Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

الحرائق تلتهم عكار وتفتح النار على الدولة اللبنانية

قضت على مساحات واسعة من الغابات وأعادت الحديث عن مدى جهوزية البلاد لمواجهة الكوارث

ساعات قليلة كانت كافية لتغيير وجه عكار اللبنانية الأخضر، وإلباسها ثوب الرماد. فخلال يومين، امتدت الحرائق لتلتهم أحراج القبيات، وعندقت، وعودين، وكفرتون، والرويمة، وأكروم، وبزال، وصولاً إلى الهرمل والأراضي السورية. أثقلت النيران الأنفاس، وطوّقت المنازل التي اضطر الأهالي إلى هجرها من أجل إنقاذ حياتهم. ففي تلك المناطق الواقعة على أطراف لبنان، عايش الأهالي "الكابوس" على حقيقته، ألسنة اللهب جاءت على كل ما في طريقها. 

لم تقوَ الدولة اللبنانية وحيدة على مواجهة الكارثة الجديدة في منطقة تقع على بعد 140 كم شمال العاصمة بيروت، فجاء الأهالي بأدواتهم وأجسادهم العارية لوقف امتداد اللهيب. فقد شاركت طائرات الجيش اللبناني، وتلك الروسية والقبرصية والسورية في إخماد الحرائق في جرود أكروم. وما إن تتمكن الجهود من حصر الحرائق في مكان، إلا وتتجدد وتتسع في زوايا أخرى. 

دفعت عكار خسائر كبيرة، وفي مقدمتها حياة أحد الأطفال أثناء مشاركته في مقاومة اللهب، إذ توفي "أمين ملحم" البالغ من العمر 14 سنة، إثر سقوطه على رأسه خلال مشاركته في إخماد النيران في بلدة كفرتون. في المقابل، بدأ الحديث عن "حرائق مفتعلة" عشية فصل الشتاء، ومن غير المستبعد عبث البعض بغابات عكار من أجل الحصول على الحطب بديلاً عن غلاء المازوت وانقطاعه. 

التطوع في المقدمة

اندفع المتطوعون إلى الميدان للمشاركة في إخماد الحرائق، وجاؤوا من كل المناطق العكارية واللبنانية، كما شاركت مجموعات من اللاجئين السوريين والفلسطينيين في عمليات الإنقاذ. يتحدث عبد القادر عبد المجيد، أحد المتطوعين في فريق "المستجيب الأول"، الذي أسهم في إطفاء حريق بزال الذي أُخمد بالكامل، حين عاشت المنطقة لحظات عصيبة. ويشدد على أهمية الدور الذي يلعبه المتطوعون، فالفريق المؤلف من نحو 22 عنصراً من اللبنانيين والسوريين، حظي بتدريب لمواجهة الكوارث وأعمال الإطفاء تحت إدارة اتحاد جرد القيطع، ووضع خبراته في خدمة الأهالي. انقسم الشبان بين منطقتي بزال والقبيات، وشاركوا بأعمال الإطفاء جنباً إلى جنب مع عناصر الدفاع المدني والإطفاء، وكذلك أبناء المنطقة. 

كما وصلت إلى المحافظة سيارات الإطفاء من محافظات الشمال وجبل لبنان وبيروت والبقاع. وواجهت الأعمال صعوبة كبيرة لأن النيران المندلعة بعيدة عن الطرقات المعبدة، وفي قلب الأحراج والجبال الكثيفة. وأسهم الاستخدام المتأخر للطيران، وعدم توافر برك المياه الصناعية إلى اتساع رقعة النيران، مدفوعةً برياح قوية. 

 

غياب التجهيزات

تتبعنا توافر التجهيزات اللوجستية في المناطق المحترقة، وكان السؤال لرؤساء البلديات في القبيات وعندقت وأكروم، متمحوراً حول توافر التجهيزات لمواجهة وتطويق الحرائق. اجتمعت الإجابات على عدم توافر التجهيزات الكافية لعمليات الإطفاء ومواجهة الكوارث. أكد رئيس بلدية أكروم، جمال سعد الدين، أن الأوضاع في أعالي جرود أكروم حرجة، لافتاً إلى عدم إمكانية بلوغ تلك النقاط إلا من خلال الطوافة. ويكشف عن أنه "لم يكن لدينا إلا إطفائية واحدة ومعطلة". أمام غياب التجهيزات اللوجستية، هبّت القرى العكارية للمساعدة، يلفت سعد الدين إلى أن "الأفراد لم يكونوا مجهزين ضد الحرائق"، ومشيراً إلى أن تتبع أصل الحريق في القبيات من شأنه الكشف عن سبب الحريق، وإذا ما كان مفتعلاً. 

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

من جهته، يبشر عبده مخول، رئيس بلدية القبيات، بقرب تطويق الحريق في القبيات وعندقت، الذي امتد على مساحة ثمانية كيلومترات، وبلغ أكروم، والرويمة، والحدود السورية، متخوفاً من عودة الحرائق إلى الاتساع بفعل طبيعة المنطقة الحرجية، وسرعة الرياح، والحرارة المرتفعة. خسرت القبيات أحراج عذراء التي تعود أعمارها إلى مئات السنين. ومن الناحية التقنية، يوضح عبده مخول أن "هناك عدداً وافراً من إطفائيات الدفاع المدني، إلا أن أكثريتها تعطل أثناء عمليات الإطفاء بسبب قدم عهدها وعدم قدرة لبنان على إصلاحها". كما يكشف عن "تأمين البلديات مادة المحروقات لعربات الإطفاء بسبب عدم قدرة الدولة على ذلك"، كما يشدد على قلة العناصر المؤهلة لمكافحة الحرائق، كما أن 98 في المئة من عناصر الدفاع المدني في المنطقة هم من المتطوعين وليسوا بموظفين. 

ولا يستبعد مخول أن تكون الحرائق مفتعلة، لأن الحرائق اندلعت في مناطق متباعدة جغرافياً ولا تشكل أحياناً امتداداً لحرائق أخرى، كما أنها تأتي في وقت واحد. ويتهم مخول مجهولين بمحاولة حرق المنطقة بالكامل، مضيفاً "في السنين الماضية كانت تحدث حرائق، ولكنها لم تكن على هذا النطاق الواسع". ويتحدث عن "هدف إجرامي" من وراء الحرائق، مناشداً الدولة الالتفات إلى الطبيعة في عكار وعدم تركها "محافظة على الورق وليست بمحافظة فعلية". 

خسارة كبيرة

قضى الحريق في عكار على مساحات واسعة من الصنوبر عند أطراف منطقة مرغام، وأطراف وادي عودين في عندقت، وصولاً إلى غابات السنديان في جبل أكروم. يقدم رئيس مجلس البيئة في عكار، أنطوان ضاهر، تشخيصاً قاتماً للمستقبل البيئي والسياحي في المنطقة في أعقاب الحرائق المستمرة، متحدثاً عن "أكبر كارثة بيئية يواجهها لبنان لأنها حلّت بغابات ضخمة". فمن الناحية البيئية، تسببت هذه الحرائق في ضرب التوازن والتنوع البيئي الإيكولوجي بسبب احتراق عدد هائل من الأشجار، ويحتاج إلى فترة طويلة لاستعادة التوازن، متوقعاً حدوث خلل مناخي كبير لأن "الشجر يلعب دوراً كبيراً في تلطيف المناخ". كما يأخذ الخلل شكلاً جديداً لناحية انقراض مجموعة من الحيوانات بسبب الحريق، الأمر الذي سيفتح الباب أمام سيطرة مجموعات حيوانية على أخرى "لذلك يمكن أن يزداد البعوض بسبب تراجع الطيور التي تلتهمه". 

تزداد الأمور صعوبة مع الحديث عن فقدان "مولّد كبير للأكسجين في المنطقة"، ناهيك بالآثار الاقتصادية بسبب اعتماد المحافظة على السياحة البيئية، وهو أمر سيعاني بسببه الاقتصاد المحلي، وسيلحق كوارث كبيرة، وخسائر بالمزروعات في وادي عودين وأكروم. كما يتحدث أنطوان ضاهر عن أثر سلبي كبير سيطال وجدان ونفسية المواطنين الذين كانوا يجدون في هذه الجرود متنفساً ومهرباً من ضوضاء وفوضى المدينة. 

لبنان بلا إدارة كوارث

جاءت حرائق عكار لتفضح واقع الدولة اللبنانية، كما فتحت الباب مجدداً للحديث عن مدى جهوزية البلاد لمواجهة الكوارث، بعد أن فشلت في مواجهة آثار تفجير مرفأ بيروت في 4 أغسطس (آب) 2020، والحرائق التي سبقتها بعام والتهمت مساحات واسعة من مناطق الشوف وجبل لبنان، وقبلها كارثة تحطم الطائرة الإثيوبية. ووجدت الدولة اللبنانية نفسها محاصرة بحرائق الأحراج على نطاق واسع، فيما أكدت رئاسة الحكومة إجراء رئيس حكومة تصريف الأعمال، حسان دياب، اتصالات تنسيقية بين الأجهزة المدنية والعسكرية، وكذلك الحال بالنسبة إلى رئيس الحكومة المكلّف نجيب ميقاتي، الذي تابع عمليات إخماد الحرائق في المنطقة. كما لفت الأمين العام للهيئة العليا للإغاثة، محمد خير، إلى إشرافه ميدانياً على عمليات إخماد الحرائق في القبيات وصولاً إلى جرود الهرمل بتوجيهات من دياب، كما أكد تواصله مع السلطات القبرصية من أجل إرسال طوافات، وجهدت طوافات الجيش اللبناني في المساعدة على إنقاذ ما تبقى من ثروة جرحية وحماية الأهالي والمنازل والممتلكات. 

أعاد إرباك الدولة اللبنانية إلى ساحة البحث "إشكالية قدرة الدولة اللبنانية على مواجهة الأزمات"، المتخصص في إدارة الأزمات، كارلوس نفاع، يصنّف الأزمات إلى متوقعة وغير متوقعة، واضعاً الحرائق الموسمية في عكار ضمن دائرة التوقع بسبب تكرارها كل عام، بالإضافة إلى السيول والانجرافات التي تحدث في منطقة رأس بعلبك والقاع. وتعتبر الكوارث غير متوقعة في حال "عدم توافر معطيات علمية تؤمن إمكانية توقعها كالكوارث الضخمة والأوبئة". وعليه فإنه من غير المبرر فشل الدولة في التعاطي مع هذه الأزمات منذ التسعينيات وحتى اللحظة بسبب عدم تفعيل جهاز معالجة الأزمات والكوارث المتوقعة. وبالتالي فإن غياب غرفة إدارة الكوارث الوطنية يؤدي إلى قيام كل جهاز من أجهزة الدولة بالعمل على حدة من دون تنسيق في ما بينها، وتستمر إدارة الأزمات رهينة التفرد وردود الفعل.

يعتقد نفّاع أن "أكبر جريمة هي عدم توافر طائرات لإخماد الحرائق في لبنان"، مسلطاً الضوء على "بيع الدولة طائرتي سيكورسكي اللتين تأمنتا بهبات من الجمعيات، وذلك منذ قرابة العامين، بحجة عدم القدرة على الصيانة وتأمين قطع الغيار"، في المقابل، فإن المروحيات التي يضطر الجيش إلى استخدامها غير مخصصة لإطفاء الحرائق. ويناشد نفاع قيادة الجيش إنشاء غرفة عمليات لإدارة القوى المتطوعة، والدفاع المدني، والإطفاء على الأرض، من أجل الحد من الفوضى على الأرض، وتبعثر الجهود.

ويتهم نفاع القضاء بالتلكؤ، لأن أكثرية "الحرائق مفتعلة بهدف توسعة الأراضي في المناطق غير الممسوحة"، بالإضافة إلى "أصحاب المشاريع الكبرى الذين يحاولون إزاحة الأحراج من مسارهم"، بالإضافة إلى "جماعة تريد الاستفادة من الحطب تحت ذريعة غلاء المازوت، ولا يتوقف الأمر على جرود عكار وإنما يمتد إلى سهل عكار، حيث تُقطع أشجار الكينا والأشجار المثمرة لبيعها حطباً، دونما مراقبة من القوى الأمنية". بالإضافة إلى ذلك "توجد مافيا الكسارات التي تعمل في جرود القبيات، وأكروم، والرويمة، وتعمل بطاقة 700 شاحنة، وقد أدت إلى اختفاء بعض الجبال عن أرض الواقع، وتحديداً جبل جوار الحشيش، الذي لم يعد موجوداً إلا على خارطة دائرة الشؤون الجغرافية في الجيش اللبناني". كما يتحدث نفّاع عن دور يلعبه نواب عكار في نشر الفوضى، لأنهم "يُخرجون مفتعلي الحرائق ضمن مصالحات من أجل حصد أصواتهم خلال الانتخابات النيابية". 
 
أمام هذا الواقع، تثير هذه الحرائق شبهة "افتعال الجرائم من أجل حصد الغنائم"، لذلك يتضح أهمية إقرار تشريعات قانونية تمنع منح رخص بناء، أو إقامة مشاريع في نطاق المناطق التي تتعرض للحريق، بالإضافة إلى إقفال الكسارات. وبحسب كارلوس نفاع فإن "الخطوات القانونية، تقطع الطريق أمام من أحرق لأجل أن يستفيد". 

اقرأ المزيد

المزيد من تقارير