Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

كورونا والعولمة: تكبير الثقوب السود

ومن الصعب أن نرى نهاية للجائحة ومدى المتغيرات التي تحدثها في حياة الأفراد والدول

مرشح لرئاسة بلدية نيويورك يقيم احتفالاً لحرق الأقنعة الواقية من فيروس كورونا (أ ف ب)

العولمة "ذهبت بعيداً جداً" بحسب "الإيكونوميست" البريطانية، المتحمسة لها أصلاً. وجائحة كورونا كشفت المزيد من الثقوب السود فيها. والعولمة قديمة قدم الإمبراطوريات والغزوات العسكرية. حتى خارج الحروب والإمبراطوريات، فإن مدناً صغيرة مثل صيدا وصور وجبيل أيام الفينيقيين كانت سفنها تحمل بضائع إلى أماكن بعيدة جداً على ما كان معروفاً من خرائط العالم. وحين حدث اكتشاف أميركا، فإنه كان نوعاً من توسيع العولمة. وليس مشروع "الحزام والطريق" الصيني سوى استعادة لـ "طريق الحرير" القديم. لكن النسخة المتجددة للعولمة بدأت بعد انهيار جدار برلين ونهاية الحرب الباردة والاتحاد السوفياتي، وبداية النظريات حول "نهاية التاريخ" و"نهاية الجغرافيا". والنسخة الأوسع للعولمة هي التي وصلت فيها كورونا إلى كل أنحاء العالم بما تجاوز الطاعون والكوليرا والإنفلونزا الإسبانية التي بقيت محصورة في عدد من البلدان فقط. فما فعلته "عولمة الوباء" ليس فقط الخوف الذي تخطى الخوف من الحروب وهموم "عولمة الإرهاب"، بل أيضاً إحداث متغيرات هائلة في الحياة على مستوى الكون. وما كشفه سلوك الأنظمة والأفراد في مواجهة عدو غير مرئي هو مشهدان متناقضان: مشهد الأنانية في احتكار اللقاح والغلو في "قومية اللقاح" وفي "حرب اللقاح" والعودة إلى السياسات "القبلية" حتى في البلدان الديمقراطية ورمي موجبات الإنسانية والعولمة في سلة المهملات. ومشهد التضامن الإنساني بين الضحايا.

أبرز ثقب أسود كشفته الجائحة هو خطورة الاعتماد على "سلاسل الإمداد" الكونية. إذ أسهم إغلاق الحدود ومنع الطيران وتعطيل الملاحة في قناة السويس لأيام في نقص مواد حيوية وغذائية وطبية كانت تأتي بسهولة عبر سلاسل الإمداد. وهذا، في رأي "الإيكونوميست"، ما فرض ضرورة العودة الى"الاكتفاء الذاتي". فهناك دولة واحدة تسيطر على تصدير 180 منتجَاً، بحسب تقرير مؤسسة "ماكنزي". وشركة ضخمة مثل "فايزر" التي أنتجت أهم لقاح ضد "كوفيد-19" تعتمد على 500 مُورّد في بلدان عدة. فضلاً عن أن الاعتماد المفرط على سلاسل الإمداد الكونية "يشكل تهديداً عندما يصبح الجيوبوليتيك أكثر مواجهة". والثقب الأسود الذي بدا أوسع في ظل كورونا هو التنافس والصدام بين العولمة والدولة الوطنية، ثم تعميق الانقسامات السياسية والإتنية والاقتصادية والثقافية داخل الدولة الوطنية. ألم تهتز العلاقات بين البلدان الأعضاء في الاتحاد الأوروبي، إلى جانب الخلاف مع بريطانيا بعد بريكست؟ هل بقيت "الدولة-الأمة مظلة تحميك من المطر الشديد للعولمة النيوليبرالية" كما جاء في كتاب فينتان أوتول تحت عنوان "سياسة الألم: بريطانيا بعد الحرب وصعود الوطنية"؟ وماذا يعني في بلد مثل فرنسا أن يبعث عشرون جنرالاً ومئات الضباط والقضاة المتقاعدون مذكرة إلى الرئيس إيمانويل ماكرون عن خطر "تفكك الوطن" ونذير"حرب أهلية"؟

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

مفهوم أنه لا مهرب من العولمة على الرغم من كل شيء. ولا حل ناجحاً حتى اليوم لمعالجة ثقوبها السود. كانت أميركا حارسة العولمة وتركز الاعتراض في جبهة اليسار وفي صفوف الدول الصغيرة والفقيرة. والحجة أن العولمة تخدم الإمبريالية الأميركية وكبار الأثرياء وتزيد الفقراء فقراً والمحرومين حرماناً. كان رمز العولمة هو "منتدى الاقتصاد العالمي" في سويسرا، ورمز الرفض هو "منتدى الاقتصاد الاجتماعي" في البرازيل. وحتى في أميركا ونادي الدول الصناعية السبع، فإن قادة هذه البلدان اضطُروا للحديث عن "عولمة ذات وجه إنساني". لكن ذلك بقي شعاراً. ثم انعكست الآية. الصين صارت حارس العولمة. بدأ الصراخ ضد العولمة يرتفع في أميركا نفسها وخصوصاً في صفوف البيض في الطبقة العاملة والطبقة الوسطى. لماذا؟ لفقدان الوظائف بسبب لجوء الشركات الكبرى إلى الإنتاج في البلدان الفقيرة حيث كلفة العمال منخفضة. وهذا كان "الرأسمال" الذي لعب به رجل العقارات دونالد ترمب، بحيث وصل إلى البيت الأبيض وسياسة "أميركا أولاً" والحروب التجارية مع الصين وحتى مع حلفاء واشنطن. وليس أمراً قليل الدلالات أن يلتقي اليسار واليمين المحافظ المتشدد والعنصري على موقف واحد ضد العولمة. لكن التاريخ لا ينتهي. ومن الصعب أن نرى نهاية لجائحة كورونا ومدى المتغيرات التي تحدثها في حياة الأفراد والدول. البروفيسور كلاوس شواب مؤسس منتدى الاقتصاد العالمي رأى "فرصةً لإطلاق مسار جديد يساعد الرأسمالية المعولمة على تخطي أزماتها. ولدور أكبر للحكومات وتوجيه أكثر صرامة للاقتصاد والسلوك البشري". غريس بلايكلي في كتاب "كيف سيغير الوباء الرأسمالية" رأت "سقوط اقتصاد الشركات بيد الدول". جيمس ريكاردز في كتاب "الكساد الكبير الجديد" تحدث عن "انهيار المصارف تحت وطأة الديون". صندوق النقد الدولي دعا إلى "إصلاح الحوكمة". وما صار محل إجماع لدى الخبراء هو أن "كوفيد-19" أجبر العالم على فتح معركة لتحسين الحوكمة.

والوقائع تؤكد التوقعات: حرب اللقاحات تحجب البحث عن علاج للوباء. أكثر من ذلك، فإن أستاذ التاريخ نيال فيرغسون روى أن الفلكي البريطاني اللورد ريز تنبأ عام 2017 بوقوع "حدث إرهابي بيولوجي أو خطأ بيولوجي سيؤدي إلى موت مليون شخص خلال 6 أشهر تبدأ في موعد أقصاه 31 ديسمبر (كانون الأول) 2020". التنبؤ تحقق. الوباء قتل أكثر من مليون ولا يزال يقتل. والثقب الأسود الأكبر هو قلة الاستعداد للخطر وسوء إدارة الكوارث، سواء في الدول الديمقراطية أو في الدول السلطوية.

المزيد من تحلیل