Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

هل تختبر الصين "لحظة سبوتنيك" لتحملها على اللحاق بركب أميركا تكنولوجيا؟

كيف عززت واشنطن سعي بكين نحو الهيمنة التكنولوجية

خريطة الصين كما تظهر من خلال عدسة مكبرة على شاشة الحاسوب، سنغافورة، يوليو (تموز) 2021 (إدغار سو، رويترز)

في عام 2016 هزم برنامج الحاسوب "ألفاغو" (AlphaGo) الذي طوره خبراء تعليم الآلة في لندن أفضل لاعب في العالم في لعبة "غو" اللوحية الصينية التقليدية. وشكل الحدث إنجازاً ثورياً في الذكاء الاصطناعي: فقد كشف برنامج "ألفاغو" عن قدرة غير مسبوقة في مجالي التنبؤ وتمييز الأنماط. وبما أن برنامجاً غربياً كان الأول في تسجيل هذا الإنجاز في مجال الذكاء الاصطناعي، أعلن بعض المعلقين أن الصين اختبرت "لحظة سبوتنيك"، وهو حدث أثار اضطراباً واسع النطاق في البلاد حول تأخرها التكنولوجي المُتصور. عاشت الصين بالفعل "لحظة سبوتنيك" في السنوات الأخيرة- إنما ليس بسبب انتصار "ألفاغو". بل ما حدث هو أنه منذ عام 2018، هدد التشديد في القيود التجارية الأميركية عليها قدرة بعض أكبر الشركات الصينية على الاستمرار مما خلق توتراً في بكين وأرغم الشركات الصينية على إعادة ابتكار التقنيات الأميركية التي ما عاد بإمكانها اقتنائها.

 تطمح الحكومة الصينية منذ زمن بعيد إلى تحقيق هدف مزدوج من خلال سياستها الصناعية: أن تصبح أكثر اعتماداً على ذاتها اقتصادياً وأن تبلغ مرتبة العظمة التكنولوجية. واعتمدت إجمالاً على الوزارات الحكومية والشركات التي تملكها الدولة في سعيها لتحقيق هذه الأهداف، لكن جهودها كانت إجمالاً دون المستوى المرجو. ففي مجال إنتاج شبه الموصلاتsemi-conductor، مثلاً، بالكاد تخطت الصين مرحلة البدايات. وفي المقابل، وقفت الشركات التجارية الصينية الخاصة وراء الجزء الأكبر من نجاح البلاد على الصعيد التكنولوجي، على الرغم من عدم توافق مصالحها دائماً مع هدف الدولة بتعزيز قطاع التكنولوجيا المحلية. وقد بدأت بكين أخيراً، مثلاً، بقمع بعض الشركات التي تقدم خدمات الإنترنت للمستهلكين وشركات التعليم عبر الإنترنت، ويعود السبب جزئياً إلى سعيها لتحويل جهود البلاد نحو مجالات تكنولوجية استراتيجية أخرى مثل شرائح الحاسوب. وهو ما يعني أن أبرز الإنجازات التكنولوجية الصينية- أي بناء إمكانيات متطورة جداً في مجال الطاقة المتجددة، وخدمات الإنترنت للمستهلكين، والإلكترونيات والتجهيزات الصناعية- قد تحققت رغماً عن تدخل الدولة بقدر ما تحققت بفضله.

ثم أتى الرئيس الأميركي دونالد ترمب. وعبر فرضه عقوبات على الشركات التجارية الصينية، أرغمها على التوقف عن الاعتماد على التقنيات الأميركية ومنها شبه الموصلات. وتسعى معظمها الآن إما إلى إيجاد حلول محلية بديلة أو تصميم التقنيات اللازمة بنفسها. وبعبارات أخرى، حققت مناورة ترمب ما عجزت الحكومة الصينية عن تحقيقه: أي التوفيق بين الحوافز التي تحرك الشركات الخاصة من جهة وهدف الدولة بالوصول إلى الاكتفاء الذاتي اقتصادياً، من جهة أخرى.

خليط متفاوت

اعتادت الحكومة الصينية على التدخل في الاقتصاد منذ الأيام الأولى للجمهورية الشعبية. وإضافة إلى خططها الخمسية الشهيرة، التي طُبقت أولها في عام 1953، وضعت الحكومة عدة خطط سرية ركزت بشكل واضح على تطوير قدراتها التكنولوجية. وطيلة عقود من الزمن، شكلت البيانات والتصريحات الفارغة الجزء الأكبر من السياسة الصناعية. وشهدت تسعينيات القرن الماضي بشكل خاص قيام الحكومة بإصدار سلسلة من السياسات الصناعية التي كانت أقرب إلى الطموحات منها إلى الأهداف المُلزمة، ولم يكن من المفاجئ بالتالي أنها لم تنجح بتحقيق أي شيء يُذكر.

وكما أشار الخبير الاقتصادي باري نوتن، أتت نقطة التحول مع تطبيق "الخطة (الحكومية) على المدى المتوسط والبعيد في مجال العلوم والتكنولوجيا" في عام 2006. إذ إنه خلافاً لتنفيذها الضعيف للسياسات الصناعية السابقة، خصصت بكين موارد مالية وإدارية ضخمة لهذه الخطة. وخطط مجلس الدولة، أعلى السلطات الإدارية في الصين، لتطوير 16 "مشروعاً ضخماً"، وُضع كل منها تحت ولاية وزارة معينة، وحولت بين 5 و6 مليارات دولار سنوياً لهذه الجهود- وهو ما لم يحصل في السياسات السابقة. ومع أن بعض هذه المشاريع الضخمة أحرزت تقدماً طفيفاً، غير أن البرنامج ككل أنفق مبالغ طائلة من دون أن يحسن قدرات البلاد التكنولوجية بشكل ملموس.

تبذل الصين حالياً جهداً يشمل المجتمع بأسره من أجل النهوض بقطاع التكنولوجيا المحلية

ولكن، في الواقع، صارت خطة المدى المتوسط والبعيد تمريناً لسياسة الصين الصناعية الآخذة بالتطور. في عام 2010، كشف مجلس الدولة عن مبادرة أخرى صنفت التكنولوجيا الناشئة، مثل السيارات الكهربائية والجيل القادم من الحواسيب، على أنها محركات النمو الاقتصادي. وبحلول ذلك الوقت، كانت الأزمة المالية العالمية قد فتحت جيب الصين [زادت الإنفاق الصيني]، وبدأت الحكومة تغدق الموارد على المشاريع المفضلة. وإضافة إلى الدعم المالي المباشر، قدمت الحكومة الصينية الدعم لشركات التكنولوجيا المحلية عبر وسائل أخرى- عبر استخدام القوة الشرائية الحكومية مثلاً، من أجل زيادة الطلب على ألواح الطاقة الشمسية.

لكن المحور الأساسي الذي يركز عليه جهاز التخطيط الصناعي للدولة الصينية هو خطة "صُنع في الصين 2025". وتسلط الخطة التي أُعلن عنها في عام 2015 الضوء على عشرة مجالات في صناعة التكنولوجيا المتطورة يجب أن تحرز فيها الشركات الصينية إنجازات كبيرة، وهي تضع كذلك أهدافاً مفصلة بشكل لافت لتحقيق الاكتفاء الذاتي. وتحدد إحدى الوثائق الاستشارية مثلاً أنه على صناعة شبه الموصلات الصينية أن تغطي بين 49.10 و75.13 في المئة من حجم السوق المحلية في عام 2030، وأن الصناعات المحلية يجب أن تتقن أصول الطباعة الحجرية باستخدام الأشعة ما فوق البنفسجية الشديدة مع قدوم عام 2025، وأن البلاد يجب أن تبلغ مرحلة إنتاج وحدات المعالجة المركزية متعددة النواة لخوادم الحواسيبmulticore central processing units بحلول عام 2030. وتعيد هذه الأهداف المفصلة إلى الأذهان أيام الاقتصاد الموجه في الصين، حين كانت الدولة تدير أدق تفاصيل الإنتاج الصناعي بأكمله. 

أثار مشروع "صنع في الصين 2025" رد فعل عنيفاً في أوساط دول صناعية عدة، شعرت بالقلق إزاء محاولات الصين السيطرة على التكنولوجيا المتطورة. ولأنهم لم يتوقعوا رد الفعل هذا، حاول القادة الصينيون بالتالي التقليل من أهمية "صُنع في الصين 2025" باعتباره تمريناً طموحاً في التخطيط طوره أكاديميون تتملكهم ثقة مفرطة. لكن بحلول ذلك الوقت، كانت الدولة قد أطلقت بالفعل سلسلة من الخطط التي تركز على النهوض ببعض التكنولوجيات المحددة- مثل شبه الموصلات والذكاء الاصطناعي- كما مقترحات ضخمة للدعم المباشر، وتسهيل الحصول على التمويل، وضخ استثمارات من أموال القطاعين العام والخاص. وأظهرت بكين سابقاً رغبتها ليس في اللحاق بركب تكنولوجيات الماضي فحسب بل في الهيمنة على صناعات المستقبل كذلك- وكانت مستعدة لإنفاق مبالغ طائلة من أجل تحقيق هذا الهدف.

ما الذي نجحت الصين بتحقيقه فعلياً بفضل هذه الخطط؟ لو أثمرت برامج السياسة الصناعية الأخيرة، لكانت البلاد الآن عملاقاً تكنولوجياً- لكنها ليست كذلك. أتقنت الشركات الصينية إنتاج بعض السلع ومنها تقنيات الطاقة المتجددة، والسيارات الكهربائية ولوازم سكك الحديد عالية السرعة، والآلات الثقيلة، وقطع غيار السيارات. كما أن الصين تتصدر عملية نشر شبكة اتصالات الجيل الخامس، مدفوعةً بقوة شركة هواوي (Huawei) في معدات شبكات الهواتف المحمولة.

إنما في البنود الأهم التي تشكل أهدافاً واضحة للحكومة، مثل شبه الموصلات وتقنيات الطيران، فشلت سياسة الصين الصناعية. أسفرت البرامج البعيدة المدى المخصصة لتطوير شبه الموصلات عن بضعة نجاحات متواضعة لكنها لم تنتج إجمالاً سوى شركات متعثرة تبعد كل البعد عن الطليعة والريادة. وما زالت شركة الطائرات التجارية الصينية (كوماك COMAC)، وهي النسخة الصينية من إيرباص (Airbus) وبوينغ (Boeing)، متخلفة سنوات عدة في عملية إنتاج أسطول جديد من الطائرات. كما عملت الصين طيلة عقود على تطوير ماركة سيارات يمكنها أن تعد من بين أفضل مصنعي السيارات في العالم- لكن شركات صناعة السيارات فيها واجهت صعوبة في التوصل إلى أي منتج قد يرغب المستهلكون في الدول المتطورة باقتنائه فعلاً.

وحتى قصص النجاح تشوبها تحفظات. حين تتقن الشركات الصينية صناعة منتج معين، تحوله في نهاية المطاف إلى سلعة استهلاكية، فتنخفض الأرباح التي يدرها المنتج بشكل عام- بما في ذلك بالنسبة لها. ربما تسيطر الشركات الصينية على قطاع الألواح الشمسية، لكن المنافسة في السوق شديدة إلى حد أن شركات قليلة فقط تحصد أي أرباح تُذكر. وربما تتصدر الصين كذلك قطاع السكك الحديدية عالية السرعة، لكنها حققت هذا الإنجاز عبر إلزامها الشركات الأجنبية بتسليم التقنيات الحساسة إلى منافسين محتملين، مما أثار استياء العديد من الشركاء الأجانب. وما زال عدد كبير من الشركات الصينية الرائدة يعتمد بشكل حيوي على التقنيات الأميركية.

وبعبارات أخرى، لم يتحد التخطيط المركزي الصيني مركز الثقل الاقتصادي ولم يثبت بأن الحكومة تعرف أكثر من السوق. وفي الصين فرق معبر بين الشركات المُصنفة رسمياً بأنها جزء من نظام الدولة وتلك التي أسسها رواد الأعمال: فالشركات المملوكة للدولة، مثل كوماك وشركة الصين للاتصالات المحدودة (تشاينا تلكوم China Telecom) وشركة البترول والكيماويات الصينية (سينوبك Sinopec)، ليست أكثر الشركات تنافسية على الصعيد العالمي. أما الشركات الصينية الناجحة من قبيل بايت دانس (ByteDance الشركة التي أسست تيك توك) ودي جي آي (DJI وهي شركة كبيرة تصنع طائرات مسيرة للمستهلكين)، فقد نمت وتطورت حول القطاع الحكومي وليس من خلاله. والشركات المملوكة للدولة معزولة عن المنافسة الحقيقية في السوق، وتتعامل مع نظيراتها من شركات خاصة بغيرة، وحتى أنها تستخدم سلطة الدولة أحياناً لكي تقضي عليها. وفي أغلب الأحيان، ينتج الاعتماد على الإنفاق الحكومي شركات كسولة [متخاذلة] تعيش على الدعم المالي بدل أن يؤدي إلى استفادة الشركات الخاصة من مساعدة الدولة. 

صحيحٌ أن السياسات الصناعية الصينية أحرزت بعض النجاحات. فالصين اليوم سوق ضخمة فيها عدد متزايد من الشركات النشيطة. وتدرب قاعدة التصنيع الكبيرة الكثير من العمال على إنتاج تقنيات معقدة. سهلت ضخامة حجم الصين إرساء بنية تحتية تنافسية للمشتريات الحكومية، مما سرع حصول بعض التطورات التكنولوجية القوية، كما حصل مثلاً في مجال الطاقة الشمسية. لكن هذه السياسات لم تدفع بالصين إلى موقع الصدارة في التقنيات الأساسية مثل شبه الموصلات- ولم تضطلع الحكومة بأي دور يُذكر في الانجازات المباشرة التي حققتها كبرى الشركات التكنولوجية الصينية. فالشركات الخاصة العملاقة على الانترنت، بايت دانس وعلي بابا (Alibaba) وتنسنت (Tencent) هي الشركات الوحيدة القادرة على اعتبار نفسها متساوية مع نظيراتها في سيليكون فالي. وفي قطاع معدات الحاسوب، تعد الشركات الريادية مثل "دي جي آي" و"هواوي" و"لينوفو" (Lenovo) الشركات الصينية الوحيدة التي تطور منتجات استهلاكية متطورة وحديثة. 

أكثر من اللازم؟

لم يحل ضعف التخطيط المركزي الصيني دون أن تطلق خطة "صُنع في الصين 2025"ناقوس الخطر في واشنطن. وفي الأسبوع الأخير من رئاسة باراك أوباما، أطلق البيت الأبيض خطةً للدفاع عن تصدر الولايات المتحدة قطاع شبه الموصلات. وحين استلم دونالد ترمب الرئاسة، كانت الرغبة قد تشكلت لدى الحزبين الرئيسيين لمجابهة الممارسات التجارية الصينية الافتراسية.  

وتُعتبر العديد من الخطوات الأولى التي اتخذتها إدارة ترمب في هذا الإطار منطقية. فالصين تفرض على الشركات المحلية أن تستثمر في مؤسسات تجارية خارجية لكي تكتسب التكنولوجيا التي تنقصها في الداخل وهي سياسة أثارت مخاوف من أن يؤدي الأمر في نهاية المطاف إلى حيازة الصين أجزاء كبيرة من قطاع التكنولوجيا الأميركي. وبعد إقدام مجموعة "تسنغهوا يونيغروب" (Tsinghua Unigroup)، وهي شركة تملكها الدولة تصنع شبه الموصلات، على محاولة مكشوفة في عام 2015 لشراء شركة "مايكرون تكنولوجي" (Micron Technology)، وهي آخر شركة أميركية تصنع شرائح الذاكرة [الإلكترونية]، ردت إدارة ترمب في عام 2018 بتشديد طريقة مراجعتها [تقييم] للاستثمار الخارجي في الشركات المحلية. ومنح الكونغرس والبيت الأبيض لجنة الاستثمارات الخارجية في الولايات المتحدة صلاحيات جديدة لعرقلة الاستثمارات الخارجية في شركات التكنولوجيا الحساسة. كما خصصت وزارة العدل موارد إضافية لمحاكمة سرقة الأسرار التجارية. وفصل مكتب الممثل التجاري للولايات المتحدة الممارسات التجارية الصينية غير العادلة ووضع الأساس القانوني لفرض تعريفات جمركية على بعض المنتجات الصينية التي حددتها خطة الصين 2025.

تعمل الدولة الصينية والشركات الرائدة في البلاد يداً بيد لكي لا تبقى أي شركة صينية تحت رحمة السياسات التجارية الأميركية

لو توقفت إدارة ترمب عند هذا الحد، لكان رد فعلها خطة مناسبة لحماية الشركات الأميركية من الممارسات الصينية الافتراسية. لكنها تخطت هذا الحد كثيراً وأنشأت نظاماً موسعاً للسيطرة على الصادرات حول هيمنة الولايات المتحدة على التكنولوجيا مثل شبه الموصلات إلى سلاح هدفه شل الشركات الصينية. ولأن هذه العقوبات حرمت الشركات الصينية من قدرة الوصول إلى المكونات الأميركية الصنع، فقد شكلت تهديداً على استمرارية هذه الشركات حتى داخل سوقها المحلية.

حين منعت إدارة ترمب بيع قطع حيوية مصنوعة في الولايات المتحدة لشركة الاتصالات الصينية "زي تي إي" (ZTE)، مثلاً، أدى ذلك إلى انهيار عمل الشركة. وقد تصرفت بالطريقة نفسها مع شركة "فوجيان جينهوا" (Fujian Jinhua)، التي كانت حينها الشركة الرائدة في صناعة شرائح الذاكرة في الصين، وانهار عملها هي الأخرى. ووصلت "إراقة الدماء" [التصعيد] إلى ذروتها في الأيام الأخيرة لرئاسة ترمب. بحلول ذلك الوقت، كانت وزارة التجارة الأميركية قد أضافت الشركات الصينية "دي جي آي"، و"هيك فيجن" (Hikvision وهي شركة أجهزة فيديو أمنية)، و"هواوي"، و"الشركة الدولية لتصنيع أشباه الموصلات" (SMIC) إلى قائمة الكيانات التي قامت بتقييد إمكانية وصولها إلى التكنولوجيا الأميركية، سواء لأسباب ترتبط بالأمن القومي أو بالسياسة الخارجية. كما أعلن البيت الأبيض عن وضع أوامر تنفيذية هدفها حظر "تيك توك" (TikTok) و"وي تشات" (WeChat) في الولايات المتحدة، لكن لغة الأوامر كانت فضفاضة لدرجة أنها ربما كانت لتمنع أي شخص أو شركة أميركية من التواصل مع شركاتهم الأم.

وخص البيت الأبيض شركة هواوي بأشرس الهجمات. فكتبت وزارة التجارة قانوناً معقداً للغاية لـ"هواوي" وحدها، مشددة على حقها في تطبيق الحظر على كافة المكونات التي تُباع للشركة إن كانت تستند إلى تقنيات أميركية، حتى وإن صنعتها شركات أجنبية في الخارج. منع هذا الحظر "هواوي" من العمل ليس مع الشركات الأميركية فحسب، بل أيضاً مع العديد من البائعين الصينيين والتايوانيين والأوروبيين الذين تتعامل معهم، فأصبح وضعها غير مستقر. والشركة عاجزة اليوم عن الحصول على مكونات جديدة وقد اضطرت للاعتماد على مخزونها المتناقص للاستمرار بعملها. أما مبيعات هواتف "هواوي" الذكية فتنهار، وإزاء ذلك، تحولت الشركة نحو أعمال تتطلب تقنيات منخفضة وأرباحها أقل، مثل قطع غيار السيارات وتقنيات مزارع الأسماك.

اتحاد غير متوقع

راقبت بكين بغضب قيام إدارة ترمب تباعاً بتصنيف شركاتها كمخاطر على الأمن القومي وفرضها قيوداً مشددة عليها. وتعهدت وزارة الخارجية الصينية مرة تلو الأخرى باتخاذ "كافة الإجراءات المضادة اللازمة" فيما توعدت الوسيلة الإعلامية القومية "ذا غلوبال تايمز" (The Global Times) بالرد عبر الاقتصاص من شركات "أبل" (Apple) و"بوينغ" (Boeing) و"سيسكو" (Cisco) و"كوالكوم" (Qualcomm).

 لكن بكين لم تقرن خطابها الشرس [اللاذع] بالفعل. بل في الحقيقة، وبدل أن تتعامل مع "أبل" بالطريقة نفسها التي تعاملت فيها الحكومة الأميركية مع "هواوي"، استمرت الحكومة الصينية إجمالاً بمعاملة الشركات الأجنبية بترحيب وحرارة. مُنحت "تيسلا" (Tesla) مثلاً، رخصة غير مسبوقة لإنشاء مصنعٍ لصناعة السيارات مملوك لها بالكامل في شنغهاي. ومن الواضح لماذا ترغب بكين بالحفاظ على علاقات جيدة مع الشركات الأميركية: فهي من أكبر المشغلين في الصين، وتستمر بتوفير تكنولوجيا حيوية، وهي تشكل قوة اعتدال في مواجهة تشدد الحكومة الأميركية.

وفي الوقت نفسه، تدفع بكين بقوة باتجاه الاكتفاء الذاتي في مجال التكنولوجيا. وقد تكلم كبار المسؤولين ومنهم الرئيس شي جينبينغ عن أهمية تحسين "الابتكار المحلي" والسيطرة على "التقنيات التي تعتبر نقاط ضغط" عليها [نقاط ضعفها]. وقد حدد مؤتمر العمل الاقتصادي المركزي لعام 2020، وهو اجتماع سنوي يضع جدول الأعمال الوطني للاقتصاد الصيني، التقدم في مجال العلوم والتطور في مجال التكنولوجيا باعتبارهما أهم أولويتين اقتصاديتين لعام 2021- ولم تُناقش أي من النقطتين بشكل منفصل في هذا المنتدى في السابق، فما بالك بأن تحتل المرتبة الأولى والصدارة. ومن شبه المؤكد أن الخطوة التالية ستكون زيادة التمويل الحكومي- أكثر بكثير من الـ5إلى 6 مليارات دولار التي أُنفقت على صُنع في الصين 2025. وللمرة الأولى، باتت جهود القطاع الخاص تضاهي اندفاع الصين لتحقيق الاكتفاء الذاتي تكنولوجياً، وكله بفضل القيود التجارية الأميركية.

استفادت الشركات الريادية الصينية أحياناً من سخاء الدولة وحمايتها، لكنها عملت كذلك على البقاء على مسافة منها. فلكي تستطيع التنافس عالمياً بحق، قررت شركات مثل "هواوي" و"علي بابا" أنها بحاجة لاستخدام أفضل المكونات المتوافرة في السوق، والعديد منها مصنوعة في الولايات المتحدة. وتعتمد شركات التكنولوجيا الصينية الرائدة على التقنيات الأميركية لكي يتسنى لها بيع بعض أفضل الهواتف الذكية والحواسيب، وخدمات الانترنت في العالم. ويستخدم هاتف هواوي مثلاً مُعالجاً صيني التصميم، لكنه يستخدم كذلك قطعاً أميركية بكميات مماثلة لـ"آيفون". لو اتبعت هواوي توجيهات الحكومة بشراء القطع المحلية الصنع، لما أصبحت عملاقة كما هي اليوم، ولما كانت معاناتها ستبلغ هذا الحد الذي بلغته الآن جراء القيود التجارية الأميركية.

لكن الشركات الريادية الكبرى ما عادت قادرة على تجاهل أوامر الدولة بشراء منتجاتها من السوق المحلية. فتعزيز إجراءات ضبط الصادرات الأميركية قد اتخذ هذا القرار نيابة عنها، ووحد الحكومة الصينية وشركاتها الرائدة وراء هدف مشترك: السعي لتحقيق الاكتفاء الذاتي على الصعيد التكنولوجي والصناعي لكي لا تعود أي شركة صينية تحت رحمة السياسات التجارية الأميركية. بتقييدها إمكانية الحصول على المنتجات الأميركية، أسهمت الحكومة الأميركية من دون قصدها على نحو أكبر مما يمكن أن تفعله أي توجيهات حزبية، في تحفيز الاستثمار الخاص في بيئة التكنولوجيا المحلية الصينية.

إن واشنطن محقة في استهداف الشركات الصينية التي يبدو من الواضح أنها أطراف عسكرية فاعلة أو متواطئة في انتهاكات حقوق الإنسان. لكن الشمولية التي اتسمت بها عقوبات إدارة ترمب لم تعطِ أي مؤشر إلى وجود عملية اختيار دقيقة. بل أعطت الانطباع بأن الولايات المتحدة مستعدة لمعاقبة أي شركة صينية تحقق نجاحاً. وما عادت الشركات الصينية تثق بإمكانية اعتمادها على المنتجات الأميركية- وما عادت متأكدة من أنها لن تُضاف إلى قائمة حظر حكومية مبهمة جديدة وتتعرض لاحتمال الانهيار. وقد شجعت الرقابة الأميركية على التصدير بالفعل شركات أجنبية أخرى على استغلال القلق الذي ولدته العقوبات الأميركية عبر الترويج لنفسها باعتبارها بائعاً موثوقاً أكثر. كما خلقت كذلك حافزاً عكسياً لدى بعض الشركات الأميركية لكي تنقل إنتاجها إلى الخارج، بغية الحفاظ على قدرة نفاذها إلى السوق الصينية الضخمة.

شعر كثيرون في الصين بإهانة بالغة إزاء العقوبات الأميركية على الشركات التكنولوجية الصينية، لا سيما نظراً للمعايير العشوائية التي ارتكزت إليها والآثار الشديدة التي خلفتها. وقد درس العديد من المهندسين العاملين في الشركات الكبرى، "بايت دانس" و"دي جاي آي" و"هواوي"، في الولايات المتحدة كما عملوا فيها، وقد صعقتهم المزاعم القائلة بأن عملهم يشكل خطراً على الأمن القومي الأميركي. كما شعر المسؤولون الصينيون بالحيرة أمام تصريحات البنتاغون بأن شركة الإلكترونيات الصينية "شاومي" (Xiaomi) تربطها علاقات بالجيش؛ ومزح البعض بأن سبب استهداف الأميركيين لشاومي هو أن كتابة اسم مؤسس الشركة، لي جون، تتضمن رمز كلمة "جندي" باللغة الصينية. والآن ومع صعوبة توافر هواتف "هواوي" في السوق، بات كل مستهلك في الصين يعلم أن الآثار الموجعة للعقوبات الأميركية بدأت بالظهور. ليس من المستغرب أن ترى هذه الأيام أشخاصاً في قطار الأنفاق في بكين يشاهدون فيديوهات تفسر لهم سلسلة إمداد شبه الموصلات. 

هذه المرة مختلفة 

اختبرت الصين "لحظة سبوتنيك" فعلية حين أدركت أنه لا يمكنها الاعتماد على الولايات المتحدة لإمدادها بالتكنولوجيا- وأنه عليها صناعة بدائل محلية. غضبت واشنطن من طموح بكين في تحقيق الاكتفاء الذاتي في مجال شبه الموصلات ثم قامت بمعاقبة الشركات الصينية التي اعتمدت بسذاجة على التكنولوجيا الأميركية. والآن تواجه الشركات الأميركية تساؤلات مزعجة بشأن إمكانية الاعتماد عليها كمورد موثوق. فعلى الرغم من كل الشكاوى المحيطة بمحاولة الرئيس الصيني شي جينبينغ الحض على "الانفصال الهجومي"، ها هي الولايات المتحدة، وليس الصين، تُلزم الشركات الصينية التخلي عن المنتجات الأميركية- وقد باتت هذه الشركات الآن تسعى بقوة لتحقيق الاكتفاء الذاتي المحلي. 

سوف يسرع تضافر جهود الحكومة الصينية وقطاع الصناعة المبتكرة مسيرة التقدم التكنولوجي في البلاد. ففي ستينيات القرن الماضي، طُورت الدوائر المتكاملة عندما كانت الإدارة الوطنية للملاحة الجوية والفضاء (ناسا) على استعداد أن تدفع أغلى الأثمان لاقتناء التكنولوجيا القادرة على إرسال رواد الفضاء إلى القمر وإعادتهم إلى الأرض سالمين. واليوم، تضع الحكومة الأميركية هواوي في موقع ناسا: منظمة ثرية مستعدة أن تدفع مقابل حصولها على المكونات الحيوية، بناءً على الأداء وليس التكلفة. وصارت الآن الشركات الصينية الصغيرة التي لم تكن سابقاً تملك أي فرصة لكي تبيع إلى "هواوي"، مرغوبةً باعتبارها موردة، وتُضخ فيها الأموال والخبرات التقنية التي ستسرع من نموها. كما تضاعف شركات تصنيع الشرائح، سواء الخاصة أو المملوكة للدولة، من عملياتها. وأخذت الصناعات التي كانت منعزلة عن بعضها البعض في السابق، بالتعاون حالياً في خدمة الابتكار التكنولوجي: بدأت الأكاديمية الصينية للعلوم مثلاً بتنسيق عقد جلسات دورية تجمع أساتذة العلوم بالشركات الخاصة. وتقوم الصين حالياً بجهد يشمل المجتمع بأسره من أجل تحسين التكنولوجيا المحلية، لا سيما في تلك المجالات التي يعتقد القادة الصينيون أنها لن تحرك عجلة النمو الاقتصادي فحسب، بل ستزيد من قوة البلاد الجيوسياسية.

سوف تمتد آثار النجاح التكنولوجي الصيني إلى ما وراء الصين

هل يكفي كل هذا لكي تنجح السياسة الصناعية الصينية هذه المرة؟ بعد عقد من الآن، من المرجح أن تكون الإنجازات التكنولوجية التي حققتها الصين في ظل نظام القيود الأميركية على التصدير أكبر من تلك التي كانت لتحققها لو لم تُرغم الولايات المتحدة الشركات الصينية الرائدة على الشراء من الشركات المحلية الضعيفة. ولو طبقت الولايات المتحدة إصلاحات ضرورية إنما مدروسة- تعزيز نفوذ لجنة الاستثمارات الخارجية في الولايات المتحدة ومحاكمة سرقة الملكية الفكرية- وتوقفت عند هذا الحد، كانت خطة صُنع في الصين 2025 لتتبع المسار التقليدي للأمور، حيث تتولى الشركات غير الكفوءة التي تملكها الدولة والوزارات الحكومية زمام الأمور، بدل الشركات التكنولوجية الابتكارية.

لكن هذه المرة مختلفة. صحيحٌ أن أمام الصين عقبات تكنولوجية كبيرة عليها أن تتخطاها، ومنها ضعف الأبحاث الأساسية والالتباس في إجراءات حماية الملكية الفكرية، والمبالغة في التدخلات البيروقراطية. لكن لا يمكن للولايات المتحدة الافتراض بأن الشركات الصينية الرائدة ستبقى مهزومة للأبد: إذ تسارع الشركات من أجل تلبية الطلبات التي ما عاد الشركات الأميركية قادرة على تلبيتها. وليس على الشركات الصينية العمل من الصفر سوى في بعض مجالات الابتكار لأن العديد منها يعمل ببساطة على إعادة إنتاج تكنولوجيا موجودة بالفعل. ولا يمكن لأي قيود أميركية أن تغير واقع كون الصين سوقاً ضخمة مليئة بالمواهب الريادية والخبرات التقنية.  

سوف تتخطى آثار النجاح التكنولوجي الصيني حدود الصين. ومن الناحية الأولى، سوف تترك بصمتها على شكل السياسة الأميركية. عندما يقل اعتماد بكين على المنتجات الأميركية، سيقل خوفها من الانتقام من الشركات الأميركية، وستتمتع بالتالي بحرية الرد على ما قد تعتبره هجوماً عليها. ومن ناحية الثانية، سوف تغير الهيمنة التكنولوجية حسابات القيادة الصينية بشأن تايوان. تدرك بكين أن أي اجتياح مسلح للجزيرة سيؤدي إلى فرض عقوبات أميركية تلحق ضرراً كبيراً بالاقتصاد الصيني. أما إن زاد اعتمادها على نفسها، فسيقلل ذلك من خطر هذه العقوبات ويزيل أحد عوامل الردع ضد العمل العسكري.

ولن تكون التبعات الاقتصادية للهيمنة التكنولوجية الصينية على الولايات المتحدة أقل أهمية. ظلت الشركات الأميركية بشكل عام متقدمةً على منافستها الصينية. لكنها قد تتأخر عنها مع تراجع حجم مبيعاتها واندفاع الصين بشكل أقوى لكي تحل مكانها. لو استطاعت الصين أن تسيطر على إنتاج شبه الموصلات بالطريقة نفسها التي سيطرت فيها على الألواح الشمسية، ستخسر الولايات المتحدة عندها آخر حلقة في سلسلة صناعاتها الثمينة مع تحول المنتجات إلى سلع للاستهلاك واختفاء الأرباح. 

ما عاد أي جهد تبذله الحكومة الأميركية في هذه المرحلة قادراً على ردع الدولة الصينية من السعي إلى بلوغ هدفها الرامي الى تحقيق الاكتفاء الذاتي. لكن ما زال أمام واشنطن فرصةً لتغيير حسابات الشركات التكنولوجية الصينية الخاصة. إذ تفضل العديد منها ألا تضطر إلى إعادة إنتاج أدواتها من الصفر وإيجاد موردين جدد، ومن الأرجح أنها ستستمر باستخدام التكنولوجيا الأميركية لو سنحت لها الفرصة. بالتالي، على الولايات المتحدة التراجع عن أشد القيود عقاباً على قطاع التكنولوجيا الصيني، إن لم ترغب بإرغام بعض أكثر الشركات ابتكاراً في العالم على العمل ضمن بيئتها التكنولوجية المحلية. فالأمر يتعلق بالمركز العالمي المستقبلي للابتكار التكنولوجي: على واشنطن أن تكون أعقل من أن تحفز أكبر منافسيها.

دان وانغ محلل في الشأن التكنولوجي لدى "غافيكال دراغونوميكس" (Gavekal Dragonomics) ومقره في شانغهاي. 

مترجم من فورين أفيرز، يوليو (تموز) 2021

المزيد من تقارير