لا شك أن العلاقة التي قامت بين الرسام الفرنسي إدوار مانيه ومواطنه الكاتب إميل زولا كانت واحدة من أكثر العلاقات تركيبية وخصوبة في تاريخ الحياة الثقافية الفرنسية خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر. ولقد بدأت تلك العلاقة حتى قبل أن يلتقي المبدعان ويتعرفان إلى بعضهما بعضاً، بالتالي قبل أن ينجز مانيه ذلك البورتريه الذي سوف يلتصق منذ ذلك الحين وإلى الأبد ليس فقط بملامح صاحب "روغون – ماكار" بل كذلك بروحيته وعوالمه النفسية والثقافية، بحيث أن زولا نفسه سيقول أن ما من عمل فني عرف كيف يعبر عنه بمقدار ما عبرت عنه هذه "التحفة" التي أنجزها مانيه بعدما التقيا وصارا صديقين ثم قبل أن تقع الواقعة بينهما ويبدآ بالابتعاد عن بعضهما البعض. ولنقل هنا أن الصداقة الحميمة والمثمرة بين الرجلين لم تدم سوى سنوات قليلة حتى وإن كان مانيه سيبقى إلى الأبد ممتناً لزولا كونه كان من القلائل الذين دافعوا عنه يوم وجد نفسه وحيداً ومنبوذاً. ولا شك أن اللوحة التي أنجزها مانيه بين 1867 و1869 لمانيه تمثل ذروة ذلك الامتنان، علماً بأن الرسام وصديق الطرفين هنري فانتان لاتور كان بدوره قد التقط جوهر علاقتهما وإن كان بعبقرية أقل في لوحته التي تصور زولا ومانيه في المحترف في باتينيول محاطين بالرفاق (1970).
من فضيحة "أولمبيا" إلى "الزمار"
بدأت العلاقة بين زولا ومانيه في عام 1866 بعد عام من "اندلاع" ما سمي بفضيحة لوحة "أولمبيا" لمانيه. وكان ذلك لمناسبة رفض لجنة صالون ذلك العام لوحة "الزمار" لمانيه فما كان من زولا الذي كان يكتب حينها حول الشؤون الفنية في صحيفة "ليفانمان" إلا أن تصدى للصالون بمقال عنيف مدافعاً عن مانيه معتبراً إياه من ضحايا تعنت الصالون ومسؤوليه. وعلى إثر نشر ذلك المقال التقى الرجلان ليرتبطا بتلك الصداقة التي دامت حتى عام 1769 من دون أن تخبو نهائياً بعد ذلك حتى وإن كانت صحيفة "الفيغارو" قد نشرت ترجمة لحديث أجرته صحيفة روسية مع زولا قال فيه أن "مانيه يبدو لي اليوم وكأن تسرعه في إنتاج لوحاته قد أنهكه، فبات يكتفي بالتقريبيات ولا يدرس الطبيعة بشغف المبدعين الحقيقيين...". يومها حاول زولا أن يقنع صديقه بأنه إنما كان يتحدث هنا عن مونيه وليس عن مانيه، لكنه لم يكن مقنعاً وراحت الصداقة تختفي من دون أن يسفر ذلك عن قطيعة حقيقية. ولعل أكثر ما أثار استياء مانيه قول زولا في الحديث نفسه أن "يد الرسام لم تعد قادرة على اللحاق بعينه، بالتالي فإنه لم يعرف كيف يكوّن لنفسه تقنية خاصة".
زولا يوصل مانيه إلى ذروة المجد
قبل ذلك بعامين أو ثلاثة إذن كان زولا قد أوصل فن مانيه إلى الذروة، لا سيما بعد أن فُتن كثر بالبورتريه الذي صوره هذا الأخير له. وهو البورتريه الذي قال عنه زولا في مجالسه الخاصة أنه يعادل عدداً كبيراً من كتب يمكن أن تكتب عنه. ولسوف يؤكد زولا أن العمل على ذلك البورتريه والذي استغرق شهوراً طويلة إنما نتج من حوارات بينه وبين الرسام طاولت عدداً كبيراً من شؤون الفن والأدب والحياة. وهذه اللوحة المعلقة الآن في متحف أورساي الباريسي والتي يبلغ ارتفاعها أكثر من 146 سم وعرضها 114 سم، كانت قد ظهرت أول ما ظهرت في المعرض الباريسي الرسمي عام 1868 لتؤكد العلاقة الفكرية والروحية بين الرسام الذي كان قد بلغ أوج شهرته ولكن ليس دائماً بالمعنى الإيجابي للكلمة، وبين الكاتب الذي إذ لم يكن معروفاً إلى حد كبير في الأوساط العامة تبدت تلك اللوحة خير من يقدمه ويشكل نوعاً من المدخل لإدراك ثنايا أدبه وشخصيته.
بعد بصري للروح "الجوانية"
في اللوحة لدينا الكاتب جالساً بكل هدوء وتأمل واطمئنان إلى ما يبدو وكأنه طاولة عمله محاطاً بالعديد من الكتب واللوحات والأدوات المتراوحة بين أوراق ومحبرة وريش وما إلى ذلك ما يعزز من حوله مناخ مهنته وانشغالاته. والكتب التي يمكن التعرف إليها ومنها بين يدي الكاتب تحديداً كتاب "تاريخ الرسامين" لشارل بلان الذي كان يعتبر المرجع الأوفى في ذلك الحين بالنسبة إلى هذا الموضوع، ما يدل بالطبع إلى اهتمامات زولا الفنية ويقرّب بينه وبين صديقه الرسام. لكن ذلك لم يكن كل شيء في هذا السياق. فالحال أن مانيه قد عمد أيضاً إلى أن يحيط جلسة الكاتب بعدد من لوحات معلقة كيفما اتفق على الجدار منها واحدة تمثل نسخة من لوحة "أولمبيا" لمانيه نفسه كنوع من التذكير بالموقف "المشرف" الذي كان لزولا إزاء هذه اللوحة، وهو موقف لن يتوانى مانيه دائماً عن الإشادة بموضوعيته، إذ لم يكن اللقاء قد تم بعد بين الرسام والكاتب حين اتخذه هذا الأخير. وإلى جانب نسخة "أولمبيا" ثمة نسخة تمثل رسماً يابانياً للرسام كانياكي من الواضح أنه يحيل مباشرة إلى عبارة كتبها زولا بصدد فن مانيه يماثل فيها بين هذا الفن وبعض سمات الفن الياباني من حيث بساطة الخطوط المشتركة بين الفنين. وإلى هذا يمكننا أن نلمح أيضاً معلقة على الجدار نسخة مطبوعة من لوحة لبيلاسكويث.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
تكوين بيئة مقصودة
ومن المؤكد أن تجميع هذه الأعمال الفنية من حول إميل زولا لم يكن هنا نتاج فعل الصدفة، بل كان متعمداً تماماً من جانب الرسام الذي من الواضح أنه رغب من خلال هذه اللوحة، ليس فقط أن يوجه تحية إلى زولا تؤطره ضمن سياق مرجعية فنية بصرف النظر عن مرجعياته الأدبية المعتادة، بل كذلك التدليل على صوابية ما رآه زولا نفسه في فن مانيه ومرجعياته الدلالية. وكأن مانيه قد أراد هنا أن يرسم ما يمكن أن يكون بورتريه فكرياً مزدوجاً يجمعه مع زولا في أبعاد رمزية قد لا تكون مسرة للكاتب لكنها بالتأكيد تعطيه حقه بعيداً من انحصاره في اهتمامات أدبية. ولعل من المفيد أن نذكر هنا ما كتبه إميل زولا حول هذه اللوحة في مقال مطول له نشره تحت عنوان "إدوار مانيه" فهو كتب: "لقد سألني واحد من أصدقائي أمس عما إذا كنت سوف أكتب عن هذه اللوحة التي تمثل "بورتريه" لي، فقلت له: لمَ لا؟ بل إنني بحاجة إلى عشرة أعمدة كي أكرر بصوت عال ما كنت أقوله بصوت منخفض طوال الساعات التي كنت أجلس فيها وأنا أشاهد مانيه يتصارع مع الطبيعة لكي يطلع من ذلك بتلك اللوحة. هل يمكنك أن تتصور زهوي وأنا أحس كم أن الرسام يقود الناس لكي يشاهدوني على طبيعتي من خلال لوحته؟ أجل سوف أتحدث عن هذه اللوحة باستفاضة. أما المازحون الذين قد يجدون في الأمر برمته مادة تصلح لمزاحهم الأرعن فليسوا أكثر من حمقى".
بعيداً من حماقات السابلة
ويضيف زولا هنا كيف أنه لا يزال يتذكر تلك الساعات الطويلة التي كان يجلس خلالها كموديل للرسام والأفكار تتلاطم وتعوم في ذهنه "حيث كان ضجيج الناس الأحمق وهم يعبرون الشارع صاخبين بغباء وأكاذيب البعض وسطحيات البعض الآخر، كل هذا يبدو بعيداً وبعيداً جداً" عنه وعن صديقه الرسام، إذ يسيل في طريقه كالمياه الآسنة "بشكل جعلني أشعر في كل لحظة وكأنني موجود خارج العالم أطير في هواء الحقيقة والعدالة مأخوذاً بشفقة لا تنضب تجاه أولئك البائسين العابرين في زحام الشارع غير بعيد عنا...". ومن الواضح أن هذا الكلام الذي كتبه زولا بصدد البورتريه الذي رسمه له إدوار مانيه (1832 – 1883) يغني عن أي شرح إضافي لكنه يدفعنا إلى التساؤل طبعاً حول السبب الحقيقي الذي أشعل الخلاف بين الصديقين ضارباً واحداً من أعمق الصداقات التي انعقدت بين كاتب وفنان في ذلك الزمن.