تزور السودان هذه الأيام المدعية العامة للمحكمة الجنائية الدولية فاتو بنسودا لمدة أسبوع، في إطار مساعيها مع المسؤولين السودانيين لتسليم المطلوبين من قبل المحكمة بجرائم الحرب وجرائم ضد الإنسانية ارتكبت بحق المدنيين خلال الحرب الأهلية، التي اندلعت في إقليم دارفور عام 2003، وراح ضحيتها نحو 300 ألف شخص، فضلاً عن تشريد أكثر من مليوني فرد.
فهل ستنجح بنسودا في حسم هذا الملف وإقناع الخرطوم بتسليم المتورطين، أم ستواجه عقبات ومناورات تحول دون إكمال مهمتها في هذه الزيارة؟
يؤكد الأمين السياسي في حركة العدل والمساواة السودانية سليمان صندل، في حديثه لـ "اندبندنت عربية"، أن "موقفهم كحركات مسلحة وقعت على اتفاق السلام مع الحكومة السودانية في جوبا مطلع اكتوبر (تشرين الأول) 2020، واضح بشأن تسليم الرئيس السابق عمر البشير وأعوانه إلى المحكمة الجنائية، حيث تحدث الاتفاق عن العدالة والمحكمة الجنائية، وتم الاتفاق بأن تسهل وتساعد السلطات المسؤولة في البلاد في عملية تسليم المطلوبين الحاليين والمحتملين إلى المحكمة الجنائية من دون قيد وشرط، وفقاً لما تضمنه اتفاق السلام والوثيقة الدستورية".
ويرى صندل أن تأخير قضية العدالة على كل المستويات دولياً ومحلياً، سواء ما يتعلق بالمحكمة الجنائية أو إنشاء محاكم ونيابات جرائم دارفور، غير مبرر، مشدداً على أنه "لا مساومة في امتثال جميع المتهمين بالجرائم والانتهاكات المثبتة للعدالة، وموقفنا وطلبُنا سيظل قائماً، ونسعى للمساعدة إذا ما أرادت أي جهة من الجهات المختصة عرقلة هذه الجهود، التي تعد مخالفة دستورية غير سليمة".
محكمة مختلطة
في المقابل، يوضح عضو اللجنة السياسية في تجمع المحامين الديمقراطيين السودانيين محمود الشيخ، أن زيارة المدعية العامة للمحكمة الجنائية السودان هذه المرة، تأتي في إطار جهودها التي بدأتها العام الماضي لتسليم المطلوبين للمحكمة، منوهاً أنه واضح أن ثمة خلاف حول عملية التسليم، على الرغم من الاتفاق على المبدأ، لكن هل ستتم المحاكمة داخل السودان، أم لاهاي، أم في دولة مجاورة؟ هذه، هي الخيارات الأقرب حتى الآن.
وأكد الشيخ، أنه لا مفر للحكومة السودانية إلا تسليم المطلوبين، لأن هذا المطلب هو واحد من متطلبات المجتمع الدولي، وأنه لا سبيل لخروج البلاد من أزماتها المركبة إلا بالإيفاء بالتزاماتها الدولية، مستبعداً حدوث أي نوع من التسوية انطلاقاً من كون هذه القضية تمثل أهم الملفات المتعلقة بعودة السودان إلى العالم الخارجي، فهذا المطلب ضمن حزمة مطالب لا تنفصل عن بعضها بعضاً.
وبيّن عضو اللجنة السياسية في تجمع المحامين الديمقراطيين السودانيين، أن أفضل خيار لجميع الأطراف إقامة محكمة مختلطة داخل السودان، تتكون من قضاة منتدبين من المحكمة الجنائية وخبرات سودانية، فمثل هذه المحكمة تمكن أهل الضحايا من متابعة مداولاتها، كما تسهل عملية الحصول على المعلومات المطلوبة وسرعتها ودقتها لقربها من منطقة الجرائم التي ارتكبت، ومثول أكبر عدد من الشهود أمام المحكمة، فضلاً عن أن المتهم الأول (البشير) يواجه بلاغات في جرائم أخرى، ما يسهل سير إجراءات تلك المحاكم.
لقاء مناوي
وكان أول لقاء لبنسودا في الخرطوم مع الحاكم العام لدارفور، مني أركو ميناوي، ناقش سير ملف العدالة في انتهاكات حرب دارفور، وتسليم المطلوبين للمحكمة الجنائية، حيث دعا ميناوي إلى تسليم الرئيس السابق عمر البشير (1989-2019)، وجميع المتهمين بجرائم الحرب في الإقليم إلى المحكمة الجنائية الدولية، مطالباً السلطات القضائية في بلاده بالإسراع في تطبيق القانون على مرتكبي جرائم دارفور تحقيقاً لأهداف الثورة السودانية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
فيما أصدرت بنسودا بياناً صحافياً عقب اجتماعها مع مناوي. جاء فيه "أعبر عن امتناني لأهالي دارفور لمطالبتهم المستمرة بمحاكمة مرتكبي الجرائم، وأشكر كل من تعاون معنا ومع مكتبي في تحقيق العدالة، وسأغادر لكن فريقي سيكون حاضراً ويعمل على تطبيق العدالة وإنفاذ القانون".
زيارة دارفور
واستهلت بنسودا زيارتها، بإقليم دارفور، في ولاية شمال دارفور، حيث استمعت لبعض شهادات وأفادات من ممثلي معسكرات النازحين، الذين هجروا مناطقهم وقراهم بسبب الحرب الأهلية التي اندلعت في الإقليم منذ عام 2003. كما التقت بالوالي محمد الحسن عربي، الذي عبّر عن تطلعه لمثول المطلوبين للمحكمة الجنائية الدولية، تنفيذاً لاتفاقية السلام.
وزارت ولاية جنوب دارفور، والتقت والي الولاية موسى مهدي، الذي أكد استعداده لتسهيل مهمة المحققين في الوصول إلى الضحايا، وتقديم الدعم والتسهيلات للوصول لمرتكبي جرائم الحرب في دارفور وتقديمهم للعدالة. وأشارت بنسودا، إلى أن زيارتها لهذا الإقليم ظلت حلماً منذ 16 عاماً، وأن وصولها إلى دارفور يعد بمثابة الحلم الذي تحقق، موضحة أن زيارتها ستركز على الاستماع للحكومة، والضحايا، وليست بغرض التحقيق، حيث سيصل فريق المحققين إلى دارفور قريباً للاستماع والاطلاع على المعلومات والأدلة.
ودعت النازحين في المعسكرات المختلفة لمد المحققين بمعلومات وافية في ما يخص القضايا التي ارتكبت في دارفور، مؤكدة أن مثول المتهم علي كوشيب الذي سلم نفسه طوعاً يونيو (حزيران) 2020 في أفريقيا الوسطى، أمام المحكمة الجنائية الدولية لمحاكمته في الجرائم التي ارتكبت في دارفور لن يكون الأخير.
ولفتت المدعية العامة، أن المحكمة الجنائية الدولية ستستمر في مطالبة حكومة السودان بتسليم جميع من صدرت في حقهم أوامر قبض بشأن الجرائم التي ارتكبت في دارفور، مشيرة إلى التعاون الجيد بينها وبين الحكومة الانتقالية في البلاد، فيما أكدت عزم المحكمة على استمرار ذلك التعاون من أجل تحقيق العدالة.
تسليم المطلوبين
وتطالب المحكمة الجنائية الدولية، منذ سنوات، بمثول الرئيس السابق عمر البشير ووزير دفاعه عبد الرحيم محمد حسين ومساعده أحمد هارون، وذلك لمحاكمتهم بتهم تتعلق بارتكاب جرائم حرب وإبادة جماعية، لكن نظام البشير كان يرفض التعامل مع المحكمة بحجة أنها مسيسة وتستهدف دول العالم الثالث.
ويواجه البشير خمس تهم بارتكاب جرائم ضد الإنسانية وتهمتين بارتكاب جرائم حرب في المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي بشأن الحملة العسكرية السودانية في دارفور بين عامي 2003 و2008.
ويعد تسليم المتهمين للمحكمة الجنائية من بين بنود اتفاق السلام الذي وقع في جوبا، حيث تعد ورقة تمسك بها الحركات المسلحة في مواجهة تعثر تطبيق هذا الاتفاق، في حين يحظى هذا المطلب بدعم شعبي واسع في السودان، لأن تحقيقه قد يعوض أي فشل على مستوى إنجاز التنمية في الإقليم المضطرب وسط الصعوبات الاقتصادية التي يعاني منها السودان وعدم قدرة السلطة على الالتزام بتخصيص مبلغ 700 مليون دولار بشكل سنوي على مدار عشر سنوات.
فيما استبعد عضو هيئة الدفاع عن البشير محمد الحسن الأمين، في تصريحات صحافية تسليم البشير للمحكمة الجنائية الدولية، مشيراً إلى أن التحقيقات ستكشف عن متورطين كثر، وستطالب الجنائية بتسليمها متورطين آخرين بجرائم حرب في البلاد.
وفي الوقت نفسه علق عمر البشير على ما يتردد حول تسليمه للمحكمة الجنائية، بقوله، إنه لا يخشاها، وإنها أفضل له من "الظروف الحالية".