Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

كايبوت الذي تكشف أكثر من مجرد فاعل خير ورسام لأيام الأحد

"ثلاثية هوسمانية" واستلهام أجنبي يعيدانه إلى مكانة متقدمة في الفن الفرنسي

"شارع أوروبا تحت المطر" لكايبوت (غيتي)

حتى عام 1994 كان ينظر إلى الرسام الفرنسي غوستاف كايبوت (1848 -1894) على أنه مجرد هاو للفنون ثري ينفق أمواله وأموال أسرته على الفنانين الانطباعيين من أصدقائه، مشترياً لوحاتهم ومساعداً إياهم على اجتياز شظف العيش حين تكسد سوق الفن، ثم في أحسن أحواله، باعتباره من أولئك الهواة الذين يسمون في فرنسا "مبدعي أيام الآحاد"، أي بالنسبة إليه رسام دون موهبة أو رؤية حقيقية يرسم في أوقات فراغه، وهو يأمل أن يقبل أصدقاؤه مقابل إحسانه عليهم أن يعلقوا لوحاته في بيوتهم. ولكن بدءاً من عام 1994 كان لا بد لذلك كله أن يتغير، وكان لا بد للحياة الفنية الفرنسية أن تعترف بكايبوت، أخيراً، بكونه فناناً من طينة متكاملة. يومها كان في الإمكان اعتباره نصف انطباعي/ نصف طبيعي، أو جعله خارج أي تصنيف على الإطلاق، ولكن لم يعد في الإمكان تجاهله. ولكن لماذا عام 1994 تحديداً؟

مروراً بالأجنبي

ببساطة لأنه من ناحية العام الذي أراد فيه بعض محبي أعمال كايبوت الفنية، وكانوا قلة يومها، أن يحتفلوا بالذكرى المئوية الأولى لرحيله هو الذي كان قد رحل قبل مئة عام تماماً، ولكن من ناحية ثانية لأن نقاداً مطلعين اكتشفوا يومها أن رساماً أجنبياً كبيراً هو النرويجي إدفارد مونخ (صاحب "الصرخة" بين روائع أخرى) والذي عاش ورسم في باريس ردحاً من حياته، استلهم واحدة من لوحات كايبوت ناقلاً عنها لوحة باريسية له رسم فيها مشهداً "كايبوتي" المنظور في الجادات الكبرى. ونعرف مدى ولع الفرنسيين عادة بأن يكتشفوا محاكاة مبدع أجنبي لواحد من مبدعيهم، وبالتالي كان لا بد أن ينعكس ذلك "الاكتشاف" المذهل على مواطنهم الذي شعروا فجأة أنه قد ظلم طويلاً في وطنه وآن الأوان لإعادته إلى مكانة يستحقها. فكانت المناسبة مناسبتين بالتالي.

عندما يبدي زولا إعجابه

وهكذا، انطلاقاً من المعرض الكبير الذي أقيم لأعماله حينها وضم لوحاته المتنوعة، عادت إلى الواجهة عدة دراسات عن كايبوت كانت صدرت قبل ذلك دون أن تلقى اهتماماً كبيراً. دراسات كانت طوال عقود قد حاولت أن تؤكد أن كايبوت ليس مجرد فاعل خير يساعد أصدقاءه ويشتري لوحاتهم لمجرد أن يمكنهم من الصمود في وجه عاديات الدهر، بل هو فنان انتقائي حقيقي. واستعيدت للمناسبة عبارات كان إميل زولا قد كتبها عنه باكراً حين أعلن أنه يعتبر كايبوت "فناناً شاباً ذا إقدام مدهش يجعله لا يتردد دون خوض المواضيع الأكثر جرأة" مؤكداً أن لوحته الأجمل "شارع في باريس تحت المطر" تبدع في تصويرها رجلاً وامرأة في مقدمة المشهد يسيران تحت المطر بتصوير حقيقي "متوقعاً لهذا الفنان أن يظهر بكونه الأكثر جرأة بين مجموعته من رفاقه في الفن حين تصبح خطوطه أكثر مرونة". ومن الواضح هنا أن "المجموعة" التي يشير إليها زولا هي مجموعة الانطباعيين التي كان كايبوت معتبراً من أفرادها، لكن إعجابه به كان ينبع من تطبيق الرسام نظريات زولا نفسه في الرسم الطبيعي.

ثلاث سمات لمشهد عمراني

والحقيقة أن انتقائية كايبوت جعلته يبدو طبيعياً في بعض الأحيان، واقعياً في أحيان أخرى، تجريبياً حيناً وانطباعياً متطرفاً في أحيان أخرى هو الذي رسم في المدينة كما رسم في الريف، رسم خارج البيوت وداخلها – وبخاصة داخل بيته البورجوازي المطل على شارع لافاييت المحاذي لساحة أوروبا وسط منطقة العمران المنسوبة إلى البارون هوسمان الذي كان يحدث، أيام كايبوت واحدة من أكبر الثورات العمرانية التي عرفتها باريس في تاريخها الحديث. ولعل في إمكاننا في هذا السياق أن نتوقف ليس فقط عند اللوحة التي ذكرها زولا، بل عند ما لا يقل عن "ثلاثية" لكايبوت تعتبر تلك اللوحة جزءاً منها، وهي التي تعارف النقاد والمؤرخون على تسميتها "الثلاثية الهوسمانية" واعتبروها من أجمل وأقوى إنجازات الرسام. وتتألف هذه "الثلاثية" من لوحة "شارع أوروبا تحت المطر"، وهو العنوان الكامل للوحة التي أشار زولا إليها، و"جسر أوروبا" و"عمال طلاء المباني" واللوحات الثلاث أنجزها كايبوت بين 1876 و1877. وكايبوت قدم هذه اللوحات الثلاث معاً لتعرض في معرض عام 1877 معاً بشكل متكامل على اعتبار أنها تمثل ثلاث سمات من المشهد العمراني لمنطقة واحدة هي حي "أوروبا" المجاور مباشرة لمنزله.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

الفن وتحديث المدينة

وهذا الحي الذي سيكون أول مشهد حضري تتفتح عليه نظرة كايبوت كان قد بدأ تكونه في عام 1826 لكنه لن يكتمل قبل عام 1868 مضفياً على تلك الناحية من الوسط الباريسي سماتها التي لا تزال محتفظة بها حتى اليوم، لا سيما منذ تم إنشاء ذلك الجسر الحديدي الضخم الذي ربما أتى إيذاناً بالعمران الحديدي اللاحق الذي سيمثله برج إيفل في الناحية الأخرى من باريس ضمن إطار البنيان الحديدي الذي استند عليه المعرض العالمي حينها. المهم هنا هو أن كايبوت صور في لوحات تلك الثلاثية ثلاثة مشاهد متنوعة، إنما متكاملة، من تجديد عمراني كشف عن ملامح التجديد في العاصمة الفرنسية، لكنه كشف كذلك عن التقاط الرسام لذلك التجديد في لغة فنية فريدة من نوعها وتقف، كما أشرنا، خارج التصنيف. وفي هذا السياق لم يكن غريباً أن يختار كايبوت ملونة رمادية لتعبيره في اثنتين من اللوحات، بينما آثر أن تكون السماء مشرقة والألوان أكثر ربيعية في اللوحة الثالثة. غير أن المشترك في اللوحات الثلاث هو قلة عدد المارة وكأن الأحياء المرسومة كانت لا تزال تنتظر مارتها. ولئن كانت لوحة "شارع أوروبا تحت المطر" (300 سم عرضاً، و209 سم ارتفاعاً والمعلقة في متحف الفن في شيكاغو الأميركية) تبقى الأشهر بين تلك اللوحات من جراء الشجاعة الفنية التي عبر بها كايبوت عن المشهد قاسماً اللوحة عمودياً إلى قسمين يتوسطهما عمود إنارة، فإن لوحة "جسر أوروبا" (180سم×125 والموجودة في القصر الصغير في جنيف) تبدو الأكثر إشراقاً وحداثة من خلال المركز الجانبي الذي يتخذه الجسر الحديد فيها والاشتغال على ظلال المارة كتصوير للشمس المشرقة والمطلة بنورها من خلال قضبان الجسر. وفي المقابل، حتى ولو بدت اللوحة الثالثة أصغر حجماً (116سم×89 سم ، مجموعة خاصة) وأكثر تعبيراً عن خلو الشارع إلا من بضعة عمال طلاء واقفين يتأملون العمل الذي يتعين عليهم إنجازه، من الجلي أن هذه اللوحة تظل الأقوى تعبيراً وتجريبية من ناحية تجديديتها الفنية. ولا شك أنه كان من شأن إميل زولا أن يقف طويلاً عند هذه اللوحة بالنظر إلى أنها تبدو، بعد كل شيء، الأكثر تصويراً للعمال وحياتهم وعملهم وهو ما عبر عنه هو نفسه في العدد الأكبر من رواياته "الطبيعية" والتي عرف فيها كيف يصور تكون الحياة والأيام والأعمال في العاصمة الفرنسية.

حداثة فنان متواضع

وعلى ذكر زولا واهتمامه بحياة العمال وأعمالهم، لا بد من أن نشير هنا أيضاً إلى سلسلة من لوحات أخرى لكايبوت حققها كذلك أواسط سبعينيات ذلك القرن مصوراً فيها عمالاً يركبون أرضية خشبية داخل غرف بيوت كنوع من التدليل على تلك الحداثة التي دخلت الحياة الاجتماعية الباريسية حينها وتمكن كايبوت عبر التعبير عنها من أن يفصل نفسه تماماً عن الانطباعيين وغيرهم من الذين جاراهم على أي حال في لوحاته الريفية، ليدخل فنه في دروب حداثة استثنائية قد يصفها البعض بأنها تنتمي إلى الحداثة الفكرية والأدبية بأكثر مما تنتمي إلى الحداثة الفنية، لكنها عرفت كيف تترك لتاريخ الفن أعمالاً مدهشة من فنان متواضع ومجتهد كان عليه أن ينتظر مئة عام بالتمام والكمال قبل أن يتمكن من أن يقول أخيراً: أنا لست الفنان البسيط الذي تعتقدون!

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة