Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

كاتبة أميركية تعيد الاعتبار إلى الملكة المصرية في نص غاضب

في "كليوباترا حياة" صورة جديدة بعيداً من خرافات المبدعين

صورة متخيلة لكليوباترا منتشرة في المخيال الشعبي (غيتي)

من الفيلسوف الفرنسي باسكال الذي نقل عنه قول فحواه "لو أن أنف كليوباترا كان أقصر قليلاً لتغير وجه التاريخ"، إلى شكسبير الذي وصف حكايات غرامها بيوليوس قيصر وأنطونيوس، وأحمد شوقي الذي أضفى عليها بعض سمات الملوكية، مروراً ببلوتارخ الذي اكتفى بتعريفها بوصفها "المرأة التي كانت عشيقة لقيصرين"، وصولاً إلى الفن السابع الذي حقق عنها أفلاماً جعلتها أسطورة حملت ملامح كلوديت كولبرت أو إليزابيث تايلور، لم يبارح الكتاب والمبدعون الذين لم يكن هؤلاء الذين ذكرناهم سوى بضعة منهم، تلك الصورة النمطية التي رسمت للملكة الإسكندرانية، ليس فقط على مدى التاريخ بل في الحياة الأدبية والفنية. ويمكننا طبعاً هنا أن نذكّر بأن ما من ملكة حقيقية عبرت تاريخ الإنسانية بلغ اهتمام المبدعين بها ما بلغه اهتمامهم بكليوباترا. غير أن الكاتبة الأميركية ستيسي شيف ستخبرنا في كتاب أصدرته قبل نحو عشر سنوات، أن كل تلك الصور التي رسمت لكليوباترا كانت مزيفة وغير منصفة، تعكس خيالات المبدعين وربما أحياناً "نظرتهم الدونية" إلى المرأة من خلال وسم تلك السيدة بصفات لم تكن صفاتها الحقيقية بشكل دقيق.

ضد التيار

وإذا كانت معظم الموسوعات والكتب التاريخية تقول لنا دائماً إن أشهر ما اشتهرت به كليوباترا إنما كان ارتباطها الغرامي مرتين في الأقل باثنين من أكبر رجال السياسة في التاريخ، فإن ستيسي شيف تجهد على مدى نحو 400 صفحة لتعيد الاعتبار إلى كليوباترا، والتأكيد أنها كانت غير ذلك على الإطلاق، بل كانت داهية سياسية سخّرت كل شيء وكل شخص في سبيل تحقيق سياساتها، بمن فيهم القيصران اللذان وقعا حقاً في غرامها، ويبدو أنها كانت هي التي تتلاعب بهما. والواقع أن هذه الصورة التي ترسمها الكاتبة الأميركية تبدو غير معهودة على الإطلاق، حتى وإن كان لا يفوت شيف بين فصل وآخر أن تعترف، بأن الشغف وشؤون القلب قد تكون لعبت دوراً ما في تصرفات كليوباترا، غير أن هذه "عرفت كيف توظفهما بكل صدق في سبيل غايات أكثر عقلانية". واللافت هنا هو أن الكاتبة لم تتخذ سبيل الكتابة الروائية للتعبير عن نظرتها، وكان يمكن لهذا أن يكون أسهل، بل كتبت نوعاً من سيرة تاريخية انطلقت فيها من التأكيد التاريخي أن ثلاثة إنجازات كبيرة يجب منذ البداية أن تُحتسب لصالح السمعة المستعادة للملكة.

إنجازات ملكة حقيقية

فهي وبحسب ستيسي شيف التي تستند إلى جملة من مصادر موثوقة، عُرفت في زمانها أولاً بكونها قد بنت أسطولاً بحرياً لم يكن له مثيل في تلك الأزمنة، ثم تمكنت من أن تقمع تمرداً ضخماً انطلق ضدها وضد حكمها، وثالثاً تصدت لتلك المجاعة الرهيبة التي ضربت مصر واعتبرت واحدة من جراح ومصائب هذا البلد. لكن معضلتها الرئيسة بحسب المؤلفة، كانت في أن عهدها في الحكم كان بالغ الهشاشة من ناحية لأنها لم تكن مصرية، ما كان من شأنه أن يحلق المواطنين من حولها، بل كانت من أصول أجنبية (مقدونية)، ومن ناحية ثانية كانت امرأة تفتقر حتى إلى تأييد إخوتها لها، إذ كان الذكران منهم لا ينظران بعين الرضا إلى كون أبيهم بطليموس قد اختارها لوراثة عرشه في عام 52 ق.م. ومن هنا، كما تقول شيف، كانت حاجتها ماسة إلى التحالف مع الملك الروماني يوليوس قيصر، كي تتمكن من إنهاء الحرب الأهلية التي قامت في مصر، وتثبيت نفسها على العرش. وكان لها ذلك كما ينبئنا التاريخ. ولكن يوليوس قيصر سرعان ما اغتيل فاضطرت كليوباترا إلى الالتفاف على خليفته مارك أنطونيوس كي تحمي نفسها وعرشها، إذ كان هذا القيصر الجديد يسيطر تماماً على الجزء الشرقي من البحر الأبيض المتوسط.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

الإغراء في عالم الدبلوماسية

كان من الواضح هنا أن تلك التحالفات المتسمة بطابع شخصي أوصلته وكليوباترا إلى حدود العلاقات الغرامية، منتقلة بها من القيصر المغدور إلى خليفته المنتصر، تحولت في رأي أعداء كليوباترا الخارجيين والداخليين أيضاً إلى نوع من "عهر رخيص". لكن هذه كانت ترى أن الإغواء يمكنه أن يشكل نوعاً من الدبلوماسية المواربة. ومن هنا لم تتورع حين توجهت إلى روما لملاقاة مارك أنطونيوس، من أن تبتكر صنوفاً من الأزياء وأساليب في الظهور تجعلها تبدو وهي تنزل من مركبها كأنها فينوس طالعة من قلب البحر. كان من الواضح أنها بذلك تبتكر طريقتها الخاصة في "الإغراء السياسي" و"الجاذبية الدبلوماسية" بمعنى أنهما، ودائماً بحسب الكاتبة الأميركية، انطلقا من غايات سياسية لا من أهداف غرامية. فالحقيقة، تضيف شيف، أن كل ما في السير الموثقة التاريخية وليست المخترعة التي كتبت عن كليوباترا، يفيدنا بأنها كانت "امرأة مستقلة ذات كاريزما كبيرة وطموحات أكبر"، ناهيك بأنها كانت "براغماتية إلى أقصى الحدود". وبراغماتية إلى درجة أنها اقترنت بأخويها واحداً بعد الآخر حين دعتها الحاجة إلى ذلك، وقتلتهما الواحد بعد الآخر حين لم تعد في حاجة إليهما، وبدأت تحس أنهما سيكونان عبئاً عليها!

الحقيقة الصعبة

واللافت هنا ما تكتبه الناقدة الأميركية ماري آرانا في تعليقها على كتاب ستيسي شيف في صحيفة "واشنطن بوست"، من أن الفاتن في هذه السيرة ما تعبر عنه من "الدرجة التي يبدو فيها التاريخ السائد غير منصف في حق كليوباترا"، وتضيف آرانا "إن التاريخ بدلاً من أن يثني على ذكاء تلك الملكة ويذكر براعتها الاستراتيجية، نراه لا يتغاضى عن علاقاتها الميلودرامية، ويركز على انتحارها المأساوي، ناسياً أن ذلك الانتحار قد وضع يومها نهاية لاستقلال مصر". ومن الواضح بحسب تعليق على الكتاب نفسه نشرته مجلة "بوكز" الفرنسية أن الكاتبة ستيسي شيف، الحائزة عن كتاب سابق لها جائزة "بوليتزر"، إنما أرادت من كتابتها سيرة كليوباترا هذه أن تعوض جحوداً تعرضت له تلك الملكة الاستثنائية، على مدى التاريخ، "لكن المهمة لم تكن سهلة على الإطلاق بالنظر إلى أن المصادر التي تتناول تلك المرحلة كانت ولا تزال نادرة، وغالباً ما تكون غير موثوقة. ولئن كانت مدينة الإسكندرية لا تزال قائمة، فإن الإسكندرية القديمة التي حكمت كليوباترا مصر انطلاقاً منها، تغمرها المياه منذ زمن بعيد، أما الشعراء والكتّاب الذي كتبوا عن الملكة فعاشوا بعد رحيلها بما لا يقل عن 100 عام بالنسبة إلى أقدمهم. وكانوا في معظمهم من الرومان الذين كان من مصلحتهم القومية أن يعظموا من شأن ملوكهم ويحطوا من قدر تلك الملكة الأجنبية، وكذلك أن يعظموا مدينتهم روما على حساب مدينة الإسكندرية عاصمة أعدائهم المهزومة".

"التصدي للمهمة المستحيلة"

وهكذا، بالنسبة إلى بلوتارخ وأمثاله "لم تكن كليوباترا أكثر من رمز لحسّية لا يمكن الإمساك بها ولغراميات محظورة". ويخلص تعليق المجلة الفرنسية إلى القول "صحيح أن كليوباترا تبقى في الأحوال كافة فاتنة إغراء شرقية، لكنها كانت كذلك امرأة تملك عقلاً حصيفاً". وذلك بالتأكيد ما سعت الكاتبة ستيسي شيف إلى أن تبرهن عليه في كتاب صرفت من عمرها سنوات تشتغل عليه، وهي تعرف أن مهمتها لن تكون سهلة، فهي لا تتصدى في وجهة النظر التي تعبر عنها، للتاريخ والمؤرخين فقط، بل لعشرات الكتاب والمسرحيين والرسامين والشعراء وأخيراً السينمائيين والتلفزيونيين، الذين جعلوا لكليوباترا صورة سلبية أو حتى مبتذلة راسخة، بحيث يبدو الأمر أشبه بما يحدث في أيامنا هذه حين تشتغل وسائل التواصل الاجتماعي على رسم صورة معينة وكاذبة بالطبع لشخص ما أو حدث معين، فتترسخ تلك الصورة متخذة سمات الحقيقة المطلقة، بحيث سيكون من المستحيل فرض صورة أخرى نقيضة لها. ومن الواضح أن هذا المستحيل هو ما تحاوله ستيسي شيف في هذا الكتاب.

المزيد من ثقافة