Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

المغربي حسن أوريد يحتفي بالفكرة الأندلسية تاريخيا

في رواية "زينة الدنيا" يتجاور المتخيل والتوثيق في صيغة مفتوحة

 (دار المركز الثقافي العربي) تدور أحداث الرواية في قرطبة والزهراء

 بين السلطة المطلقة وسلطة المعرفة يتحرك مكوك السرد في الرواية التاريخية الجديدة "زينة الدنيا" للروائي المغربي حسن أوريد، الصادرة عن (المركز الثقافي العربي). ويتناول الصراع القديم الجديد بين السلطة والمثقف في مرحلة معينة من تاريخ الأندلس. ويرصد أشكال الصراع وآلياته وأدواته والنتائج التي يتمخض عنها. وتشغل هذه الحركة ستمائة وأربعين صفحة. يتجاور فيها السرد والوصف، التاريخ والجغرافيا، الحكاية والحقيقة، النثر والشعر، الخطبة والرسالة، الدعاء والإعلان، المقامة والمسرحية. وينجم عن علاقات حسن الجوار بين هذه الثنائيات نص روائي طويل، يحتفي بالفكرة الأندلسية بما هي "تصور لا يُقصي أحداً، ويعترف لكل أحد بالوجود والحق في حرية الفكر ولسان التعبير واختلاف الرأي وتعدد العقيدة" (ص 567). وهذه الفكرة تجد تجسيداً لها على مستوى المحكومين في الرواية دون الحاكمين الذين تنطبق عليهم مقولة "أنا ولا أحد".

منظوران مختلفان

 تدور أحداث الرواية في قرطبة والزهراء، خلال الربع الأخير من القرن العاشر الميلادي، في خلافة الخليفة الأموي الثالث في الأندلس هشام بن الحكم بن عبد الرحمن الناصر. وتتراوح بين سلكين سرديين اثنين، ينخرطان في علاقات تواز وتعاقب وتناوب وتقاطع وتداخل، سواء على مستوى الأحداث أو الشخوص. يمثل الأول السلطة، بما هي، آليات ممارسة الحكم، وما يكتنفها من صراعات بين مراكز القوى، وما تؤول إليه من استئثار أحدها به وإقصاء الآخرين عنه. ويمثل الثاني المثقف بما هو، رغبة في المعرفة والتجاوز، وتطلع إلى العدالة، وحرص على الكرامة الإنسانية. أي إننا إزاء منظورين مختلفين للدولة وآليات عملها، يعبر عن الأول الحاجب المنصور محمد ابن عامر، بطل السلك الأول، بالقول، "الدولة تأنف من النظر إلى الحياة الخاصة. قتل رجل من منظور منطق الدولة يساوي قتل حشرة...". ويعبر عن الثاني الوزير ابن صمادح، بطل السلك الثاني، بالقول، "لا قيمة بالنسبة إلي لدولة تزري بالأفراد وحقوقهم" (ص 626). وهذان المنظوران يتمظهران في الرواية من خلال مجموعة من الأحداث، تتحرك في مسارات معينة، وتؤدي إلى مصائر محددة. 

تتجسد السلطة في الرواية في شخصية الحاجب محمد ابن عامر، الذي "جمع إلى قوة السلطان الأدب والكياسة والمعرفة فضلاً عن الوسامة" (ص 35)، وتدرج في مراتبها من كاتب أم الخليفة السيدة صبح، إلى صاحب الشرطة، إلى قائد الجيش، إلى الحاجب صاحب السلطة المطلقة. وخلال هذا التدرج، يتخلص ابن عامر، مستفيداً من علاقته الحميمة بصبح وصِغر سن الخليفة الجديد، من مراكز القوى المحيطة بالخليفة واحداً تلو الآخر، ويستأثر بالقبض على زمام الحكم دونها. وتأتي الانتصارات المتعاقبة التي يحققها على أعدائه، الخارجيين والداخليين، لتُحكم قبضته على الحكم، حتى إذا ما انتشى بخمرة السلطة، يروح يغلب القوة على السياسة في تدبير الأمور، ما يورده معارك كان يمكن تجنبها بقليل من الدبلوماسية.

آليات السلطة

الآليات التي يمارسها ابن عامر لتوطيد سلطته هي نفسها آليات السلطة المطلقة عبر التاريخ. لذلك، نراه يتخذ العيون والآذان، يقمع المعارضين، يكم الأفواه، يوقع بالخصوم، ولا يتورع عن قتل أقرب المقربين إليه إذا ما شق عصا الطاعة، فيأمر بقتل ابنه عبدالله، ويندم لات ساعة مندم. وفي المقابل، يقرب منه الشعراء والأدباء متخذاً منهم مثقفي بلاط يسبحون بمجده ويزينون له أخطاءه وإذا ما سولت لأحدهم نفسه تجاوز هذين الحدين يكون القِصاص له بالمرصاد. وهذا ما يحصل لابن صمادح الذي حاول مصانعته دون أن يخون رسالة المثقف باعتباره حارساً للقِيَم ومؤتمناً على الحقيقة. على أن المفارق في شخصية ابن عامر جمعه بين المتناقضات، ففي الوقت الذي يأمر فيه بقطع رأس هذا المعارض أو ذاك نراه يميل إلى المزاح ويستسيغ المناكفات بين أفراد حاشيته المقربين. وغني عن التعبير أن هذه الآليات تتنافى مع جوهر الفكرة الأندلسية بما هي هامش للحرية والتنوع وقبول الاختلاف.

 في مواجهة النموذج الأحادي للحاكم ممثلاً بابن عامر، تقدم الرواية ثلاثة نماذج للمثقف، الأول يمثله باشكوال المثقف الغنوصي، رفيق دراسة الخليفة الحكم ومساعده في بداياته وشريكه في حب هند غادة قرطبة، الذي يكتشف  مخاطر الاقتراب من السلطان مبكراً، فينسحب من تعاطي السياسة في الأندلس، ويعتزل في قرية أستجة ليقيم فيها أندلسه الخاصة، وبذلك، يربح نفسه ولا يخسر العالم. الثاني يمثله مثقفو البلاط المنخرطون في حاشية الحاجب كالكاتب عيسى بن سعيد والفقيه الزبيدي وابن حزم وابن شهيد وابن حدير وابن جوهر وغيرهم ممن يزينون للحاجب أخطاءه، فيخسرون أنفسهم ولا يربحون العالم. والنموذج الثالث يمثله الوزير ابن صمادح الذي يشكل نقطة تقاطع بين المسارين السرديين، ويتنقل بين أستجة والحاشية، ويوازن بين انخراطه في حياة العامة وانضمامه إلى الخاصة، ويدفع أثماناً باهظة للحفاظ على هذه الموازنة، لكنه يربح نفسه، في نهاية المطاف، ولا يخسر شهادة التاريخ. وهذا الأخير هو نموذج المثقف الذي تطرحه الرواية في مقابل نموذج الحاكم. والرواية، بشكل أو بآخر، هي مجرى العلاقة بين هذين النموذجين.

يتجسد المثقف في "زينة الدنيا" في  الوزير ابن صمادح. وهو التمظهر الأخير لشخصية تمظهرت في شخصيات عدة، وانتحلت عديداً من الأدوار لتبقى بمنأى عن أعين السلطة وأذرعها. وتعكس العلاقة التاريخية المتذبذبة بين السلطة والمثقف، القائمة على الحذر وعدم الثقة المتبادلة. ففي مواجهة الخطر الذي تشكله السلطة المطلقة على صاحب الرأي، يلجأ الأخير إلى التخفي والانتحال والتقية والمصانعة إيثاراً للسلامة في البداية، وطلباً للمعرفة لاحقاً، ظناً منه أن معرفة الشيء تتيح للعارف حسن التعاطي معه والسيطرة عليه. غير أن حساب حقل المثقف ابن صمادح لا يطابق حساب البيدر، فينقلب السحر على الساحر، ويدفع ثمن مغامرته غالياً.

الاسم الأصلي لابن صمادح هو زيري الفتى البربري المتحدر من عدوة المغرب، الذي يتخذه الخليفة الحكم، قبل موته، كاتباً يفشي له بسيرته الذاتية وما يكتنفها من أسرار، حتى إذا ما مات الحَكَم، واندلع الصراع على الحُكْم، يصبح الكاتب مطلوباً للسلطة الجديدة، ويكون عليه أن يبدأ حياة من المطاردة والتخفي. ينتحل خلالها شخصيات، هارون اليهودي، فقيه الجامع الكبير، قوميز الحجام، المغيرة الفرّان، وابن صمادح الوزير. وإذا كان انتحال الشخصيات الأربع الأولى هدف إلى التواري عن أعين السلطة والاحتماء منها، فإن انتحال الشخصية الخامسة والأخيرة هدف إلى التقرب من السلطة والاحتماء بها. 

شخصيات مختلفة

خلال هذا الانتحال الطويل للمثقف لشخصيات مختلفة، بهدف الاحتماء من السلطة أوالاحتماء بـها، يتحرك زيري بين فضاءين روائيين مختلفين، الفضاء الأول هو أستجة القرية الوادعة على نهر الشنيل أحد روافد الوادي الكبير التي تعبر عن فكرة الأندلس، فيلتقي فيها مجموعة من الأفراد المختلفي الدين والعرق واللون، وينخرطون في علاقات إنسانية راقية، يمارس كل منهم فيها طقوسه وشعائره في حرية تامة، ويشكلون أسرة واحدة فوق الانقسامات والحواجز، ما يشكل أندلساً صغيرة تقوم على التنوع ضمن الوحدة. في أستجة، يعيش جنباً إلى جنب، "رجل غنوصي، قوطي الأصل عربي الولاء، مع زوجته المسيحية، آوى فتى من البربر، مع زوجته اليهودية التي قضت، واحتضن الرجل امرأة زنجية مسلمة من البربر. ارتبطوا جميعاً في علاقة حب ومودة واحترام، ارتبطوا بشعور أسمى من التسامح (ص 442).

 الفضاء الثاني هو "قصر الزاهرة، حيث تُرعى أيديولوجيا تقوم على سمو عقيدة، وصفاء عرق، وصلف رجل. حيث تقوم على الانشطار ما بين الحاكم والمحكوم. بين الخاصة والعوام..." (ص 442). وفي هذا الفضاء، يتربص أفراد الحاشية ببعضهم بعضاً، ويكيد واحدهم للآخر، وتزدهر الوشاية والسعاية والنميمة.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

 ولئن كانت نهاية الرواية تتمخض عن موت الحاجب ابن عامر على فراش المرض، في أوضاع مزرية، في إشارة إلى أن القول الفصل هو لسلطة الزمن، وعن قتل الوزير ابن صمادح بعد وضعه في الإقامة الجبرية تسع سنوات، في إشارة إلى حتمية موت الجسد، فإن رفض الوزير الامتثال لأمر الحاجب الأخير في كتابة وصيته إلى ابنه، يشي بقدرة الروح على تحدي الموت، وبشجاعة المثقف في وجه سلطان جائر. ويأتي التشييع الرمزي له، وحفر قبره في مقبرة الربوة إلى جانب أبيه الروحي باشكوال الغنوصي وأمه الروحية مباركة الزنجية، وزوجته اليهودية راحيل، من ساكنة أستجة، بحضور الأصدقاء، ليشير إلى استمرار الفكرة الأندلسية حتى وإن مات حاملوها، فالأندلس "زينة الدنيا"، ولا دنيا بلا زينة. 

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة