ليس أصعب من حكم لبنان سوى فهمه، وإن بدا التحكم فيه سهلاً في البداية. وأي فريق يتصور اليوم أن الانهيار المتسارع في كل مجال هو فرصة أمامه لإعادة تشكيل البلد ونظامه سيصطدم في النهاية بجدار العجز عن القفز فوق التاريخ والتجارب والواقع.
منذ إعلان لبنان الكبير عام 1920 والسؤال المطروح هو أي لبنان نريد؟ وعلى مدى مئة عام تعددت الأجوبة تبعاً للأطراف التي تقدمها ولتطورات الأحداث والمشاريع الإقليمية والدولية في المنطقة التي يتأثر بها لبنان. لكن الجواب الواقعي الذي اصطدمنا به في هذه الأيام هو الوصول إلى لبنان ليس فيه شيء من أي جواب نظري: لبنان الذي في حال لا يريدها أحد. لا دولة. لا حتى سلطة. لا خدمات. لا دواء في ما كان "مستشفى الشرق". لا كهرباء في ما كان "سويسرا الشرق" في السياحة والخدمة والحياة الحلوة. لا مازوت وبنزين. لا حصول على المياه الصالحة للشرب لنحو "أربعة ملايين شخص بين لبنانيين ولاجئين"، بحسب اليونيسف. ولا جهد لوقف الانهيار الاقتصادي "المبرمج" الذي وضعه البنك الدولي ضمن "أسوأ عشر وربما ثلاث أزمات عالمية منذ القرن التاسع عشر". وأبسط ما ينطبق عليه هو القول: لا هو ميت فيرثى، وإن كتب كثيرون نعيه. ولا هو حي فيرجى، وإن كان يعيش أصعب عيش.
لكن التجارب تؤكد، وسط ذلك كله، معادلة ثابتة: لا طرف في الداخل، مهما يكن قوياً ومستقوياً بمحور خارجي، يستطيع وراثة لبنان. ولا دولة قادرة على ضمه إليها. أيام السلطنة العثمانية كان للبنان وضع خاص، بصرف النظر عن حجمه الجغرافي. وهو حجم توسع في ظل الأمير فخر الدين المعني الكبير وتقلص في ظل الأمراء الشهابيين، وأعيد إلى حجمه العادي في ظل الفرنسيين الذين أعلنوا لبنان الكبير. في الإمارة حكمه أمير منه، لا باشا عثماني. في صيغة القائمقاميتين التي اقترحها مستشار النمسا مترنيخ كان لكل قائمقامية حاكم لبناني. في المتصرفية، بإشراف الدول السبع الكبرى، في القرن التاسع عشر كان الحاكم مسيحياً غير لبناني من رعايا السلطنة ومعه مجلس إدارة يضم ممثلين للطوائف.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
فرنسا أعلنت لبنان الكبير وحكمته مباشرة كما فعلت في سوريا ولا تزال متعلقة به عاطفياً وسياسياً، لكنها لم تستطع مواجهة النزعة الاستقلالية. سوريا تحكمت به خلال الحرب وبعدها، وتركت واجهة السلطة للبنانيين المتحالفين معها، لكنها عجزت عن ضمه وحكمه مباشرة وأجبرت على الانسحاب منه. إسرائيل اجتاحته، لكنها فشلت في أخذه خارج المدار العربي، ثم انسحبت على مراحل. وإيران هي القوة الإقليمية التي تعمل اليوم من خلال "حزب الله" على الإمساك بلبنان وضمه إلى مشروعها الإمبراطوري على حساب العرب وفي مواجهة الغرب أقله في الخطاب. وأبسط ما ردت به صحيفة "كيهان" المحافظة والمقربة من المرشد الأعلى علي خامنئي على البطريرك الماروني بشارة الراعي الذي دعا إلى حياد لبنان وطالب بمؤتمر دولي للإنقاذ وطلب من الجيش حراسة الحدود، هو أن "مواقف الراعي الجديدة ليست إلا محاولة لإعادة إنتاج لبنان القديم". فما تعبر عنه هو الرهان الإيراني على "لبنان آخر" يقوده "حزب الله" ويبدل هوية لبنان وتراثه وجوهره. لكن هذه المهمة مستحيلة. فلا لبنان مجرد جغرافيا بلا تاريخ وناس وتراث وإبداع أدبي وفكري وثقافي وفني. ولا طهران تستطيع أن ترث ما لم تستطع أي قوة أن ترثه، وهو الوطن الصغير الذي عانى ولا يزال كثيراً.
صحيح أن القيادات السياسية اللبنانية أنانية وليست على مستوى البلد والناس. وهي قيادات وصفها وزير الخارجية الأميركي الراحل جورج شولتز خلال دوره في التفاوض على اتفاق 17 مايو (أيار) بين لبنان وإسرائيل، والذي ألغته بيروت، بالقول "وجدت نفسي بين تلموديين وتجار شرقيين". لكن الصحيح أيضاً أن لبنان هو البلد الوحيد الذي انهارت فيه خلال الحرب الدولة وفرط الجيش، وبقي النظام الذي يبدو على ما فيه من عيوب ونواقص وسلبيات أقوى نظام في المنطقة.
خلال تقديم الدستور عام 1926 قال ميشال شيحا "هذا دستور لبنان الرسمي، أما الدستور الحقيقي فهو أن لبنان لا يُحكم إلا بالتسويات". أليس تاريخنا حلقات متتابعة من الأزمات والتسويات؟ وهل كان المؤرخ برنارد لويس يجاملنا حين قال في مقال نشرته "فورين أفيرز" إن "لبنان عانى، لا بسبب أخطائه بل بسبب مزاياه"؟