلفائهم بسلامة، ما يجنب انتكاسة سياسية عميقة لبايدن، وقد تبدو هذه المعادلة سهلة لكنها قد تأتي بتعقيدات أصعب لأنه بطبيعة الأمور، إذا طلبت واشنطن مساعدة الدوحة ستطلب هذه الأخيرة أموراً تتعلق بشركائها "الإخوان" في دول أخرى مما قد يغيظ عدداً من دول العربية، والقوى السياسية التي هي في مواجهة مع الجماعة، وتنتج من ذلك أزمات على حجم المنطقة.
العلاقة مع "طالبان"
أما الملف المركزي المحاط بالغموض، والذي سوف يشكل قلب مشكلات المستقبل بالنسبة للإدارة، فهو العلاقة بينها وبين "طالبان". ما هي؟ من بدأها؟ ماذا تشمل؟ على ما جاء اتفاق الدوحة، هل هذه العلاقة ستتحول إلى شراكة شبيهة للشراكة التي بدأتها إدارة أوباما مع "إخوان" مصر وليبيا وتونس وسوريا؟ هذا الموضوع ستكون له مادة غزيرة خلال الأشهر والسنوات المقبلة.
إلا أن هذه العلاقة المتطورة بسرعة بدأت تقلق المعارضة في الولايات المتحدة وحتى أجنحة في الحزب الديمقراطي، فأكثرية الأميركيين لم تطلع على اتفاق الدوحة مع "طالبان"، لا الاتفاق الذي وقعته إدارة ترمب، ولا الاتفاق التي نفذته إدارة بايدن، الإدارة السابقة عينت السفير خليل زاده ليقود المفاوضات تحت إشراف الوزير مايك بومبيو، تم التوقيع على اتفاق يعيد "طالبان" كحزب سياسي وليس كميليشيات إلى كابول عبر حكومة وحدة وطنية، ومع إنني شخصياً لم أر في هذا الاتفاق أملاً في النجاح لأن "طالبان" لم تقم بإصلاح عقيدتها وأجندتها، فإن التفاهم بين بومبيو و"طالبان" كانت له شروط لا بد من اكتمالها قبل القبول بإعادة تشريع الحركة وبدء الانسحاب الأطلسي.
أما إدارة بايدن فيبدو أنها عدلت في التفاهم، إذ قررت سحب قواتها أولاً، والسماح لحركة "طالبان" بالخروج إلى العلن ثانياً، والتعاون معها ثالثاً، ولم يعرف إذا كانت هناك تفاهمات أخرى غير مرئية، كما الحال مع الاتفاق النووي الإيراني.
تفاجأ العالم بسرعة الاجتياح الطالباني وتساقط الوحدات النظامية والحكومة ككل، إلى حد يسأل المراقبون ما إذا كان الانهيار الأفغاني معروفاً مسبقاً من قبل الإدارة الأميركية، ويذهب البعض إلى التساؤل ما إذا كان التفكك جزءاً من الاتفاق "الدوحاوي" أم أن "طالبان" استفادت مما سمح به الاتفاق وانقضت على الدولة الأفغانية، بغير علم واشنطن.
التحقيق الآتي في الكونغرس، ولا سيما إذا ما عادت الأكثرية الجمهورية في 2022، سوف يحاول الكشف عن حقيقة موقف ودور إدارة بايدن أو جزء منها حيال "طالبان".
المقاومة الأفغانية
وإذ بدأت براعم من المقاومة الأفغانية ضد "طالبان" تظهر في بعض النقاط في أفغانستان، وبخاصة في وادي "بنجشير" في الشمال، بدأ التساؤل في واشنطن والغرب عن موقف الإدارة. هل ستدعم؟ هل ستتخلى؟ هل ستسعى إلى حوار؟ كل ذلك يبدو غامضاً إلا أن الجواب سوف يرتبط بموقف بايدن الحقيقي من "طالبان" كما تم الاتفاق عليه مع قطر وأطراف أخرى، إلا أن استمرار ظهور المقاومة الشمالية تحت قيادة أحمد مسعود شاه، ابن القائد مسعود شاه، قد يبدأ بالتأثير على الرأي العام الأميركي، فتتصعب الأمور بالنسبة للبيت الابيض.
جيش من الأسئلة
وإذ تتراكض الأحداث، يبقى جيش من الأسئلة أمام البيت الأبيض، نرى المئات منها يطرحها الصحافيون في غرفة الإعلام يوماً بعد يوم. واللافت أن الأمر مع غزوة "طالبان" بات يشبه بحراً يغرق فيه الرئيس بايدن، فهل أن سيد البت الأبيض سباح ماهر بإمكانه أن يصل إلى البر الآمن سياسياً؟ أم أن اتفاق الدوحة ونتائجه على الارض ستغرق سياسة إدارته الخارجية؟
سنرى.