Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

الجزائر والسودان: التنوع هو الأصل و"الواحدية" مسخ ثقافي

لا يمكن للتعدد أن يتأكد كوجود سياسي وديني وثقافي وإثني إلا بتوافر الديمقراطية

إنّ طغيان وهيمنة الثقافة العسكرتارية الدينية على مفاصل السودان هو ما أوصله إلى عتبات التفكك (أ ف ب)

مع زحف التكنولوجيا الحداثية والمعقدة وتواصل العالم الغربي افتراضياً وواقعياً، واختلاط وتقاطع الثقافات واللغات والجغرافيات، يزداد تقوقع وانحسار العالم العربي والمغاربي والإسلامي بشكل عام، ومعه يزداد الخوف من الآخر، ومع الخوف تنمو ثقافة الكراهية والعداء لكل ما هو متنوع ومتعدد ومختلف، وأمام هذا فقد بدأ العالم العربي يدخل مرحلة تفريغ وإفراغ من كل الأطياف التي تشكله، والاحتفاظ بلون واحد فقط، فقد غادر مسيحيو الشرق البلاد العربية وشمال أفريقيا عبر موجات مختلفة ولأسباب مختلفة، ثم غادرها اليهود لأسباب أخرى، ثم لحقت بهم بقية الطوائف، ثم حوصرت أو اختفت اللغات التي كانت تُتكلم، مثل الأمازيغية والكوردية والأرمنية والآرامية والفرنسية والإسبانية، ولم يعد في هذا العالم سوى ثقافة واحدة متشبثة بالماضي الديني الواحدي، وجفت الحياة في هذا العالم الذي كان متنوعاً، واتسعت دائرة الخوف من الآخر.

ثلاثة عوامل تهدد الحياة على هذه الأرض، الارتفاع الحراري المؤدي إلى اختناق الأرض، والأوبئة الناتجة من الفيروسات المخبرية، والتيار الإسلاموي الداعي إلى الواحدية والتنميطية La standardisation الثقافية والدينية واللغوية.

إن تجربة السودان، البلد الغني بواقعه المتنوع بشرياً وطبيعياً، والذي أصبح يشحذ على أبواب أوروبا ويستجدي محو ديونه، هو نتاج سياسة الخوف من التنوع ومحاربته باسم الدين السياسي المتطرف.

لقد قضت "الشريعة" الإخوانية على التنوع في السودان، بلد الثراء والحلم الأفريقي المشرقي والإنساني، بلد عبدالخالق محجوب ومحمود محمد طه والطيب صالح ومحمد الفيتوري وأمير تاج السر وبركة ساكن وطارق الطيب وغيرهم، هذا البلد الذي كان بحجم قارة تتعايش فوقه وتحت سمائه الديانات واللغات والثقافات والزراعات المتنوعة بكل انسجام وتنافس إيجابي، إلى أن جاءت "شريعة" الإخوان المسلمين فقضت على الأخضر واليابس.

كلما كان السودان يسقط في فم أيديولوجيا الإخوان المسلمين كان يغرق في الفتن والحروب باغتياله التنوع و"العيش المشترك"، وكلما ابتعد من تنوعه ودخل في نفق الواحدية الدينية والإثنية والثقافية واللغوية كان يمشي نحو التفكك والحروب الأهلية والفقر والتشرد.

إن طغيان وهيمنة الثقافة العسكرتارية الدينية على مفاصل الحياة، واعتمادها خطة محاربة التنوع وتجفيف التعددية، هو ما أوصل السودان الكبير إلى عتبات التفكك، حيث بدأ بانفصال الجنوب المسيحي عن الشمال، ولو لم تستدرك الثورة الأخيرة التي أنهت الحكم العسكري الإخواني بقيادة عمر البشير لعرف السودان تفككات إثنية وعقائدية أخرى، ولكن يبدو أن انتهاج العلمانية كفلسفة ورؤية للحكامة السياسية ولإدارة الشأن العام من قبل الثورة، وذلك بالدعوة لفصل الدين عن الدولة، هو ما أنقذ السودان من أخطار التفتت، وحفظ له ما تبقى من تنوع لم تجهز عليه أيديولوجيا الإخوان.

بكثير من الشجاعة السياسية أدرك السودانيون بعد المحنة التي ضربت بلادهم منذ حكم جعفر النميري وصولاً إلى حكم عمر البشير، بأن حل معضلة التخلف يكمن أساساً في تبني العلمانية كطريق سالك نحو الأمل والعيش المشترك، في ظل دولة المواطنة التي هي دولة القانون المدني الذي يعامل الفرد على أساس الحق والواجب لا على أساس العقيدة الدينية.

الجزائر: من تنوع في الثورة الجزائرية إلى واحدية في الاستقلال

كانت الثورة الجزائرية صورة حقيقية عن التنوع السياسي واللغوي والثقافي المثمر، فقد حمل المواطن في المستعمرة، بغض النظر عن دينه أو لغته أو جهته، السلاح ضد المستعمر الفرنسي، وعلى جبهة التحرير والحرب حضر جنباً إلى جنب المسلم والمسيحي واليهودي والشيوعي، ليسجلوا صورة مثلى للتنوع في زمن الحرب وفي مواجهة الموت، والتنوع لصناعة الاستقلال والحرية الفردية والجماعية، وقد حضروا باللغات جميعها، بالعربية والأمازيغية والفرنسية والعامية الجزائرية، وكان اختلافهم تفاهماً، لأن الدفاع عن حق المواطنة هو ما كان يجمعهم ويوحدهم في تنوعهم.

حين نقرأ مقتل كل من أحمد زبانا المسلم، وفرناند إيفتون اليهودي، وذلك بتنفيذ حكم الإعدام في حقهما من قبل الاستعمار، ليقطع رأساهما بذات المقصلة وفي السجن ذاته وبالتهمة نفسها، ونقرأ حكاية المقتل البطولي لموريس أودان وهنري مايو، ندرك بأن الوطن أكبر من الدين، وأن المواطنة قبل الإيمان، وأن المواطن قبل المؤمن، وأن طعم الحرية لا يختلف عند المسلم أو المسيحي أو اليهودي أو الشيوعي، وفي الثورة كان الجزائري من أصول أمازيغية أو عربية أو أوروبية يقف جنباً إلى جنب من أجل استقلال الجزائر بعيداً من الحسابات العرقية، وكانت الساحة الثقافية والإبداعية تعكس هذا التنوع المقاوم بالجمال واللغات والرؤى، فوجود كاتب ياسين ومحمد ديب وآسيا جبار وهنري عليق ومالك حداد ومريم بان وأنّا غريكي وبشير حاج علي ومولود معمري ومولود فرعون ونبيل فارس ومالك واري وجون عمروش، وغيرهم من الكتاب باللغة الفرنسية، إلى جانب كتاب وفنانين بالأمازيغية من أمثال السي محند أومحند وسليمان عازم وطاوس عمروش وبلعيد أيث أعلي وغيرهم، إلى جانب كتّاب العربية، أحمد رضا حوحو ومفدي زكريا والطاهر وطار وزدور إبراهيم وعبدالحميد بن هدوقة، جميع هؤلاء على اختلاف حساسياتهم السياسية والأيديولوجية والجمالية واللغوية، كانوا يؤمنون بالتنوع الثقافي والإبداعي واللغوي، وأن الجزائر لا يمكن تحريرها إلا من خلال هذا التنوع، ولا يمكنها أن تنجح في بناء نموذج دولة جديدة مستقلة وحداثية إلا في ظل هذا التنوع ومن خلاله.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

لكن ومع مجيء الاستقلال تأسست الدولة الوطنية على رؤية سياسية واحدية، بحزب واحد ولغة واحدة ودين واحد، وبذلك تراجع التنوع، وأمام هذا الوضع، وبدلاً من أن يكون الصراع موجهاً ضد التخلف وفي اتجاه تأسيس الدولة المعاصرة، دولة المواطنة واحترام التنوع الذي طبع الثورة التي تولّد عنها الاستقلال، تحول هذا الصراع إلى معركة بين إخوة الأمس، وبدأت النعرات تظهر في شكلها الأيديولوجي والتربوي واللغوي والإثني والثقافي والديني، ومعها بدأ التأسيس للقمع الوطني حتى قبل أن ينسى المواطن فداحة القمع الاستعماري، وكان المد العروبي مسنوداً بالمدّ الإخواني الذي زحف على الجزائر منذ سنواتها الأولى للاستقلال، أحد العوامل التي فرملت مسيرة التنوع في الجزائر المستقلة.

تشكلت بنية المخيال الجزائري المقاوم للاستعمار الفرنسي، على الرغم من القمع المنظم، على ثقافة قبول التنوع الاجتماعي والديني واللغوي، ولفترة عشرية وأكثر من الاستقلال الوطني، وقبل أن تبدأ المدرسة الجزائرية التي هيمن عليها الإخوان المسلمون القادمون من المشرق تحت شعار "العروبة والإسلام" في مسخ هذا التنوع، كان المجتمع الجزائري، خصوصاً الجيل الذي تأسس في الحركة الوطنية الجزائرية بكل تنوعها، وكذا الجيل الذي تربى على قيم هذا الأخير، لا يزال يحافظ على هذا القبول للتنوع.

ولعل الحكاية التالية التي سأروي لكم والتي تعود إلى ثمانينيات القرن الماضي، أي أبعد بأقل من عشريتين على استقلال الجزائر، تؤكد هذا الذي نذهب إليه. "كانت السيدة إيفيت بكري التي عرفت بابنة حي القصبة، أعرق حي في مدينة الجزائر، وإيفيت بكري يهودية جزائرية رفضت مغادرة بلدها الذي ولدت فيه، وفيه ولد وكبر ودفن أجدادها، كانت السيدة إيفيت موظفة بالشركة الوطنية للكهرباء والغاز كمساعدة اجتماعية، وقد كرست حياتها المهنية كلها لخدمة العمال البسطاء، وكانت صوتهم الصادق في الدفاع عن حقوقهم الاجتماعية، وقد عرفت بسلوكها الوطني المثالي، وحين توفيت السيدة إيفيت في الثمانينيات، وتقرر دفنها في مقبرة اليهود بحي بولوغين (سانت أوجين) بالعاصمة، وقد حضر الجنازة جمع غفير من عمال شركة الكهرباء والغاز (سونيلغاز) من زملائها في العمل، الذين رافقوا جثمانها حتى المقبرة، وحين جاءت ساعة الصلاة عليها، لم يجد الحاخام المشرف على الصلاة إلا خمسة من اليهود، ويبدو أن الأعراف تتطلب حضور 10 من اليهود على الأقل كي تقام الصلاة على الميت، وأمام هذا العدد غير الكافي شعر بالحيرة، وفي الحين تقدم خمسة من المسلمين الجزائريين، والتحقوا بصف اليهود من حوله حتى تجوز الصلاة، ومن الحضور ارتفع صوت قائلاً، إذا كان الخمسة غير كافين، فاعتبرنا جميعا يهوداً وأقم الصلاة تحية للمواطنة الجزائرية إيفيت بكري."

هذه الحكاية على بساطتها تعكس زمناً آخر تميز بقبول التنوع وتغليب المواطنة على القيم الأخرى، أما الآن فقد اختفى هذا الزمن وهذا الجيل الذي سعى إلى الدفاع عن "الاستقلال" الذي تظل الحرية فيه منقوصة إذا لم تشمل حرية المعتقد وحرية اللغة وحرية السلوك الفردي، مع احترام وحدة الوطن الذي لن يكون قوياً وموحداً إلا بهذا التنوع.

إن التنوع الذي هو الأصل في الحياة، لا يمكنه أن يتأكد كوجود سياسي وديني وثقافي وإثني إلا بتوفر الديمقراطية المؤسسة على ثقافة عميقة، ومدرسة تعلّم قيماً جمهورية مدنية.

اقرأ المزيد

المزيد من آراء