Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

20 عاما على "مصالحة الجبل" ومعركة خلاص لبنان من النظام السوري

كيف توالت الأحداث ومن كان اللاعبون؟

البطريرك نصر الله صفير ورئيس الحزب الاشتراكي وليد جنبلاط في يوم "مصالحة الجبل" في 3 أغسطس 2001  (غيتي)

فجر الثالث من أغسطس (آب) 2001، انطلق من مقر البطريركية المارونية في بكركي، في وسط كسروان، موكب البطريرك نصر الله بطرس صفير، كعادته كان البطريرك قد استفاق باكراً وأدى صلاته في الكنيسة الصغيرة وأشرف على آخر التحضيرات لهذه الزيارة التاريخية.

أكثر من مرة، تم تحديد موعد لهذا الحدث، وأكثر من مرة كان يتأجل. في ذلك اليوم، كان القرار قد اتخذ وبدأ مسار جديد من تاريخ لبنان، تلك الزيارة التي صارت تسمى "مصالحة الجبل" بين بطريرك الموارنة وزعيم الدروز وليد جنبلاط، ستصبح تاريخاً محفوراً في تاريخ الأحداث الكبرى في لبنان التي أسست لتحولات كبرى.

أكثر من مواجهة حصلت بين الدروز والموارنة من عام 1840 إلى عام 1860 في ظل حكم السلطنة العثمانية، ثم في حرب الجبل في عام 1983 حين هُجّر المسيحيون منه، كان المطلوب وضع حد لكل تلك المآسي، وفتح صفحة جديدة وحان الوقت في ذلك اليوم من أيام أغسطس.

على الرغم من تخطيه الواحدة والثمانين من العمر، بدا البطريرك وكأنه يتمتع بحيوية الشباب، كان يعرف أن أمامه برنامجاً حافلاً يمتد على مدى يومين، ولكنه كان اتخذ قراره ومضى.

الموعد الأهم في هذه الجولة كان في قصر المختارة، كان الجميع ينتظرون التقاط تلك الصورة التذكارية عندما سيتصافح زعيم الدروز السياسي وليد جنبلاط والزعيم الروحي للموارنة البطريرك صفير، صحيح أن البطريرك توقف في المحطة الأولى من جولته في دارة الأمير طلال أرسلان، القطب الثاني في الطائفة الدرزية، في خلدة، ولكن الحدث كان في المختارة في القصر التاريخي لآل جنبلاط.

بداية التحول الكبير

لم يأتِ حدث تلك المصالحة من فراغ، كان البطريرك صفير قد مهد للتحول الكبير في لبنان منذ أطلق في 20 سبتمبر (أيلول) من عام 2000 نداء المطارنة الموارنة الذي أعلن فيه أنه آن الأوان لانسحاب الجيش السوري من لبنان بعدما كان حصل انسحاب الجيش الإسرائيلي منه في 25 مايو (أيار) من ذلك العام. كان صفير قد أسهم إسهاماً فعالاً في التوصل إلى "اتفاق الطائف"، في أكتوبر (تشرين الأول) من عام 1989، الذي صار دستور الجمهورية اللبنانية. ذلك الاتفاق الذي توصل إليه النواب اللبنانيون في المملكة العربية السعودية كان نص على بدء انسحاب القوات السورية من لبنان بعد عامين. وعندما لم يحصل ذلك الانسحاب بحجة عدم انسحاب الجيش الإسرائيلي وتقوية "حزب الله" عسكرياً لمقاومته، اعتصم البطريرك صفير بقوة الإرادة، شعر أنه قد يكون خُدع وبقي ينتظر اللحظة المناسبة لذلك.

عندما جاهر بالمطالبة بانسحاب الجيش السوري، وجد كلامه الصدى المناسب عند وليد جنبلاط، كان لبنان واقعاً تحت الوصاية السورية الكاملة. حاولت دمشق أن تحاصر البطريرك صفير وتمنع التجاوب مع ندائه، ولكن جنبلاط شذ عن هذا القرار السوري ووقف في مجلس النواب يؤيد مطلب البطريرك صفير فتعرض إلى حملة شتائم وتهديدات بالقتل، ولكنه لم يتراجع.

على أساس ذاك النداء، تكوكبت حول البطريرك صفير نواة تجمع سياسي كبير، انضمت إليه تباعاً شخصيات مسيحية معارضة للسيطرة السورية على لبنان. ثمة شخصيتان أساسيتان كانتا إلى جانب البطريرك صفير لتشكلا نواة النخبة التي ستتحول إلى حركة سياسية أكبر تحت اسم "لقاء قرنة شهوان" بعدما وافق البطريرك صفير على أن تكون اللقاءات في مقر المطرانية وبرئاسة المطران يوسف بشارة، إنهما سمير فرنجية وفارس سعيد.

خطوط الوصل والتلاقي

أتى سمير فرنجية إلى السياسة من بيت سياسي، هو ابن حميد فرنجية وزير خارجية لبنان بعد الاستقلال ومنافس كميل شمعون على رئاسة الجمهورية في عام 1952. ولكنه بعد وفاته نتيجة أزمة صحية آلت زعامة العائلة في زغرتا إلى شقيقه سليمان الذي صار رئيساً للجمهورية في عام 1970. ابتعد سمير فرنجية عن صورة "ابن البيك" واتجه نحو اليسار، وكان قريباً من الحركة الوطنية التي تزعمها كمال جنبلاط والد وليد جنبلاط، وكانت تحالفت مع ياسر عرفات ومنظمة التحرير الفلسطينية ضد الجبهة اللبنانية و"القوات اللبنانية" بزعامة كميل شمعون وبيار الجميل وبشير الجميل. بهذه الصفة كان فرنجية ممثلاً لوليد جنبلاط في التفاوض مع وفد يمثل بشير الجميل في عام 1981 من دون التوصل إلى اتفاق، لأن جنبلاط كان خائفاً دائماً من أن تثأر سوريا منه كما فعلت مع والده عندما اغتالته في 16 مارس (آذار) 1977 في قرية دير دوريت في الشوف، الأمر الذي أدى إلى حصول مجازر بحق المسيحيين في الجبل. فرنجية كان موفداً أيضاً للرئيس رفيق الحريري مكلفاً التواصل مع البطريرك صفير خلال مرحلة البحث في اتفاق الطائف وبقي يقوم بهذه المهمة، الأمر الذي جعله مقرباً أيضاً من البطريرك صفير وموضع ثقته.

الدكتور فارس سعيد ابن النائب أنطوان سعيد الذي توفي في عام 1965 لتحل محله في النيابة زوجته نهاد سعيد التي كانت أيضاً قريبة من كمال جنبلاط في تلك الحقبة، درس سعيد الطب خارج لبنان وعاد قبيل نهاية الحرب تقريباً حيث تعرف إلى سمير جعجع قائد "القوات اللبنانية" ودخل إلى العمل السياسي ليحتل في عام 2000 أحد المقاعد النيابية المارونية في جبيل، وليتقرب من البطريرك صفير ويصبح مع سمير فرنجية أكثر شخصين يمكن أن يأتمنهما البطريرك على أسراره. إلى جانب فرنجية وسعيد التقى أيضاً عدد من الشخصيات وبدأت الدائرة تتسع لجبران تويني وسمير عبد الملك وسيمون كرم، لينضم إليها تباعاً ممثلون عن الأحزاب والتيارات المسيحية التي كانت معارضة للاحتلال السوري للبنان.

من هؤلاء مؤيدو العماد ميشال عون الذي كان يعيش في باريس بعد إبعاده من لبنان بعد فراره من قصر بعبدا في 13 أكتوبر في عام 1990. ومنهم أيضاً رئيس الجمهورية السابق أمين الجميل الذي كان يهدف إلى استعادة حزب "الكتائب" من قيادته التي انحرفت عن الخط السياسي التاريخي وانخرطت في تأييد النظام السوري. وكان معه ابنه بيار الجميل الذي استطاع أن يفوز في انتخابات عام 2000 بمقعد نيابي، وقد تولى قيادة المعارضة الكتائبية، ومنهم حزب "الوطنيين الأحرار" برئاسة دوري شمعون ابن الرئيس كميل شمعون، إضافة إلى السيدة نايلة معوض زوجة رئيس الجمهورية رينيه معوض الذي اغتيل في 22 نوفمبر (تشرين الثاني) من عام 1989، واتهم النظام السوري بقتله تمهيداً للانقلاب على الطائف. ومنهم أيضاً كانت السيدة ستريدا جعجع زوجة رئيس حزب "القوات اللبنانية" سمير جعجع الذي اعتقل في 21 أبريل (نيسان) من عام 1994 وزُج به في السجن، بسبب معارضته سلطة الوصاية السورية، بعد اتهامه بأنه يقف وراء تفجير كنيسة "سيدة النجاة" في زوق مكايل (جونية)، وبعدد من الاغتيالات خلال مرحلة الحرب.

عصب الشارع والمصالحة

على الرغم من قرار مجلس الوزراء اللبناني في 23 مارس 1994 بحل حزب "القوات اللبنانية"، واعتقال كثيرين من أعضائه ومؤيديه والتنكيل بهم، إلا أنه بقي الحزب الأكثر قدرة على التنظيم وتحريك الشارع ودعم مواقف البطريرك صفير، كانت السيدة ستريدا جعجع تشكل صلة الوصل بين زوجها رئيس الحزب سمير جعجع وبين القاعدة القواتية، وهذا ما أهلها لتلعب دوراً كبيراً في عملية مصالحة الجبل وصولاً إلى استعادة لبنان حريته وسيادته واستقلاله.

لم يكن هناك ما يجمع بين سمير جعجع وستريدا طوق، التقاها صدفة في أحد لقاءاته السياسية في منزل عمها النائب جبران طوق في النقاش شرق بيروت، هي من عائلة كبيرة في بشري، بلدة سمير جعجع الذي انخرط مقاتلاً في الحرب في حزب "الكتائب" بعدما كان في سنته الجامعية الخامسة يدرس الطب، وقد تدرج في القيادة حتى وصل إلى قيادة "القوات اللبنانية" في عام 1986. كانت ستريدا بنت الياس طوق شقيق النائب جبران طوق وكانت والدتها من بلدة رشميا في قضاء عاليه، وقد تعرضت للتهجير في حرب الجبل. تلك الوالدة أرادت لابنتيها ستريدا ودنيز، ولابنها داني أن يتابعوا دراستهم في لبنان، لذلك اختارت عودتهم من أفريقيا حيث كانت أعمال الوالد. كانت ستريدا البنت الكبرى، ولذلك كان عليها أن ترعى شقيقتها وشقيقها بعيداً عن أهلهما. عندما تعرفت إلى سمير جعجع كانت تدرس العلوم السياسية في الجامعة، وكانت فقدت والدتها في حادث مأسوي في الحرب في 28 ديسمبر (كانون الأول) من عام 1985، عندما حصلت محاولة لاغتيال أيلي حبيقة على طريق نهر الموت-الدورة شرق بيروت، وهو كان رئيس "القوات اللبنانية" الذي وقع في سوريا ما سمي "الاتفاق الثلاثي" الذي أشرف عليه رئيس النظام السوري حافظ الأسد، وكان طرفاه الآخران وليد جنبلاط ونبيه بري رئيس حركة "أمل".

بعد 18 يوماً فقط من ذلك الحادث استطاع سمير جعجع أن يقود انتفاضة على إيلي حبيقة ويبعده من المناطق الشرقية، حيث سيطرة "القوات اللبنانية"، ويصبح رئيساً للقوات ويسقط الاتفاق الثلاثي.

أرسل سمير جعجع دعوة إلى ستريدا لملاقاته، بعد تردد حضرت إلى مقر قيادته، ترددت كثيراً في قبول طلبه أن تكون خطيبته ثم زوجته، استشارة والدها جعلتها توافق، كانت تعرف أنها مقبلة على مغامرة كبيرة إذا قبلت الزواج من هذا الرجل المعرض للخطر والساكن مع هذا الخطر، ولكنها في النهاية وافقت.

تزوج سمير وستريدا في نهاية عام 1990، بعد انتهاء الحرب في كنيسة دير مار مارون في عنايا، لم يكن عندهما بيت، سكنا في مقر قيادة "القوات اللبنانية" في المجلس الحربي في الكرنتينا (بيروت). بعد عام ونصف العام فقط، في يوليو 1992 كانت القوى العسكرية تطوق مقر "القوات" وتجبر سمير وستريدا جعجع على الخروج منه، انتقلا إلى مقر آخر في بلدة غدراس في كسروان (جبل لبنان). إلى هناك، توجهت قوة عسكرية في 21 أبريل 1994 لتعتقل سمير جعجع، كان عمر ستريدا 26 سنة فقط. لم تخطط لمواجهة المرحلة التالية لاعتقال زوجها، لأنها لم تكن لتتوقع أن يحصل مثل هذا الأمر، ولكن الأحداث وضعتها أمام هذا التحدي الكبير وحيدة من دون بيت ومال ودعم، أول ما فعلته في اليوم التالي كان أن توجهت إلى بكركي للقاء البطريرك صفير.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

عندما حصل تفجير كنيسة سيدة النجاة في زوق مكايل (جونية)، حاولت أجهزة الأمن اللبنانية الخاضعة لقرار النظام السوري أن تُقنع البطريرك صفير بأن "القوات اللبنانية" بقيادة سمير جعجع هي التي فجرت الكنيسة وأنها تخطط للانقلاب على السلطة بالتعاون مع العدو الإسرائيلي. ولكن البطريرك لم يقتنع، بعد عام فقط، سيتحول إلى مدافع شرس عن براءة سمير جعجع إلى الحد الذي جعله يوجه رسالة باسمه واسم المطارنة الموارنة إلى رئيس الجمهورية الياس الهراوي يبلغونه فيها أنهم يرفضون "الحكم على سمير جعجع ابن الكنيسة"، ويعتبرون أنه سيكون حكماً على الكنيسة، بغياب سمير جعجع في السجن، بات البطريرك الأب الروحي لـ"القوات" وباتت "القوات" جمهور البطريرك الذي كان يستقبل ستريدا جعجع في أي وقت، وكان يستمع إلى الشكاوى من مؤيدي "القوات" ويستمع إلى قصص اضطهادهم وتعذيبهم خلال اعتقالهم.

بحثاً عن تحالف كبير

نجحت ستريدا جعجع في شد عصب "القوات"، في عام 1998 بنت أول اتصال مع الرئيس رفيق الحريري من خلال وزير الخارجية السابق فؤاد بطرس الذي كان مكلفاً اختيار 12 عضواً مسيحياً في مجلس بلدية بيروت. بالتفاهم مع ستريدا، تم اختيار المهندس جو سركيس ليمثل "القوات" في المجلس البلدي. كانت ستريدا التقت الحريري مع سمير جعجع قبل اعتقاله في مناسبة خاصة بدعوة من الحريري، ولكن الحريري بعد اعتقال جعجع التزم عدم التدخل في قضيته، مدركاً أن القرار بالاعتقال أتى من دمشق، من القيادة السورية. كان رفيق الحريري قد خاض انتخابات عام 1996 النيابية ويريد توسيع دائرة تحالفاته تحضيراً لانتخابات عام 2000، ولذلك أراد فتح خط مع "القوات اللبنانية" على الرغم من إدراكه بأن مثل هذا الأمر كان من الخطوط الحمر السورية التي لا يجب تجاوزها. استطاعت "القوات" بإدارة ستريدا جعجع أن تحقق انتصارات كثيرة في الانتخابات البلدية في عام 1998، وهذا ما أعاد تسليط القرار الأمني عليها بالملاحقة.

جمدت تفجيرات 11 سبتمبر 2001 في الولايات المتحدة الأميركية عملية التغيير التي كانت منتظرة في لبنان، كان الرئيس السوري حافظ الأسد قد توفي في 10 يونيو (حزيران) من عام 2000 وحل محله ابنه بشار، وكانت ثمة مراهنة على إعطائه فرصة لكي يبدل من سياسة القبضة الحديدية التي كان يطبقها والده في لبنان، ولكنه اعتمد السياسة نفسها. بعد انتخاب قائد الجيش إميل لحود رئيساً للجمهورية بقرار من القيادة السورية ليكون في مواجهة مباشرة مع الرئيس رفيق الحريري، اعتذر الحريري عن تشكيل الحكومة وراح يحضر مع وليد جنبلاط لمعركة انتخابات عام 2000 النيابية. نتائج تلك الانتخابات كانت تصب في اتجاه عملية التغيير بعدما استطاعا من خلال تحالفهما بالتنسيق غير الظاهر مع البطريرك صفير أن يحققا انتصاراً نيابياً كبيراً. هذا الانتصار جعل السلطة الجديدة في سوريا تتحسب لما يمكن أن يقوما به، ولذلك نظرت بريبة كبيرة لما أعلنه البطريرك صفير في سبتمبر 2000 ولتأييد جنبلاط له، هذا المسار وجد تتمته في زيارة البطريرك صفير إلى الجبل لإتمام المصالحة التاريخية مع وليد جنبلاط وبين المسيحيين والدروز.

تولت ستريدا جعجع عملية التحضير الشعبي لاستقبال البطريرك في القرى والبلدات المسيحية ومواكبته في جولته التي كانت تمتد على مدى يومين. لذلك وُضعت خطة مفصلة للتجمعات الشعبية ومراكزها وانطلاقها لتأمين الحشد اللازم لكي تأتي المصالحة بحجم الحدث، نظرت السلطة السورية والسلطة التابعة لها في لبنان بريبة إلى هذا الحدث الذي يأتي ليكلل نتائج انتخابات عام 2000، واعتبرت أن التحالف بين جنبلاط والحريري في تلك الانتخابات يصبح خطراً عليها مع انضمام البطريرك صفير إليه ومعه "لقاء قرنة شهوان" الذي تتمثل فيه قوى المعارضة المسيحية، وأبرزها "القوات اللبنانية"، ولكن هذه السلطة لم تكن قادرة على منعه.

الانقلاب على المصالحة

كانت أبرز محطتين في جولة البطريرك في دير القمر في القداس الذي حضره رئيس الجمهورية إميل لحود الذي واجهته هتافات معارضة عند وصوله إلى الكنيسة، أما المحطة الثانية فكانت في قصر آل جنبلاط في المختارة، حيث كان لقاء البطريرك مع وليد جنبلاط إيذاناً ببدء مرحلة جديدة في لبنان. في آخر محطة من جولة البطريرك في طريق عودته إلى بكركي في بلدة الكحالة في قضاء عاليه (جبل لبنان)، أطلقت الحشود الشعبية التي كانت تستقبله هتافات ضد النظام السوري وضد رئيس الجمهورية إميل لحود. لم تسكت السلطة اللبنانية على هذا الحدث واعتبرت أنه انقلاب يتم تنفيذه على مراحل بين وليد جنبلاط ورفيق الحريري والبطريرك صفير و"القوات اللبنانية"، فاختارت أن ترد. في السابع من أغسطس، نفذت عملية اعتقالات واسعة شملت قياديين من "القوات اللبنانية" و"التيار الوطني الحر" المؤيد للعماد ميشال عون، ولكن الملف الأمني الكبير تم فتحه ضد "القوات اللبنانية" باتهام بعض من تم القبض عليهم بأنهم يتعاملون مع إسرائيل ويحضرون للفتنة وللانقلاب.

كان الهدف من هذه العملية تطويق "القوات اللبنانية"، وشل حركة السيدة جعجع، وتكرار ما حصل مع القوات في عام 1994، عندما اعتبرت أنها قضت على هذا التنظيم الذي كان عسكرياً في الحرب، وتفاجأت بعد سبعة أعوام أنه لا يزال ناشطاً وأنه على الرغم من سجن قائده سمير جعجع استطاعت زوجته ستريدا أن تقوم بمهمة استنهاضه وإعادة تنظيمه. هذا التنظيم الذي ظهر في انتخابات البلديات في عام 1998، تكرر في مصالحة الجبل في عام 2001، ولذلك كان المطلوب تهديد ستريدا جعجع بأن مصيرها يمكن أن يكون مماثلاً لمصير زوجها، ولذلك انكفأت أمام الحملة كما انكفأ وليد جنبلاط.

بين الباروك و"يسوع الملك"

بعد تفجيرات "11 سبتمبر"، بعد شهر واحد على مصالحة الجبل، والهجمة الأميركية على المنطقة من أفغانستان إلى العراق، كان لا بد من إعادة الحسابات، عاد الحريري رئيساً للحكومة بعد انتخابات عام 2000، ولكن جنبلاط اختار الانكفاء حتى ما بعد احتلال القوات الأميركية العراق وسقوط نظام الرئيس صدام حسين، ووصول هذه القوات إلى الحدود السورية مع العراق في أبريل 2003.

في 26 نوفمبر2003، توفي رجل الدين الشيخ أبو حسن عارف حلاوي كبير مشايخ الطائفة الدرزية من بلدة الباروك في الشوف (جبل لبنان)، أراد وليد جنبلاط أن يكون له مأتم كبير وأراد أن يستعيد المسار الذي كان بدأه في عام 2000. يروي الدكتور فارس سعيد منسق "لقاء قرنة شهوان" أن جنبلاط اتصل به بعد عامين من انقطاع التواصل وطلب منه الاتصال بالسيدة ستريدا جعجع ودعوتها للمشاركة في المأتم الكبير. على رأس وفد حزبي كبير توجهت جعجع إلى الباروك، حيث كان لهم استقبال حار، كان المشهد كفيلاً بأن ثمة إشارة جديدة لمرحلة جديدة، هذه المرحلة تبلورت من خلال لقاء المعارضين للوصاية السورية على لبنان في فندق "البريستول" في بيروت.

تكررت اللقاءات ليطلق عليها "لقاء البريستول"، حاذر الرئيس رفيق الحريري في البداية الانضمام علناً إلى هذا اللقاء مفضلاً عدم الاصطدام بالنظام السوري، ولكن حركة المعارضة أخذت تتسع حتى سمح الحريري لمن يمثله بالمشاركة فيها من خلال الدكتور غطاس خوري والنائب باسم السبع وغيرهما. هذه الحركة نمت بسرعة خلال عام 2004. كان موعد استحقاق انتخاب رئيس للجمهورية اللبنانية في سبتمبر من ذلك العام، وكان النظام السوري المستند إلى قدرات "حزب الله" العسكرية يريد التمديد للرئيس إميل لحود، لكي يضمن استمرار سيطرته على لبنان وليواجه ما اعتبره انقلاباً معارضاً له. مع تسليط الأضواء الدولية على ما يحدث في لبنان، ونتيجة توافق بين الرئيسين الأميركي والفرنسي جورج دبليو بوش وجاك شيراك خلال لقائهما في 10 يونيو 2004 في "النورماندي"، أصدر مجلس الأمن الدولي في الثاني من سبتمبر القرار 1559 الذي نص على انتخاب رئيس جديد للجمهورية، وعلى سحب الجيش السوري من لبنان وتسليم سلاح "حزب الله" والميلشيات المسلحة إلى الجيش اللبناني.

لم يُقدر النظام السوري و"حزب الله" مدى جدية هذا القرار وحاولوا تجاوزه واعتبار كأنه لم يصدر، واتهموا الرئيس رفيق الحريري ووليد جنبلاط والبطريرك صفير و"القوات اللبنانية" والمعارضة المسيحية بأنهم كانوا وراءه. في الرابع من سبتمبر، مدد مجلس النواب للرئيس إميل لحود. في أول أكتوبر جرت محاولة اغتيال الوزير مروان حماده القريب من جنبلاط والحريري، ولكنه نجا بأعجوبة، هذه العملية أعطت صورة واضحة عما يخطط له "حزب الله" والنظام السوري. ولكن المواجهة استمرت، وبدل أن يخاف جنبلاط والحريري و"القوات" والبطريرك صفير وسائر القوى المعارضة، اندفعوا أكثر في التحدي.

كانت ستريدا جعجع تعمل على توقيع عريضة نيابية تطلب إصدار عفو خاص عن زوجها سمير جعجع، من منزل في محلة "يسوع الملك" عند ساحل كسروان (جبل لبنان)، حيث يقوم دير كبير كانت تقصده للصلاة وأدارت معركة استعادة السيادة وبقاء "القوات اللبنانية" قوية وناشطة. عندما أجبرتها القوى الأمنية الخاضعة للسلطة السورية على ترك منزلها في غدراس في كسروان، حيث كان أيضاً مقر حزب "القوات"، اتخذت من ذلك المنزل مقراً لها. على الرغم من أن القوى الأمنية حاصرت المنزل بحواجز عسكرية كانت تخضع جميع الداخلين إليه والخارجين منه للتفتيش الدقيق وتعتقل كل من تشتبه فيه، استطاعت تلك السيدة بما توفر لها من إرادة ومن مساعدين مخلصين أن تستمر في المهمة التي ألقيت على عاتقها، بينما اعتبر كثيرون أنه كان يمكنها أن تغادر لبنان بعد اعتقال زوجها، وأنها غير مؤهلة لمثل هذا الدور، وأن حزب "القوات" سينتهي بعد اعتقال سمير جعجع. ولكنها من خلال تواصلها معه في السجن في وزارة الدفاع خلال زياراتها الدورية له ومقابلاتهما من وراء الزجاج العازل، استطاعت أن تؤسس لنفسها مجالاً حيوياً للحركة، وعلى الرغم من أن دوريات من أجهزة الأمن كانت تلاحقها وتحصي عليها أنفاسها، إلا أنها كانت تتمكن من الخروج والتهرب من الملاحقة اللصيقة بعض الأحيان. أكثر من كانت تقصدهم كان البطريرك صفير الذي تبنى قضية براءة "القوات" وسمير جعجع، وشن حملات دائمة على السلطة اللبنانية والنظام السوري الذي يدعمها.

في أواخر عام 2004، تبلورت تحركات المعارضة أكثر، واُبعد رفيق الحريري من رئاسة الحكومة، وشُكلت حكومة مؤيدة بالكامل للنظام السوري و"حزب الله". وافق وليد جنبلاط ورفيق الحريري على توقيع العريضة النيابية التي تطالب بالعفو عن سمير جعجع، كان التجرؤ على اتخاذ هذه الخطوة يعني العداء الكامل مع النظام السوري. أرسل جنبلاط النائب أكرم شهيب ليوقع باسمه واسم نواب حزبه، ثم أرسل الرئيس رفيق الحريري النائب باسم السبع والدكتور غطاس خوري للغاية نفسها. ولكن الأمور لم تقف عند هذا الحد، سألت ستريدا جعجع الدكتور فارس سعيد إذا كان يمكن أن يزورها وليد جنبلاط في منزل "يسوع الملك"، لم يتردد جنبلاط في الموافقة، في الطريق إلى "يسوع الملك" جرى اتصال بين سعيد والرئيس رفيق الحريري أبلغه فيه سعيد أنه وجنبلاط في الطريق لزيارة ستريدا جعجع، استهاب الحريري الحدث، وأبلغه بأن النظام السوري سيقتلهما، وصل جنبلاط وسعيد إلى "يسوع الملك"، وكان الاستقبال كبيراً بموازاة الاستقبال الذي حصل للسيدة جعجع في الباروك.

قبل نهاية عام 2004 بين عيدي الميلاد ورأس السنة، كان الرئيس رفيق الحريري يجري اتصالات معايدة، كان معه رئيس تحرير صحيفة "المستقبل" التابعة له نصير الأسعد، فسأله لماذا لا يتصل بالسيدة جعجع، لم يمانع الرئيس الحريري، حصل الاتصال بين الأسعد وستريدا، أعطى الأسعد الهاتف للرئيس الحريري فتحدث معها متمنياً أن يكون الدكتور جعجع معهم في العام المقبل، وكان يعرف أن خط الهاتف مراقب، وأنه سيتم تسجيل هذا الاتصال، ولكن لم يكن من الممكن التراجع.

اغتيال الحريري والانتفاضة

عندما تم اغتيال الرئيس رفيق الحريري في "14 فبراير (شباط)" 2005 التقى فارس سعيد ووليد جنبلاط أمام مستشفى الجامعة الأميركية في بيروت، حيث تم التعرف إلى جثة رئيس وزراء لبنان، اتفق الرجلان على أن يتوجه جنبلاط إلى قصر الحريري في قريطم، وأن يذهب سعيد إلى بكركي للقاء البطريرك صفير. من بكركي نعى سعيد باسم البطريرك "الشهيد رفيق الحريري" على أساس أنه شهيد لبنان كله. أرسل البطريرك صفير مطران بيروت للموارنة بولس مطر إلى قصر قريطم للوقوف إلى جانب العائلة، والتقت هناك قيادات المعارضة، ومن بينها ستريدا جعجع، حيث صدر البيان الذي اتهم النظام السوري والسلطة الحاكمة باسمه في لبنان بعملية الاغتيال.

هذا المشهد الجامع أسس لانتفاضة "14 آذار" التي كانت الأساس في قرار خروج الجيش السوري من لبنان، بعدما فاقت بأهميتها وحشدها مشهد حلفاء سوريا في الثامن من مارس، الذين كانوا يريدون، من خلال هذا الحشد الذي خطب فيه الأمين العام لـ "حزب الله" حسن نصرالله، الحؤول دون تنفيذ القرار 1559 وخروج الجيش السوري. ذلك الإنجاز كان تتويجاً لمسيرة التلاقي بين البطريرك صفير والمعارضة المسيحية و"القوات اللبنانية" وستريدا جعجع ووليد جنبلاط ورفيق الحريري.

هذا التعاون الذي استمر بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري أدى إلى فوز المعارضة بالأكثرية النيابية في الانتخابات التي حصلت ذلك العام، وفازت فيها ستريدا جعجع بأحد المقاعد النيابية عن منطقة بشري مسقط رأسها. تأسيساً على تلك النتائج، خرج سمير جعجع من السجن في 26 يوليو (تموز)، وعاد العماد ميشال عون من باريس في السابع من مايو، ولكنه كان قد قطع مسافة طويلة في تأمين عودته بالتنسيق مع النظام السوري لينتقل بعدها في 6 فبراير 2006 للتحالف مع "حزب الله". هذا التحالف الذي كان أحد الأسباب التي أوصلت لبنان إلى مرحلة الانهيار التي يمر بها اليوم.

المزيد من تحقيقات ومطولات